أخبار المركز
  • د. أمل عبدالله الهدابي تكتب: (اليوم الوطني الـ53 للإمارات.. الانطلاق للمستقبل بقوة الاتحاد)
  • معالي نبيل فهمي يكتب: (التحرك العربي ضد الفوضى في المنطقة.. ما العمل؟)
  • هالة الحفناوي تكتب: (ما مستقبل البشر في عالم ما بعد الإنسانية؟)
  • مركز المستقبل يصدر ثلاث دراسات حول مستقبل الإعلام في عصر الذكاء الاصطناعي
  • حلقة نقاشية لمركز المستقبل عن (اقتصاد العملات الإلكترونية)

مبدأ الموازنة:

كيف احتلت إندونيسيا مكانة دولية في نزع السلاح النووي؟

25 سبتمبر، 2024


عرض: بسنت عادل

في ظل تصارع القوى النووية وتسابق الدول لامتلاك أسلحة الدمار الشامل، تبرز إندونيسيا كصوت فريد ومؤثر يدعو للسلام ونزع السلاح؛ إذ نجحت في الموازنة بين رفضها للأسلحة النووية ودفاعها عن حق جميع الدول في الاستفادة من الاستخدامات السلمية للطاقة النووية؛ مما عزز مكانتها كدولة محورية في رابطة دول جنوب شرق آسيا "آسيان" من خلال موقفها الثابت المناهض للأسلحة النووية.

في هذا الإطار، تناقش الباحثة ألدا أنينديا، في دراسة أصدرتها مؤسسة البحث الاستراتيجي (FRS) في مايو 2024، السياسة النووية الإندونيسية، عبر الكشف عن كيفية قيام جاكرتا بنسج خيوط سياستها النووية بمهارة، متحدية التوقعات وصانعة لنفسها مكانة فريدة في عالم محفوف بالمخاطر النووية.

 تتناول الدراسة التطور التاريخي لموقف إندونيسيا من الأسلحة النووية وجهودها في مجال نزع السلاح النووي، مع التركيز على دورها كقوة إقليمية رائدة في هذا المجال؛ إذ يتتبع التقرير المسار التاريخي لإندونيسيا منذ استقلالها وحتى الوقت الحاضر، مسلطاً الضوء على التحولات الرئيسية في سياستها النووية.

تطور السياسة النووية: 

في أعقاب الاستقلال، أعلنت إندونيسيا موقفها المبدئي المعارض للأسلحة النووية، وقد أكد الرئيس سوكارنو في عام 1958، خلال "اجتماع مناهضة القنابل الذرية والهيدروجينية"، رفض بلاده لسباق التسلح النووي والتقليدي، وعزز وزير الخارجية آنذاك، الدكتور سوباندريو، هذا الموقف مؤكداً عدم امتلاك إندونيسيا لأسلحة نووية أو نيتها السعي لامتلاكها. 

خلال السنوات التالية، أنشأت إندونيسيا "معهد الطاقة الذرية" أو "ليمباجا تيناجا أتوم" لإجراء الأبحاث والتطوير في مجال الطاقة الذرية، كما وقعت إندونيسيا اتفاقية ثنائية لمدة خمس سنوات مع الولايات المتحدة في عام 1960 بموجب برنامج "الذرة من أجل السلام"، وشملت المساعدة النووية من واشنطن تزويد إندونيسيا بمفاعل أبحاث صغير بقوة 250 كيلووات، والذي نفذ أول عملية نووية ناجحة في 17 أكتوبر 1964.

شهدت فترة ما بعد سوكارنو تحولاً ملحوظاً في السياسة النووية الإندونيسية، فقد ركزت الحكومات المتعاقبة على تطوير القدرات النووية السلمية، متجسدة في إنشاء وكالة الطاقة الذرية الوطنية ومفاعلات بحثية، لكن هذا التوجه واجه تحديات تقنية واقتصادية، إضافة إلى تأثير الحوادث النووية العالمية في الرأي العام المحلي.

على الصعيد الدولي، برزت إندونيسيا كداعم قوي لنزع السلاح النووي، معتبرة الأسلحة النووية تهديداً للسلام والأمن الدوليين، تجلى هذا الموقف في مشاركتها الفعالة في المحافل متعددة الأطراف وتشجيعها لاستخدام التكنولوجيا النووية للأغراض السلمية حصراً، ويُعد تصديق مجلس النواب الإندونيسي على معاهدة حظر الأسلحة النووية في نوفمبر 2023، تأكيداً حديثاً لهذا الالتزام.

في الوقت ذاته، واصلت إندونيسيا تطوير برنامجها النووي السلمي، ففي عام 2023، أعلنت عن شراكة مع الولايات المتحدة لبناء أول محطة طاقة نووية بحلول عام 2030، مستخدمة تقنيات متقدمة ومستفيدة من مواردها المحلية، ويعكس هذا المسار التزام الدولة بالتنمية النووية السلمية وسط تفاعلات معقدة بين الطموحات التكنولوجية والاعتبارات الجيوسياسية والاجتماعية الاقتصادية.

التأرجح بين الطموح والالتزام: 

تأرجحت إندونيسيا بين التفكير في امتلاك أسلحة نووية والمشاركة في حركة عدم الانحياز، ومع ذلك، فبعد عام 1967، اتخذت البلاد منعطفاً حاسماً نحو الاستخدام السلمي للطاقة النووية، وتميزت هذه المرحلة الجديدة بالتزام إندونيسيا المتزايد بقضايا نزع السلاح النووي؛ إذ وقعت على العديد من المعاهدات الدولية والإقليمية ذات الصلة، وقد تبنت جاكرتا موقفاً قوياً يدعو إلى القضاء التام على الأسلحة النووية، معتمدة في ذلك على الدبلوماسية متعددة الأطراف وآليات الأمم المتحدة؛ إذ استخدمت إندونيسيا جهودها في مجال نزع السلاح كوسيلة لتعزيز مكانتها على الساحة الدولية.

في الوقت نفسه، نجحت إندونيسيا في تحقيق توازن دقيق بين تطوير برنامجها النووي السلمي والتزامها بمنع انتشار الأسلحة النووية، وركزت جهودها على بناء القدرات التقنية والعلمية المحلية، مع الحرص على الشفافية والامتثال للمعايير الدولية في مجال نزع السلاح، وعلى الصعيد الدبلوماسي، أدت إندونيسيا دوراً نشطاً في المحافل الدولية المتعلقة بنزع السلاح النووي، وأسهمت بشكل فعَّال في المفاوضات حول معاهدات رئيسية مثل معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، وتكيفت مع التحديات الجيوسياسية المتغيرة في مجال الأمن النووي.

تواصل إندونيسيا جهودها الحثيثة في مجال نزع السلاح النووي، متخذة دوراً قيادياً في المنطقة والعالم، وخلال رئاستها للجنة منطقة جنوب شرق آسيا الخالية من الأسلحة النووية، سعت جاكرتا جاهدة لإقناع الدول النووية الكبرى بالتوقيع على بروتوكول معاهدة سيانوزفز، مؤكدة أن أمن المنطقة مرتبط بغياب الأسلحة النووية، وقد تُوجت هذه الجهود بمصادقة إندونيسيا على معاهدة حظر الأسلحة النووية في أوائل 2024، في خطوة وصفها المسؤولون بأنها "الحمض النووي للسياسة الخارجية الإندونيسية".

 قد يؤثر هذا الموقف القوي في الدول المجاورة، التي اختلفت مواقفها بين الدعم، مثل: ميانمار، والتردد كسنغافورة، ويعكس نهج إندونيسيا التزاماً راسخاً بالقضاء على الأسلحة النووية، ويضعها في موقع ريادي في المنطقة والمجتمع الدولي في مجال نزع السلاح النووي؛ مما قد يشجع المزيد من الدول على اتباع نهجها في المستقبل. فبينما لم توقع أستراليا وبابوا غينيا الجديدة على المعاهدة، أبدت بابوا غينيا الجديدة اهتماماً بالانضمام مستقبلاً ودعمت قرارات الأمم المتحدة المؤيدة للمعاهدة، أما أستراليا، فقد عارضت المعاهدة في البداية، لكنها غيرت موقفها مؤخراً إلى الامتناع عن التصويت، ومع ذلك، فإن التزامات أستراليا الأمنية مع الولايات المتحدة، خاصة اتفاقية "أوكوس" الجديدة؛ تجعل انضمامها للمعاهدة أمراً مستبعداً.

 من ثم، يمكن القول إن سياسات هذه الدول تتأثر بشكل كبير بالمنافسة الجيوسياسية بين الولايات المتحدة والصين في المنطقة، وفي هذا السياق، يشير التقرير إلى أن إندونيسيا أعادت تعريف سياستها الخارجية وسط هذه التوترات المتزايدة؛ مما يتطلب فهماً عميقاً لاستراتيجيتها تجاه القوى الكبرى لتقييم موقفها من قضايا منع الانتشار النووي ونزع السلاح. 

التكيف مع التنافس الدولي:

تستعرض الدراسة تكيف موقف إندونيسيا مع مصالحها الاستراتيجية -سواء على المستوى الإقليمي أم العالمي- مع الأخذ بالاعتبار على وجه الخصوص، كيفية توافق موقف البلاد الداعم بقوة لنزع السلاح مع تجدد التنافس بين القوى العظمى في منطقة المحيطين الهندي والهادئ؛ إذ يؤثر التنافس الجيوسياسي بين الولايات المتحدة والصين بشكل كبير في منطقة جنوب شرق آسيا، بما في ذلك إندونيسيا التي تتمتع بأهمية استراتيجية كبيرة بسبب موقعها الجغرافي، لكنها تسعى للحفاظ على الحياد وسط هذا التنافس.

 مع ذلك، تواجه إندونيسيا تحديات أمنية متزايدة مع تعزيز كل من الصين والولايات المتحدة لوجودهما العسكري في المنطقة، واستجابةً لذلك، اتخذت جاكرتا خطوات استراتيجية تركز على الاقتصاد والأمن؛ إذ عززت علاقاتها الاقتصادية مع الصين، لكنها أيضاً عززت تعاونها الأمني مع الولايات المتحدة، وذلك في إطار سعيها للتوازن وتجنب التورط في الصراعات الإقليمية مع الحفاظ على مصالحها الوطنية وأمنها، كما أبدت إندونيسيا قلقها من تحالف "أوكوس" بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا الذي أُعلن عنه في عام 2021، معتبرة أنه قد يؤدي إلى سباق تسلح نووي ويقوض جهود منع الانتشار في المنطقة.

أيّد الرئيس المنتخب، برابوو سوبيانتو، وهو لواء سابق خلال نظام سوهارتو، وله علاقات وثيقة مع القوات المسلحة، تحالف "أوكوس" علناً وأعلن أنه سيوجه إندونيسيا لمواصلة الدفاع عن حقوقها البحرية في ناتونا، مع الحفاظ أيضاً على علاقات جيدة مع واشنطن وبكين. ومع ذلك، من غير المرجح أن يتغير موقف إندونيسيا الحازم بشأن نزع السلاح النووي وعدم انتشاره؛ إذ أثبتت البلاد التزاماتها مراراً وتكراراً من أجل عالم خالٍ من الأسلحة النووية.

 يعكس موقف إندونيسيا من تحالف "أوكوس" التحدي الدبلوماسي الذي تواجهه في التوفيق بين مصالحها الاستراتيجية والتزاماتها الإقليمية؛ إذ تسعى جاكرتا لأداء دور توازني في المنطقة، في محاولة الحفاظ على علاقات جيدة مع القوى الكبرى مع تأكيد أهمية منع انتشار الأسلحة النووية واستقرار منطقة المحيطين الهندي والهادئ، ويُظهر هذا الموقف الدور المهم لإندونيسيا كوسيط إقليمي وقوة معتدلة في ظل التوترات الجيوسياسية المتزايدة، مع التركيز على الدبلوماسية البناءة والحوار لمعالجة المخاوف الأمنية الإقليمية.

ختاماً، تخلص الدراسة إلى أن موقف إندونيسيا من الأسلحة النووية قد تشكل في سياق تاريخي معقد، متأثراً بديناميات الحرب الباردة وحركة عدم الانحياز، فمنذ انتهاء عهد سوكارنو، تخلت إندونيسيا عن طموحاتها النووية السابقة، مؤيدة فقط الاستخدام السلمي للطاقة النووية، وتجلى هذا الموقف في سعيها لإنشاء أول محطة للطاقة النووية في البلاد. من جانب آخر، تؤدي إندونيسيا دوراً بارزاً في دعم نزع السلاح النووي على الصعيد الدولي؛ إذ شاركت بفعالية في تعزيز الاتفاقيات الإقليمية والدولية المتعلقة بحظر الأسلحة النووية ومنع انتشارها، وتستخدم البلاد قنواتها الدبلوماسية لتعزيز التزامها وحشد الدعم الدولي لهذه القضية.

في الآونة الأخيرة، أدت التغيرات في الساحة الدولية والتطورات في منطقة المحيطين الهندي والهادئ إلى زيادة مشاركة إندونيسيا في قضايا نزع السلاح، وذلك في إطار سعيها للحفاظ على موقف محايد وسط تنافس القوى العظمى، خاصة مع تزايد الوجود العسكري الأمريكي والصيني في المنطقة، وترى إندونيسيا أن هذا التنافس قد يؤدي إلى سباق تسلح إقليمي؛ مما يشكل تهديداً للاستقرار في المنطقة، كما تُقدم نفسها كنموذج يُحتذى به للدول الأخرى التي تسعى إلى تحقيق السلام والأمن في عالمٍ مُحاطٍ بالمخاطر النووية.

المصدر:

Alda Anindea, Indonesia’s evolving nuclear policy: the trajectory of a disarmament champion, Fondation pour la Recherche Stratégique (FRS), N°07, May 2024.