في أعقاب المعرض التجاري التركي للأسلحة الدفاعية "آيدف" في اسطنبول للعام الحالي، والذي حضره عدد من الوفود الأفريقية، ذهبت القارة الأفريقية بأغلبية ساحقة مع الخيار الروسي. وفي الفترة من 22 وحتى 28 أغسطس 2021 انعقد المنتدى العسكري التقني الدولي الروسي للجيش في بلدة كوبينكا الصغيرة، على بعد حوالي 70 كيلومتراً من العاصمة موسكو. وهو الحدث السنوي الذي ينظمه المجمع الصناعي العسكري الروسي بدعم من التكتلات العملاقة، مثل روستك وكلاشينكوف كونسيرن، كما يتم الترويج له خارج روسيا من قبل الشركة الروسية "روس أوبورن إكسبورت"، والحاصلة على الوكالة الحكومية لصادرات وواردات الأسلحة. ومن أهداف المنتدى المساعدة في إعادة التجهيز التقني وزيادة كفاءة أنشطة وزارة الدفاع الروسية، وتحفيز التطوير المبتكر للمجمع الصناعي العسكري في روسيا، والمساهمة في تطوير التعاون العسكري التقني بين روسيا والدول الأجنبية. ومن اللافت قيام وفود عسكرية وخبراء من جميع أنحاء أفريقيا بالمشاركة في هذا المعرض التجاري للجيش الروسي هذا العام. وهو ما يعني أنه يشكل فرصة لروسيا من أجل تعزيز نفوذها في قطاع الأمن الأفريقي.
روسيا ودبلوماسية الكلاشينكوف
لقد تم التأكيد على الطبيعة السياسية للحدث من خلال خطاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ومشاركة وزير الدفاع سيرغي شويغو. ومن المعروف أنه قد تم تصميم المنتدى ليكون عرضاً كبيراً للقوة وتكريماً للجيش الروسي من جهة، ولكنه أيضاً عامل جذب شعبي داخلي من جهة ثانية. ومع ذلك فإنه عامل لنشر النفوذ الروسي من خلال جذب الوفود الأجنبية، لاسيما الأفارقة بشكل خاص. ويعد المعرض العسكري الروسي لهذا العام مؤشراً على تراجع النفوذ الأمريكي والغربي عموماً في أفريقيا مقابل بزوغ نجم الدب الروسي في مجال السياسات الأمنية الأفريقية.
اتجهت عيون الوفد الجزائري، الذي تعد بلاده أحد المشترين الرئيسيين للأسلحة الروسية، صوب البحث عن طائرات من دون طيار وأنظمة إلكترونية للمراقبة. كما أبدى ممثلو جيوش غرب أفريقيا اهتماماً خاصاً بالمركبات المدرعة المعروضة في الملتقى. وقد زار ضباط من القوات المسلحة المالية، والقوات المسلحة الغينية، شركة الصناعة العسكرية الروسية، التي جعلت من أفريقيا إحدى أولوياتها التجارية، كما يتضح من وجودها في معرض شيلد أفريقيا 2021 التجاري الذي انعقد في أبيدجان بكوت ديفوار في أوائل يونيو الماضي، وكشفت فيه النقاب عن مدرعتها البرمائية "ستريلا".
وقد وقعت الشركة، التي يرأسها ألكسندر كراسوفيتسكي، عقداً مع زامبيا لتوريد 35 مركبة مدرعة من طراز تايجر، كما بحث وفد القوات المسلحة لجمهورية الكونغو عن ناقلات أفراد مدرعة خفيفة. ومن المعروف أن الكونغو واصلت بشكل متزايد روابطها الأمنية مع روسيا منذ عام 2019 بتصميم واضح من قبل الرئيس دينيس ساسو نغيسو. وتعمل بحرية الكونغو منذ عدة أشهر على تشغيل ما لا يقل عن ثلاثة زوارق هجومية روسية من طراز BK-10، والتي تم تسليمها سراً العام الماضي لتعزيز القاعدة البحرية في بوانت نوار.
ولا شك أن هذه القوارب تساعد الكونغو في مواجهة تحديات متزايدة في خليج غينيا، حيث تتزايد أعمال القرصنة والصيد غير القانوني والتهريب. ومن الملحوظ أن الجنوب الأفريقي كان حاضراً أيضاً إلى حد كبير، من خلال ممثلي القوات المسلحة من جنوب أفريقيا وزيمبابوي وموزمبيق. ويبدو أن معضلة التمرد الإرهابي في مقاطعة كابو ديلجادو هي التي دفعت وفد موزمبيق للبحث بشكل عاجل عن المركبات المدرعة الروسية.
ومن جهة أخرى حضر كبار أعضاء الجيش الإثيوبي للعثور على معدات عسكرية من أجل التغلب على آثار النكسات العسكرية الكبيرة التي عاناها الجيش الوطني على أيدي قوات دفاع التيجراي. علاوة على ذلك، فإن تحالف المتمردين يواصل التقدم خارج حدود منطقة تيجراي، مما يشكل تهديداً متزايداً للحكومة الفيدرالية بقيادة رئيس الوزراء أبي أحمد علي في أديس أبابا.
ثنائية الأسلحة والموارد الطبيعية
لقد ظل الاهتمام الروسي بأفريقيا ضئيلاً خلال العقود الثلاثة المنصرمة، إذ بلغ إجمالي حجم التبادل التجاري مع جميع البلدان الأفريقية في عام 2018 ما يزيد قليلاً على 20 مليار دولار، حتى مع الأخذ في الاعتبار أن أفريقيا كانت القارة الوحيدة التي زادت من نسبة وارداتها من المنتجات الروسية بعد العقوبات الغربية المفروضة على موسكو بسبب ضم شبه جزيرة القرم. وتجدر الإشارة أيضاً إلى أن أكثر من نصف هذا المبلغ كانت تمثله التجارة الروسية مع دولتين فقط في الشمال الأفريقي هما مصر والجزائر. ويمكن القول بشكل عام، إن شمال أفريقيا يغطي حالياً أكثر من 75٪ من إجمالي التجارة الروسية مع القارة.
أما بالنسبة لأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، فإن التجارة الروسية هناك لاتزال محدودة وقاصرة على الأسلحة. ويعني ذلك أنه على الرغم من تواضع الأرقام الخاصة بالتبادل التجاري الروسي الأفريقي، فقد استطاعت موسكو بحلول عام 2000 إحراز تقدم في توجهها نحو أفريقيا، حيث أصبحت أكبر مصدر للأسلحة إلى أفريقيا لتمثل نحو 49% من إجمالي صادراتها إلى القارة السمراء، وذلك بناء على قاعدة البيانات في معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام. ومنذ عام 2014، وقعت الشركة الروسية "روس أوبورن إكسبورت" - اتفاقيات ثنائية مع عدة دول أفريقية، بما في ذلك أنغولا وغينيا الاستوائية ومالي ونيجيريا والسودان. وإلى جانب المعدات العسكرية، تتضمن الاتفاقيات أحكاماً لمكافحة الإرهاب والتدريب المشترك للقوات الأمنية والعسكرية.
لدى روسيا أيضاً دوافع اقتصادية واضحة عندما يتعلق الأمر بالموارد الطبيعية، على الرغم من أنها تمتلك ثروات معدنية كبيرة، فإنه من الصعب استخراجها من باطن الأرض، مما يجعل استيرادها بدلاً من ذلك أمراً ميسوراً. فعلى سبيل المثال دخل كونسورتيوم روسي، يضم مجموعة روستك، في شراكة لتطوير مشروع تعدين البلاتين بقيمة 3 مليارات دولار في زيمبابوي، وهو أكبر استثمار منفرد في البلاد منذ الاستقلال في عام 1980.
كما تنشط العديد من شركات الطاقة الروسية المملوكة للدولة، مثل غازبروم وروستيك وروساتوم في أفريقيا، مع استثمارات رئيسية في قطاعات النفط والغاز والطاقة النووية في الجزائر ومصر وأوغندا وأنغولا. وتجدر الإشارة إلى أن الاستثمارات التي تقودها الدولة غالباً ما تكون مرتبطة بمبادرات عسكرية أو دبلوماسية. فبينما كان يتم إبرام اتفاق لبناء محطتين للطاقة النووية في نيجيريا، التزمت روسيا في الوقت نفسه بمكافحة الإرهاب هناك. ومن المهم في هذا الصدد تفسير هذا الصعود الروسي في السياسة الدولية، إذ إن العمليات الروسية، وكذلك أنشطة الشركات العسكرية الروسية الخاصة في جميع أنحاء منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ومنطقة الساحل الأفريقي، قد أدت جزئياً إلى إشباع الطموح الروسي بعودة روسيا قوة عظمى مرة أخرى. فمعظم أنصار الرئيس بوتين لايزالون مسكونين بالصور النمطية السياسية للعهد السوفييتي.
التوغل الروسي صوب دول الساحل والجنوب الأفريقي
من المرجح أن تزداد أهمية أفريقيا جنوب الصحراء بشكل عام ومنطقة الساحل على وجه الخصوص بالنسبة لموسكو، كمنطقة يمكن لروسيا أن تبني فيها وجودها العسكري والأمني. فقد أصبحت الصراعات السورية والليبية أقل جاذبية لموسكو من حيث "دبلوماسية الظل العسكرية" للكرملين. بالإضافة إلى ذلك، فإن التقدم الذي تم إحرازه في تسوية الصراع الليبي يقلل أيضاً من فرص الشركات العسكرية الخاصة الروسية في تلك الدولة. بالنسبة لمخرجات مؤتمر برلين، وكذلك المسار السياسي للحكومة المؤقتة، فمن المتوقع أن يتم إيلاء المزيد من الاهتمام لانسحاب المرتزقة الأجانب من ليبيا.
وعلى ذلك يمكن القول إنه في حالة نجاح إجراء انتخابات عامة في ليبيا في ديسمبر 2021، ستواصل السلطات الجديدة أيضاً مسار سحب القوات الأجنبية من البلاد. في هذا الصدد، أصبحت منطقة الساحل منطقة جذابة بشكل متزايد للدبلوماسية العسكرية الروسية. من ناحية أخرى، المنطقة مليئة بالصراعات وكانت في حالة اضطراب سياسي دائم في السنوات الأخيرة. كما أن الدول الغربية بقيادة فرنسا والولايات المتحدة أضحت أقل اهتماماً بمنطقة الساحل، مقارنة بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي ترتبط ارتباطاً مباشراً بمفهوم الأمن الأوروبي. ولعل ذلك كله يخلق ظروفاً مواتية لتوغل روسي محتمل في منطقة الساحل والعمق الأفريقي.
يمكن أن نشير أيضاً إلى القمة الروسية الأفريقية الأولى التي عقدت عام 2019 في سوتشي وحضرها 43 رئيس دولة أفريقية. وقد تم توقيع عدة مذكرات تفاهم في القمة، بما في ذلك مذكرة بين الحكومة الروسية والاتحاد الأفريقي. وقال الرئيس فلاديمير بوتين في القمة: "لن نشارك في عملية إعادة تقسيم الثروة في القارة؛ وبدلاً من ذلك، نحن مستعدون للدخول في منافسة للتعاون مع أفريقيا. لدينا الكثير لنقدمه لأصدقائنا الأفارقة". ولعل ذلك هو ما أثار جدلاً حول النفوذ الروسي المتزايد في القارة.
ويبدو أن روسيا في طريقها لكسب معركة قلوب وعقول النخب الأفريقية. لقد تحدث قادة ونخب الدول الأفريقية مراراً بشكل إيجابي عن موسكو. ففي قمة سوتشي، دعا رئيس بوركينا فاسو روك، مارك كريستيان كابوري، روسيا للمشاركة في قمة المنظمة الإقليمية لتجمع دول الساحل الخمس لمواجهة الإرهاب. كما أشاد الرئيس الموريتاني، محمد ولد الغزواني، أثناء وجوده في سوتشي، بروسيا لنهجها المتمثل في عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأفريقية، ودعا إلى تشكيل تكتل روسي أفريقي في مواجهة النزعات التدخلية في النظام الدولي.
غياب الرؤية الاستراتيجية
إن النظرة المتعمقة لتطور السياسة الروسية تجاه أفريقيا خلال السنوات الأخيرة، تظهر أن "عودة" روسيا إلى أفريقيا تواجه عدداً من الصعوبات على المدى الطويل. أولاً، افتقار موسكو إلى استراتيجية طويلة المدى للتعاون مع الدول الأفريقية. فالناظر لمفهوم السياسة الخارجية للاتحاد الروسي، الذي تم اعتماده في عام 2016، يجد أنه حدد المصالح الروسية في القارة الأفريقية بطريقة مجردة تماماً. ثانياً، الطلب على الخدمات الروسية، بما في ذلك الخدمات العسكرية، من الدول الأفريقية هو ذو طبيعة ظرفية. تماماً مثلما لا تستطيع القيادة الروسية صياغة أولويات طويلة الأجل في أفريقيا، لا يمكن وصف اهتمام النخب الأفريقية بالكرملين على أنه ينطوي على اتجاه طويل الأمد. وخير مثال على ذلك الاتفاق بين موسكو والخرطوم على إنشاء قاعدة بحرية روسية في بورتسودان، والذي تم التوصل إليه في عام 2020. وبعد عام، أعلنت السلطات السودانية الانتقالية، بعد رفع العقوبات واستعادة العلاقات متعددة الأطراف مع الدول الغربية، مراجعة الاتفاقية مع روسيا بخصوص بورتسودان.
ربما تنظر النخب الأفريقية إلى روسيا باعتبارها ورقة مساومة، يستخدمونها أثناء بناء حوار مع قوى دولية أخرى. في هذا الصدد، على المدى الطويل، لا يمكن لروسيا الاعتماد إلا على كونها مجرد واحدة من الشركاء الكثيرين للدول الأفريقية، على الرغم من أنها بعيدة كل البعد عن كونها الشريك الوحيد.
وختاماً، فإنه يمكن القول إن تطورات العلاقات الروسية الأفريقية، لاسيما منذ عام 2014 أدت إلى مخاوف الولايات المتحدة والدول الغربية من عودة "الدب الروسي" ، وهو ما اتضح من خطاب ألقاه عام 2018 ، مستشار الأمن القومي الأمريكي آنذاك، جون بولتون وأشار فيه إلى الجهود التوسعية لروسيا وتأثيرها عبر أفريقيا، وعلى الرغم من أنه يتم إيلاء الكثير من الاهتمام بالتحركات الروسية في القارة، فإنه من الصعب مقارنة الوجود الروسي في أفريقيا بشركاء أفريقيا التقليديين، مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا، أو مع القوى الصاعدة الأخرى، مثل الصين. ولا شك ان التدافع والاهتمام الدولي بالقارة يعني في معناه ومبناه أن الدول الأفريقية يمكنها الآن تحديد واختيار من ترغب في الشراكة معه. ويمكن أن تسترشد هذه القرارات الأفريقية بشبكة معقدة من الأولويات.
وعلى أية حال، فإن الرئيس بوتين حدد أفريقيا كأولوية للسياسة الخارجية، بيد أنها ليست الأولى في القائمة من الناحية الواقعية، وهو ما يعكس غياب البوصلة الاستراتيجية كما أوضحنا. ففي مجال العلاقات الاقتصادية والتجارية الشاملة، لا تزال روسيا تمارس التجارة مع أوروبا وآسيا أكثر بكثير مما تفعله مع أفريقيا. وربما يعزى ذلك إلى اعتبارات الموقع الجغرافي والقرب من الفضاء الأوراسي. ومن جهة أخرى تسير الخطط الخاصة بانعقاد القمة الروسية الأفريقية الثانية عام 2022 على قدم وساق، مما يطرح مرة أخرى العديد من التساؤلات حول تنامي الوجود الروسي في القارة. من المحتمل أن تعقد القمة في القاهرة أو داكار أو أديس أبابا، وستجمع مئات الممثلين من رجال الأعمال والحكومة.
ويبقى السؤال والحالة هذه، هل تعد دبلوماسية القمم جزءاً من استراتيجية روسيا الجديدة تجاه أفريقيا أم استمراراً لنهجها السابق؟ في كلتا الحالتين، من المرجح أن نتوقع نمواً متزايداً في مستويات التغلغل الروسي في أفريقيا.