يبدو أن منطقة الشرق الأوسط بصدد موجة جديدة من موجات تضييق الخناق على مصادر تمويل التنظيمات الإرهابية والدول الراعية لها، حيث تضطلع بها قوى دولية وإقليمية عدة، وفقاً لقرارات سياسية تستتبعها إجراءات اقتصادية وقضائية وبنكية، تأتي في سياق جهود الحد من العنف والصراعات المسلحة بالمنطقة.
ومما لا شك فيه أن مجابهة اقتصادات الإرهاب ليست بالأمر السهل، بالنظر إلى الخبرات التي تتمتع بها التنظيمات الإرهابية للتعاطي مع استراتيجيات تستهدف الحد من قدراتها المالية ومصادرها التمويلية وأنشطتها الاقتصادية غير المشروعة، والتي تعد العصب الرئيسي لبينة التنظيمات الإرهابية وأنشطتها المختلفة.
خطوات إقليمية
إقليمياً، اُتخذت بعض الخطوات لتجفيف منابع تمويل التنظيمات الإرهابية، ومنها الجماعات التي يتم تمويلها ودعمها من إيران لزعزعة الأمن والاستقرار في بعض دول المنطقة. وفي هذا الصدد، صدر قرار من مجلس التعاون الخليجي، ومن بعده جامعة الدول العربية، بتصنيف حزب الله اللبناني منظمة إرهابية، بسبب استمرار الحزب في الأعمال العدائية وتجنيد شباب الدول العربية للقيام بأعمال إرهابية.
كما اعتبرت السلطات السعودية أن محاصرة تمويل تنظيمات متطرفة، مثل "داعش" و"جبهة النصرة" و"حزب الله"، ضمن أولى اهتماماتها، حيث تهدف المملكة إلى عرقلة تحركات هذه التنظيمات، والتعاون والتنسيق مع المجتمع الدولي بجميع الوسائل والسُبل التي من شأنها التصدي لمصادرها التمويلية.
ومع بداية يونيو 2016، بدأت المملكة العربية السعودية في اتخاذ تدابير جديدة، تتعلق بالتحويلات المالية للعمالة اللبنانية من الرياض إلى بيروت، لتجنب وصولها إلى حزب الله. وفي هذا السياق، كشف رئيس اتحاد الغرف اللبنانية، محمد شقير، أن السلطات السعودية باتت تستغرق ما بين 3 إلى 4 أيام في التحري عن هوية المرسل والجهة التي يتم تحويل الأموال إليها.
كما اضطلع اتحاد المصارف العربية بجهود مهمة فيما يتعلق بتجفيف منابع تمويل الإرهاب، حيث أصدر الاتحاد مجموعة من المبادئ التوجيهية التي تتماشى مع أحكام القانون الدولي والاستراتيجية الدولية للأمم المتحدة بشأن مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، لتحديد الخطوات الأساسية التي ينبغي القيام بها من قِبل أعضاء الاتحاد والمجتمع الدولي لتعطيل مصادر العائدات الإرهابية، وحظر نقل واستخدام الأموال وجميع الموارد الاقتصادية للكيانات الإرهابية، ومنع التعامل مع منظومة "اقتصادات الإرهاب" بكافة صورها.
إجراءات وحملات دولية
في أعقاب الإجراءات الإقليمية التي قادتها المملكة العربية السعودية ضد حزب الله، اتجهت الولايات المتحدة إلى تفعيل "قانون حظر التمويل الدولي لـحزب الله" الصادر في عام 2015، بعد أن أسفرت تحقيقات سلطات إنفاذ القانون في واشنطن وبعض العواصم الأوروبية عن الكشف عن تدشين حزب الله كيانات وسيطة لتهريب المخدرات وغسل الأموال في جميع أنحاء العالم لشراء صفقات سلاح يتم استخدامه في الصراع الدائر في سوريا.
وفي أبريل 2016، أعلن مكتب مراقبة الأصول الخارجية في وزارة الخزانة الأمريكية OFAC عن البدء في تطبيق عقوبات بموجب "قانون حظر التمويل الدولي لحزب الله" على المصارف المخالفة، حيث تشمل العقوبات منع المصارف الأجنبية من المراسلة والتحويل مع مصارف في الولايات المتحدة، والوضع على لائحة العقوبات الخاصة بهذا القانون، بالإضافة إلى غرامات مالية قد تصل إلى مليون دولار أمريكي على كل مخالفة.
وفي السياق ذاته، قضت محكمة أنتاريو العليا في كندا، في يونيو 2016، بمصادرة 13 مليون دولار كندي، أي ما يعادل نحو 9 ملايين يورو، من الأصول المالية التابعة للحكومة الإيرانية والمجمدة في كندا، ومنحها لعائلات ضحايا اعتداءات سابقة نفذتها عناصر من حزب الله اللبناني، وأوقعت هذه الاعتداءات مئات القتلى والجرحى في بوينس آيرس وإسرائيل ولبنان والسعودية، استناداً لاتهامات أمريكية. وأوضحت المحكمة أن إدانة طهران وتغريمها يأتيان في سياق تحملها مسؤولية تمويل وتدريب حزب الله.
كذلك في إطار الضربات الجوية التي تشنها قوات التحالف الدولي، تراجعت الموارد المالية لتنظيم "داعش" في سوريا والعراق. فطبقاً لتقرير نشرته صحيفة "ديلي تلجراف" البريطانية، في أبريل 2016، يفقد تنظيم "داعش" حوالي 30% من دخله إثر تقلص حجم الأراضي التي يسيطر عليها، وبالتالي خسارة عائداته من الضرائب التي كان يفرضها في هذه المناطق. وتشير التقديرات إلى أن عائدات التنظيم انخفضت من 80 مليون دولار في أبريل 2015 إلى 54 مليون دولار في الشهر نفسه من العام الجاري، ومن المتوقع أن تستمر هذه الموارد المالية في التراجع خلال الأشهر المقبلة في ظل تكثيف قوات التحالف غاراتها ضد "داعش" واستهداف مصادر تمويلها، خاصةً صهاريج النفط، وهو ما يزيد الضغوط على التنظيم ويؤدي لفرار الكثير من مقاتليه.
الاستراتيجيات الإرهابية المضادة
ثمة استراتيجيات مضادة تضطلع بها التنظيمات الإرهابية والدول الحاضنة لها، لتفكيك بنية الحصار المالي لمصادرها التمويلية، ويتمثل أبرزها في التالي:
1- تقليص النفقات والبحث عن موارد جديدة:
في ظل الصعوبات المالية التي يتعرض لها "داعش" جراء حملات تجفيف المنابع التمويلية له إقليمياً ودولياً، عمل التنظيم على تبني مسارين دفاعيين لتخفيف حدة هذه الحملات، وذلك من خلال تخفيض النفقات، والبحث عن موارد جديدة.
فيما يتعلق بالمسار الأول، فقد أكد المرصد السوري لحقوق الإنسان، في مايو الماضي، أن تنظيم "داعش" أقدم على تخفيض جديد للرواتب إلى النصف من 100 دولار أمريكي إلى 50 دولاراً، وهو ما أثار حالة من الاستياء في صفوف التنظيم، ما جعله يعتمد على كوادره الرئيسة من المقاتلين الذين يعتبرون أنشطته "جهاداً" قائماً على اعتبارات دينية خالصة، بغض النظر عن أية مكاسب دنيوية أخرى.
أما المسار الثاني، فقد عمد التنظيم، بعد الهزائم الكثيرة التي تعرض لها، إلى محاولة اكتشاف طُرق جديدة لتعويض النقص المالي والمادي الكبير الذي أصبح يعانيه، حيث لجأ "داعش" إلى رفع أسعار الكهرباء، وفرض ضرائب جديدة، وتوسيع عمليات الاختطاف من أجل الحصول على فدية للإفراج عن الرهائن.
2- الاقتصاد المقاوم:
دشن المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية في إيران آية الله علي خامنئي، استراتيجية "الاقتصاد المقاوم"، في إطار النظرية المستوحاة من فكر المقاومة وقوة الردع التي تنتهجها طهران، للتعامل مع الحصار والعقوبات الاقتصادية المفروضة عليها على مدى عقود سابقة، وإيجاد سُبل تجعل الاقتصاد الإيراني قادراً على التكيف مع الظروف والتطورات الراهنة على الساحة الدولية.
وقد استلهم حزب الله هذه الاستراتيجية الإيرانية، وتبنى ما يُسمى بخيار "المقاومة النقدية" لمجابهة الاستراتيجيات الدولية والإقليمية الرامية لتجفيف مصادره التمويلية، حيث حدّد أول هدف لهذه المقاومة بالمصارف اللبنانية التي وصفها الحزب بـ"المتواطئة مع الولايات المتحدة للنيل من المقاومة وجمهورها". وفي هذا الصدد، ربطت وسائل إعلام لبنانية بين الانفجار الذي استهدف مصرفاً في بيروت، في يونيو الماضي، والتزام البنوك اللبنانية العقوبات التي فرضتها واشنطن على حزب الله، معتبرين أن ما جرى هو رسالة إلى القطاع المصرفي اللبناني بأكمله.
ختاماً، يمكن القول إن تجفيف المنابع المالية للتنظيمات الإرهابية ربما يواجه بعض الصعوبات والتحديات، لاعتبارات تتعلق بتعدد الموارد والمرونة التمويلية لهذه الجماعات، ووجود حواضن إقليمية قوية للبنية التمويلية للإرهاب؛ وتبدو إيران، وفقاً لتقرير وزارة الخارجية الأمريكية السنوي، هي الدولة الأبرز التي ترعى الإرهاب في الشرق الأوسط.
كما أن الموجة الجديدة لتجفيف منابع تمويل الإرهاب في المنطقة ربما لن تكون ذات جدوى ما لم تقترن بحزمة استراتيجيات شاملة؛ سياسية وثقافية ومجتمعية واقتصادية، تقود إلى التأثير في البيئة الحاضنة لهذه التنظيمات الإرهابية.