عندما يطرح بعض السياسيين والأكاديميين في الغرب إمكانية استيعاب "دولة داعش" في سوريا والعراق إلى حد الاعتراف بها ومنحها عضوية الأمم المتحدة، فإنه لا يمكن التعامل مع هذه الأفكار على أنها مجرد سيناريوهات مغرقة في الغرابة ولا يمكن تحققها، وبالتالي لا يجب إضاعة الوقت في فحصها والتعليق عليها أو الاستعداد الجدي لمواجهتها إذا ما بدأت في التحقق على الأرض، غير أن الشرق الأوسط على وجه الخصوص كان مسرحاً لمحاولة إنتاج دول لم تكن على الخريطة من قبل، وأكبر نموذج كان تحقيقه يبدو مستحيلا هو إنشاء دولة لليهود في فلسطين، ولكن المستحيل في أواخر القرن التاسع عشر تحقق في النهاية في منتصف القرن التالي... فما الذي يمنع تكرار نفس النموذج ثانية لحل صراع ثلاثي المستوى تسبب - كما يفهم بعض الأكاديميين والسياسيين الغربيين - في زرع الاضطرابات الخطرة في الشرق الأوسط، والتي تهدد الأمن والسلم الدوليين؟
مقترحات مربكة
في مقال نشره في جريدة النيويورك تايمز يوم 24 نوفمبر الماضي، تحت عنوان" لهزيمة داعش يجب تأسيس دولة سنية"، طرح جون بولتون، المندوب الأمريكي الأسبق في الأمم المتحدة، اقتراحاً بإنشاء دولة سنية جديدة في المنطقة، قائلا: "إنها ستكون أفضل بديل لداعش في شمال شرق سوريا وغرب العراق.. هذه الدولة السنية ستكون قابلة للحياة وتشكل حلا لمعضلة الاضطرابات الناشبة في هذه المنطقة، فلديها إمكانات اقتصادية كدولة منتجة للنفط، ويمكن أن تكون سداً مانعاً أمام كل من الأسد وبغداد المتحالفين مع إيران، ومن الممكن أن يقدم قادة دول الخليج العربي التمويل والدعم السياسي اللازم لإقامة هذه الدولة خاصة أنهم باتوا مدركين لخطورة تمويل التطرف الإسلامي على أمنهم الخاص. كما ان تركيا سترحب بولادة هذه الدولة لما سيضيفه وجودها من الاستقرار على حدودها الغربية".
في الاتجاه نفسه، وفي عدد نوفمبر من مجلةforeign affairs ، يرى باراك ماندلسون، أستاذ العلوم السياسية في جامعة هارفارد، أن "قيام دولة سنية في مناطق من العراق وسوريا ستكون له منافع، منها أن دولة للسنة في سوريا تعني قيام دول للأقليات مثل العلويين. كما سيحظى هذا الكيان بدعم من الدول السنية، خاصة أن الاستقطاب الطائفي يجعل من الصعوبة بمكان أن تتعاون هذه الدولة المفترضة مع إيران وحكومة الشيعة في بغداد والعلويين في سوريا".
وفي وقت سابق نشر موقع الإذاعة البريطانية في يناير من العام الماضي مقالا يتناول إمكانية الاعتراف بدولة لداعش في المناطق التي تسيطر عليها من الأراضي السورية والعراقية تحت دعوى ترشيد التوجهات المتطرفة لتنظيم الدولة ومحاولة إدماجه في النظامين الإقليمي والدولي.
هل يصلح النموذج الاسرائيلي للتطبيق مجدداً؟
ثمة اعتقاد بأن النموذج الملهم لهذه الطروحات لا يخرج عن النموذج الذي تم ابتداعه في النصف الأول من القرن العشرين لحل الصراع على فلسطين بين العرب واليهود، وذلك من الأوجه التالية:
1 ـ أن قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في نوفمبر عام 1974، والذي قضى بتقسيم فلسطين بين شعبين أحدهما له هوية دينية (اليهود) والآخر له هوية قومية (العرب) كان قراراً متجاوزاً للمنطلقات النظرية لفكرة الدولة المقبولة كعضو في الأمم المتحدة، إذ لم تمنع الهوية الدينية لليهود من دخولهم منظمة تأسست في العلاقات الدولية على قاعدة دولة المواطنة، وليس على قاعدة القبول بدول مؤسسة على ولاءات أولية (وإن كانت الحركة الصهيونية قد نجحت في تسييد مفهوم أن اليهود شعباً وليسوا طائفة دينية، معتبرين أن أي جماعة بشرية هي وحدها فقط المعنية بتحديد هويتها وليس الآخر هو من يمتلك ذلك الحق)، وأيضاً لم يحل مبدأ أن حق تقرير المصير لأي شعب يتحقق في دولة واحدة وواحدة فقط دون حصول سبعة دول تصف نفسها بأنها عربية على عضوية المنظمة الدولية.
2 ـ أن الصراع الدائر في الشرق الأوسط حالياً يحتوي على أبعاد شبيهة جزئياً بالصراع العربي - الإسرائيلي تاريخياً؛ فهناك المكون المذهبي (الصراع السني - الشيعي)، وهناك المكون القومي داخل المعسكر السني (دولة المواطنة في مواجهة دولة الشريعة، أو الهوية الحداثية في مواجهة الهوية الأولية)، وهناك المكون العرقي - القومي (رغبة الأكراد في الاستقلال بالمناطق التي يشكلون فيها أغلبية في العراق وسوريا وتركيا وإيران).
3 ـ أن حل تقسيم فلسطين بين دولتين وإن لم يؤدِ إلى تحقيق الاستقرار، فإنه كان الحل الأقل تكلفة بعد كارثة المذابح النازية في أوروبا ضد اليهود، إذ كان الغرب يخشى في ظل الدمار والأزمة الاقتصادية الخانقة في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية أن تعود نيران الكراهية لتشتعل ضد اليهود مجدداً إذا ما بقوا هناك في أحياءهم "جيتواتهم".
4 ـ أن اسرائيل تمتعت، وماتزال، بعضوية الأمم المتحدة دون أن يؤثر عليها أنها دولة بلا حدود معروفة ومعترف بها دولياً ، ولذا فإن "دولة داعش" المرشحة "افتراضياً" للاعتراف بها وضمها للمنظمة الدولية لن يعيقها عن ذلك كونها دولة لا تقدم ولا تعترف بحدود معروفة لها ومعترف بها من الآخرين.
على هذه الأسس الأربعة يبدو أن أصحاب فكرة الاعتراف بـ "دولة داعش" وإدماجها في النظام الدولي يَرون أنه حل مثالي، حيث إنه يضمن دولة دينية متطرفة تطبق الشريعة الإسلامية حسب رؤيتها الخاصة، وبذلك يمكن أن تكون مأوى لكل المؤمنين بهذا التوجه في العالم أجمع بحيث يمكن تفريغ المجتمعات الغربية من أتباعهم بما يعود بفوائد أمنية على الغرب ومصالحه. كما أن متطرفي العالم الإسلامي سيتوجهون إليها أيضاً فتتخلص منهم البلدان العربية والإسلامية التي تعاني من انتشارهم داخلها، مما يعيد الاستقرار المفقود إليها بعد أن تصدر الإسلاميون المتطرفون مشهد الربيع العربي منذ أواخر عام 2010.
والأهم من ذلك كله أن التحول من مواجهة "داعش" والقضاء عليها إلى الاعتراف بدولتها سيجنب الدول الأوروبية والولايات المتحدة الضغوطات التي تُمارس عليهما لإرسال قوات برية إلى سوريا والعراق؛ الأمر الذي لا يريده زعماء الغرب وعلى رأسهم الرئيس الأمريكي باراك أوباما، الذي يرى أن أغلبية الرأي العام الأمريكي ضد إرسال قوات أمريكية للقتال خارج الحدود.
وأخيراً فإن الاعتراف بـ "دولة داعش" كدولة للمتطرفين الإسلاميين سيكون نوعاً من إصلاح الخطأ التاريخي- ولو بصورة رمزية - الذي ارتكبته أوروبا بمساعدتها اليهود - الذين يعتبرون في نظر المسلمين الأشد عداء لهم من بين أتباع الديانات الإبراهيمية - وذلك بخلق المعادل الموضوعي لدولة اليهود، وهي دولة أنصار إحياء الخلافة الإسلامية من جديد.
ثغرات في التماسك الداخلي للفكرة
تعبر فكرة الاعتراف بـ "دولة داعش" عن مدى الارتباك الذي يعيشه بعض السياسيين والأكاديميين الغربيين، إذ إن الفكرة تبدو مليئة بالتناقضات الداخلية من عدة أوجه:
1 ـ نزع النماذج والسوابق التي نشأت بمقتضاها بعض الدول (إسرائيل) من سياقها الزمني والجيواستراتيجي، ومحاولة تطبيقها في سياق مغاير تماماً (الدولة السنية أو دولة داعش الافتراضية).
2 ـ إنها تركز على الحلول التي تجنب الغرب الدخول في مواجهات عسكرية تستنزفه داخل الشرق الأوسط، ولا تهتم كثيراً بتناقض ذلك مع مبادئها الداعية لنشر الديمقراطية وقيم حقوق الانسان في العالم، كما أنها فكرة لا تلقي بالاً بالجرائم التي يمكن أن ترتقي إلى مستوى جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية كما هو منصوص عليها في المواثيق الدولية، والمتوقع من "دولة داعش" أن ترتكبها ضد سكانها.
3 ـ لا يهتم أصحاب الفكرة السابقة أيضاً بمدى استعداد قادة "داعش" للتخلي عن أيديولوجيتهم الداعية لنشر دولة الخلافة ليس في العالم الإسلامي وحده، بل في العالم أجمع، والقبول بدولة لها حدود وعليها التزامات وفق القانون الدولي الذي لا تعترف به.
4 ـ لا يشغل أصحاب الفكرة أنفسهم بمدى استعداد دول مثل إيران وتركيا للاعتراف بدولة للأكراد العراقيين والسوريين سيتحتم ظهورها والقبول بها أسوة بقبول تأسيس "دولة" لداعش، وهو ما يعني زرع مزيد من أسباب عدم الاستقرار في المنطقة خلافاً لما يدعيه أصحاب الفكرة من أنها ستكون حلا لمشاكل الأقليات في المنطقة وسبباً في إعادة الهدوء إلى الحدود بين الدول القديمة والدول الجديدة التي ستنشأ فيها.
5 ـ من غير المتصور أن تقبل مصر وإسرائيل والأردن بوجود دوله قريبة من /أو على حدودها المباشرة في ظل سعي هذه الدولة علناً لتقويض الحكم وتهديد وجود النظم والدول الثلاثة السالفة الذكر.
6 ـ لا توحد أي ضمانات لتحقيق الفرضية القائلة بأن "دولة داعش" ستكون مركزاً جذب للمتطرفين المؤمنين بأيديولوجيتها من كل أنحاء العالم، بل يمكن أن يكون العكس هو الأقرب للتحقق، أي أن تتحول هذه الدولة إلى أيقونة نجاح للفكرة وللأيديولوجيا الداعشية، وتغري أتباعها بالبقاء داخل بلدانهم وشن الحرب ضد الأنظمة والشعوب التي لا تؤيد الفكرة أو تحاربها في داخلها.
أخيراً، وعلى الرغم من صعوبة تصور نجاح فكرة استيعاب "داعش" كدولة ضمن المنظومة الدولية كما يقترح البعض، فإن هذه الفكرة قد تغري بعض الأجهزة الأمنية في الغرب - والمهمومة في المقام الأول بإبعاد خطر الأصوليين الإسلاميين، سواء ممن يعيشون داخل الدول الأوروبية ويحملون جنسيتها أو من القادمين من المنطقة بدوافع الانتقام من الغرب لأسباب متنوعة - لمحاولة إقناع صانع القرار بتبنيها والعمل على تطبيقها، إذ إن هذه الأجهزة الأمنية نفسها سبق وأن أقنعت صانعي القرار من قبل بتبني تنظيم القاعدة الذي كان يحارب الاتحاد السوفيتي السابق، دون أن تحسب تبعات هذا السيناريو على المدى البعيد؛ الأمر الذي كلّف أوروبا والولايات المتحدة مخاطر جمة على أمنهما حتى اليوم، وثمة خشية كبيرة من أن تتمكن أصوات غير مسؤولة في دوائر الاستخبارات الغربية حالياً من إقناع بعض صناع القرار هناك للإصغاء لمقترح إنشاء واستيعاب "دولة لداعش" في المنطقة العربية، الأمر الذي يفرض الحذر واتخاذ الاحتياطات الضرورية في العالم العربي لمنع تحقق هذا السيناريو حتى وإن كان مستبعداً.