شهدت غينيا يوم الأحد 5 سبتمبر 2021 انقلاباً عسكرياً نمطياً يعيد إلى الأذهان خبرة عسكرة السياسة الأفريقية في أعوام الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي. فقد قامت ثلة من الجيش بالتوجه إلى قصر الرئاسة واحتجزوا الرئيس ألفا عمر كوندي، ثم أعلنوا بعد ذلك في التليفزيون الرسمي حل الحكومة وتعطيل العمل بالدستور وإغلاق الحدود. وما أن آلت الأمور في يد الانقلابيين الجدد حتى سارعوا بتشكيل مجلس عسكري لإدارة الفترة الانتقالية في البلاد.
ذلك هو النمط المعهود والمتكرر، وكأن الجميع يقرأ من الكتاب المرجعي نفسه الذي يبين كيفية الاستيلاء على السلطة كرهاً في الواقع الأفريقي بالغ التعقيد والتشابك. ولعل تكرار الانقلابات في الواقع الأفريقي الراهن بعد عمليات التحول الديمقراطي منذ أوائل التسعينيات يُعيد الاعتبار للعمل الرائد الذي قدمته روث فيرست بعنوان "فوهة البندقية" في بداية السبعينيات، والذي فحص بعمق تدخلات الجيش في السياسة الأفريقية. إننا أمام نظرية عامة - لاتزال تحتفظ بكثير من المصداقية - عن السلطة والجيش وتفسير أسباب الانقلابات العسكرية.
في هذا السياق، يحاول هذا المقال مناقشة طبيعة الانقلاب ودوافعه وتداعياته على الواقع الجيوستراتيجي الهش في منطقة الغرب الأفريقي.
الانقلابيون الجدد:
قاد العقيد مامادي دومبويا الانقلاب المثير في دولة غينيا التي عانت عدم الاستقرار السياسي منذ عام 1984، وهو قائد مجموعة القوات الخاصة بالجيش.
لم يظهر دومبويا أمام الغينيين إلا في عام 2018 عندما شارك في استعراض عسكري في كوناكري للاحتفال بالذكرى الستين لاستقلال البلاد. وهو مثل الرئيس المخلوع كوندي من قبائل المالينكي من منطقة كانكان الحدودية، بالقرب من كوت ديفوار ومالي. وتم تعيينه مسؤولاً عن فريق قوات النخبة التي تم تشكيلها حديثاً - وكانت مهمتها الأساسية محاربة الإرهاب والقرصنة البحرية.
وبحسب بعض المصادر فقد بدأت مشاكل العقيد مع الحكومة عندما تم رفض منح قواته استقلالية عن وزارة الدفاع، وربما كانت هناك أسباب أخرى مهنية ترتبط بعزم الحكومة تخفيض المرتبات لهذه الفرقة. كما صرحت مصادر دبلوماسية أن انقلاب يوم الأحد ربما كان سببه قرار حكومة كوندي إقالة قائد كبير في القوات الخاصة، مما أثار تمرد بعض أفراد مجموعتها. والمثير للتعجب أن قوات النخبة أضحت سلاحاً ذا حدين، حيث استُخدمت أيضاً لقمع التظاهرات العامة. ويبدو أن الرئيس المخلوع أراد أداة أمنية تحت تصرفه للقيام بمهام قمعية محددة. لكن لسوء حظه، عندما أراد أن يضع يديه عليها، انقلبت ضده.
يعيد دومبويا، البالغ من العمر 41 عاماً، تجربة تمرد صغار الضباط واستيلائهم على السلطة بأجندات مختلفة، ابتداء من تجربة توماس سانكارا في بوركينا فاسو، وحتى الجنرال محمد إدريس ديبي في تشاد. ومن الجدير بالذكر أنه كان عضواً في الفيلق الأجنبي الفرنسي، حيث ترقى إلى رتبة عريف رئيسي قبل أن يتم استدعاؤه لقيادة القوات الخاصة، وهو خريج كلية الحرب في باريس، ولديه أكثر من 15 عاماً من الخبرة العسكرية تشمل البعثات إلى كوت ديفوار وجيبوتي وجمهورية أفريقيا الوسطى وأفغانستان وأماكن أخرى. دومبويا خبير في إدارة الدفاع والقيادة والاستراتيجية - وقد خضع أيضاً لتدريب متخصص من قبل الولايات المتحدة وفي إسرائيل والسنغال والغابون.
دوافع الانقلاب:
كيف وصلت غينيا إلى هذا المنعطف بعد أن اختارت طريقها الديموقراطي؟ إن الانقلاب يعد تتويجاً لأزمة تعيشها غينيا منذ ما يقرب من عامين، والتي لم يكن الرئيس المخلوع بمعزل عنها.
فمن المسلم به أن الجدل الذي ارتبط برغبة الرئيس ألفا كوندي في الحصول على فترة ولاية ثالثة قد وضعت غينيا في حالة من الغليان العام منذ بداية العام 2019، حيث تمسك الرئيس بهذه الفكرة بعزم لا يلين لدرجة أنه أصبح مهوسا بها. لم يستمع كوندي، رغم أنه تجاوز الثمانين من العمر، إلى صوت العقل، بل سعى جاهداً للتخلص من جميع الذين وقفوا في طريقه. وكانت تلك بداية النهاية، فقد رسم الرجل -عن غير قصد- معالم الطريق لأولئك الذين أطاحوا به بعد ذلك من سدة السلطة.
كان قرار التمديد بالتحايل على الإرادة الشعبية، هو المرشد الأمين لقادة البلاد الجدد من العسكريين. وقد كانت تلك انتكاسة كبرى لغينيا التي سوف تحتفل في 2 أكتوبر 2021 بعيد استقلالها الثالث والستين. وكان بالإمكان تحقيق نتائج أفضل بعد أن شهدت البلاد أول انتخابات ديمقراطية منذ أحد عشر عاماً، والتي جاءت بالرئيس كوندي نفسه إلى السلطة. فكان على ألفا كوندي، على وجه الخصوص، الذي جسد منذ فترة طويلة البديل المأمول للديكتاتورية والاستبداد في غينيا، الرحيل وترك السلطة عند الضرورة.
وتوحي مظاهر التأييد الشعبي في شوارع كوناكري بالانقلاب والقادة الجدد، بأن مسائل الحكم الرشيد أضحت مطلباً أساسياً في أفريقيا وبشكل متزايد. ففي الواقع، مع التطلعات العديدة لهؤلاء الملايين من الشباب، المتعلمين، الذين يحلمون بحياة أفضل، والذين هم على اتصال مباشر مع واقع العالم الذي أصبح بمنزلة قرية عالمية، لم يعد من الممكن رؤية القادة وهم يقبضون على زمام السلطة رغماً عن إرادة الجماهير. الحقيقة هي أن الأفارقة اليوم لم يعودوا يقبلون حكماً فاسداً بقيادة نخب عاجزة غير قادرة على الإنجاز أو الوفاء بوعودها.
لم يكن مستغرباً أن يشير العقيد مامادي دومبويا، قائد القوات الخاصة بالجيش، التي نفذت الانقلاب، إلى الفساد وسوء الإدارة كمبرر لتحرك الجيش . فيقول: "لن نسلم السياسة لأحد الساسة بعد الآن، بل سنسلمها للشعب. كان هناك الكثير من الوفيات مقابل لا شيء، الكثير من الإصابات، الكثير من الدموع". ولعل في ذلك إشارة واضحة إلى سوء الإدارة والفساد اللذين سادا مؤسسات الدولة في غينيا تحت حكم الرئيس كوندي. وقد تعهد قائد الانقلاب بكتابة دستور جديد، وأن اللجنة الوطنية للتجمع والتنمية (الاسم الذي اختارته مجموعة القوات الخاصة) هي التي ستقود الفترة الانتقالية.
ويبدو أن ممادي دومبويا يسير على خطى جيري رولينغز، الأب الانقلابي للديمقراطية الغانية، ليس هذا فحسب، بل أنه في كلمته المتلفزة لإعلان نجاح الانقلاب، استوحى روح الأب المؤسس سيكوتوري حيث قال: "إن غينيا جميلة: لسنا بحاجة إلى اغتصابها بعد الآن. نحن فقط بحاجة لأن نمنحها الحب". لقد حاول الرجل وهو ببزته العسكرية أن يحمل روح شاعر يبشر بعهد جديد.
موقف أفريقي ودولي "معتاد":
لقد أصدر الاتحاد الأفريقي بياناً حول الوضع في غينيا وقعه رئيس الاتحاد الأفريقي الحالي، رئيس الدولة الكونغولية فيليكس تشيسكيدي، ورئيس المفوضية موسى فقي محمد. ويدين البيان أي استيلاء على السلطة بالقوة ويطالب بالإفراج الفوري عن ألفا كوندي. كما دعا مجلس السلم والأمن الأفريقي للاجتماع بشكل عاجل لبحث الوضع واتخاذ الإجراءات المناسبة. كما أعربت المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) في بيان وقعه الرئيس الحالي، رئيس دولة غانا، نانا أكوفو-أدو، عن قلقها البالغ وأدانت "محاولة الانقلاب هذه". كما يطالب البيان بالعودة إلى النظام الدستوري ويدعو إلى إطلاق سراح الرئيس كوندي.
في الواقع، أن الممارسة الواقعية تشير إلى عجز الإيكواس. لقد غضت هذه المؤسسة الإقليمية الطرف عن الانقلابيين في مالي. وينطبق الشيء نفسه على الاتحاد الأفريقي الذي غض الطرف، بعد مالي، عن الانقلاب في تشاد. وينطبق ذلك كله على مواقف فرنسا والمجتمع الدولي الذين يكتفون ببيانات الإدانة والتنديد.
وبالتالي خلق سوابق خطيرة في أفريقيا، حيث يمكن أن يؤدي ذلك إلى انتشار عدوى الانقلابات في الواقع الأفريقي الذي يعاني أنواء الطبيعة وفساد السياسة سواء بسواء.
التداعيات الجيوستراتيجية:
- تكريس العجز الديمقراطي: لقد كان الانقلاب نكسة دراماتيكية لغينيا، حيث كان الكثيرون يأملون أن تكون الدولة قد طوت صفحة الاستيلاء على السلطة بالقوة العسكرية. قدم معهد توني بلير للحوكمة في أفريقيا الرئيس البروفسور كوندي الذي يحمل درجة في القانون من السوربون على أنه النموذج الأمثل للحكم الرشيد في أفريقيا. لكن الحاكم الفيلسوف كرر السيناريو المخيف نفسه، وهو متلازمة الرجل القوى الذي عانت من تبعاته أفريقيا معظم سنوات ما بعد الاستقلال. كان من المفترض أن يكون فوز كوندي في الانتخابات عام 2010 - وهو أول تصويت ديمقراطي في البلاد على الإطلاق - بداية جديدة لبلد عانى عقوداً من الفساد والحكم الاستبدادي والاضطرابات السياسية. ولكن فشل كوندي في السنوات التي تلت ذلك في تحسين حياة الغينيين، الذين يعيش معظمهم في فقر على الرغم من الثروات المعدنية الهائلة للبلاد من البوكسيت والذهب.
- التأثير على منظومة الأمن غرب أفريقيا وعلى الاقتصاد العالمي: تعد الدولة واحدة من أكبر موردي البوكسيت في العالم، وهو مصدر رئيسي للألمنيوم، مما يعني أن أي اضطرابات هناك يمكن أن تؤثر بشدة على أسعار السلع، ويمكن أن يؤدي الانقلاب الناجح إلى مزيد من زعزعة الاستقرار في المنطقة المعرضة لهجمات الجماعات الإرهابية العنيفة المنتمية لتنظيمي القاعدة وداعش، والتي تصاعدت وتيرتها بسبب الأزمات الصحية العامة والاقتصادية المتكررة في العقود الماضية.
أنتجت غينيا في عام 2019 نحو 64 مليون طن متري من البوكسيت، مما يجعلها في المرتبة الثالثة في العالم بعد أستراليا والصين من حيث الإنتاج السنوي. كما تمتلك الدولة أكبر احتياطي من خام الألمنيوم في العالم بحجم 40 مليار طن. وقد تجاوز نمو الناتج المحلي الإجمالي خلال السنوات الخمس الماضية 5 % سنوياً. ومع ذلك فإن أكثر من 70 % من السكان يحصلون على أقل من 3.20 دولار أمريكي في اليوم
- إمكانية تغيير خريطة التحالفات الدولية في المنطقة: من المعروف أن الصين هي أكبر منتج ومستهلك للألمنيوم في العالم. في عام 2020، استوردت الصين 52.7 مليون طن من البوكسيت من غينيا. وتشارك 14 شركة صينية سواء مملوكة للدولة أو خاصة في أعمال الألمنيوم في غينيا. إلى جانب الألمنيوم، فقد وضع الانقلاب أيضاً خام الحديد تحت دائرة الضوء.
غينيا هي موطن لمشروع سيماندو، الذي يمتلك أكبر رواسب لخام الحديد في العالم. وقد تراكمت في المشروع احتياطيات تزيد على 10 مليارات طن من خام الحديد عالي الجودة، وقد اتجهت الأنظار إلى الصين التي استثمرت شركاتها بكثافة في مشروع التعدين. فهل يعني وجود ارتباطات قوية لقائد الانقلاب بكل من فرنسا والولايات المتحدة إمكانية إعادة النظر في الوجود الصيني في غينيا لصالح الدول الغربية؟
- عودة القابلية للانقلاب في أفريقيا: على الرغم من أن التغييرات غير الدستورية للحكومات الأفريقية أضحت غير مقبولة في العمل الأفريقي المشترك، فإن ازدواجية المعايير من قبل الاتحاد الأفريقي والتجمعات الإقليمية سوف تجعل تدخل الجيش في السياسة أمراً لا مفر منه. لقد ساعد قادة الاتحاد الأفريقي والجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (الإيكواس) - ولو بطريقة غير مباشرة- بعض الرؤساء الأفارقة في التعدي على حقوق شعوبهم وتجاهل سيادة القانون والديمقراطية. على سبيل المثال، عندما دبر الرئيس ألفا كوندي بطريقة احتيالية تعديلاً على دستور غينيا لتمكينه من الحصول على فترة ولاية ثالثة في منصبه، أيده قادة الاتحاد الأفريقي وجماعة الإيكواس لأنه يعتبر أحد أعضاء نادي الحكام الذين ينتمون إليه جميعاً. ويمكن القول بدرجة عالية من المصداقية إن تعديل الدستور لتمكين كوندي من الحكم إلى ما لا نهاية هو بمنزلة أحد العوامل المباشرة لانتفاضة الجيش التي أطاحت به من السلطة.
فغينيا لديها تاريخ طويل من عدم الاستقرار السياسي. حيث سيطر لانسانا كونتي على البلاد في عام 1984 بعد وفاة أول زعيم بعد الاستقلال. وظل في السلطة ربع قرن حتى وفاته في عام 2008، متهماً بنهب خزائن الدولة لإثراء عائلته وأصدقائه. وسرعان ما أعقب وفاته الانقلاب الثاني في البلاد، حيث تولى النقيب موسى "داديس" كامارا زمام الأمور. خلال فترة حكمه، فتحت قوات الأمن النار على المتظاهرين في ملعب في كوناكري حيث كانوا يحتجون على خططه للترشح للرئاسة. وقالت جماعات حقوق الانسان إن أكثر من 150 شخصاً قتلوا، واغتصب ما لا يقل عن 100 امرأة. وذهب كامارا في وقت لاحق إلى المنفى بعد أن نجا من محاولة اغتيال، ونظمت الحكومة الانتقالية آنذاك انتخابات 2010 التاريخية التي فاز بها كوندي.
ختاماً، يمكن الحديث عن عودة الظاهرة الانقلابية في أفريقيا، حيث إن أي زعيم أفريقي يرفض الالتزام بالدستور، أو يقوم بالتضييق على المعارضة، سيكون من الآن فصاعداً أمام جيش الأمة للتعامل معه. ولعلنا نتذكر ما حدث في مالي وأدى إلى استيلاء العسكريين على السلطة بعد مناورة من قبل الرئيس السابق أبو بكر كيتا لإطالة فترة ولايته عن طريق التعديل الدستوري. وعلى الرغم من أن الانقلاب العسكري في غينيا قد انتهك بروتوكول الجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا بشأن الديمقراطية والحكم الرشيد، فإن أساس المشكلة يسبق ذلك عندما يتم تعديل الدستور بالحيلة لمنح الرئيس الحالي فترة ولاية ثالثة والاستمرار في المنصب. ولعل ذلك في معناه ومبناه أسوأ أشكال الانتهاكات. وأخيراً فإن عودة الانقلابات العسكرية والاستبداد والطرق السياسية المسدودة في كثير من الدول تعد مؤشراً على تدهور الوضع السياسي والاجتماعي في غرب أفريقيا.
بلا شك يجب إدانة الانقلابات العسكرية وجميع أشكال الاستيلاء على السلطة بالقوة والوسائل غير الدستورية. ومع ذلك، علينا التفكير في مظاهر العجز المؤسسي والاختلالات الديمقراطية التي تخلق بيئة مواتية للانقلابات والبحث عن حلول ناجعة لها.
انقلاب غينيا هو المحاولة الرابعة التي تشهدها غرب أفريقيا منذ أغسطس 2020. كانت هناك عمليتان استولى فيهما العسكريون على السلطة في مالي ومحاولة فاشلة في النيجر. ولعل المستفيد من ذلك كله هو الجماعات الإرهابية وميليشيات الجريمة المنظمة المرتبطة بها التي تستفيد من تداعي الأوضاع الأمنية في ظل جائحة كوفيد 19 لتعظيم مكاسبها والاستيلاء على مزيد من مناطق النفوذ في كل من الساحل وغرب أفريقيا.