يخطط البنك المركزي الروسي لشراء رصيد كبير من العملات غير الدولارية كاليوان الصيني والروبية الهندية، بقيمة قدرها 70 مليار دولار، وذلك في شكل من أشكال التدخل المباشر للبنك في سوق الصرف، بغرض التعامل مع مشكلة الارتفاع المفرط لقيمة الروبل الروسي منذ اندلاع الحرب الأوكرانية في فبراير 2022.
واستحوذت تلك الخطة على دعم وتأييد عدد من كبار المسؤولين الحكوميين الروس، في ضوء انعكاسها الإيجابي المتوقع على الاقتصاد الروسي من ناحية، وعلى تعزيز التقارب الروسي – الصيني من ناحية أخرى، وذلك على الرغم من وجود بعض التحديات التي تواجه التطبيق الفعلي لهذه الخطة.
دوافع مختلفة:
تتجه موسكو لشراء رصيد كبير من العملات الأخرى بخلاف الدولار واليورو في ضوء عدد من الاعتبارات، وهو ما يُمكن إيضاحه على النحو التالي:
1- الحد من ارتفاع الروبل: على عكس المتوقع، شهد سعر صرف الروبل الروسي ارتفاعاً قوياً أمام الدولار الأمريكي منذ اندلاع الحرب الأوكرانية، لتصبح ضمن أفضل العملات أداءً في هذا العام، مدعوماً بالضوابط والقيود التي فرضتها روسيا على عمليات سحب الروس لمدخراتهم من العملات الأجنبية، فضلاً عن ارتفاع فائض الحساب الجاري الروسي بشكل قياسي، والذي تضاعف أكثر من ثلاثة أضعاف على أساس سنوي خلال الأشهر السبعة الأولى من العام الجاري 2022، ليصل إلى 166.6 مليار دولار.
ويبلغ السعر الأمثل لسعر الصرف الروسي، وفق بعض التقديرات، ما يتراوح بين 70 إلى 80 روبل أمام الدولار، مقابل 60 روبل للدولار الواحد حالياً. ومن ثم تحاول السلطات الروسية حالياً التدخل لخفض سعر الصرف والعودة إلى تلك المستويات.
2- تلافي تراجع تنافسية الصادرات: يفرض الارتفاع المفرط لسعر صرف الروبل آثاراً سلبية محتملة على الاقتصاد الروسي، بما في ذلك تراجع تنافسية الصادرات الروسية غير النفطية، حيث يؤدي سعر الصرف المرتفع للروبل إلى زيادة قيمة أسعار الصادرات الروسية بالأسواق الخارجية.
3- تنويع عملات الاحتياطيات النقدية لروسيا: تسمح تلك الخطوة ليس فقط بإعادة بناء الاحتياطيات لدى البنك المركزي الروسي بعد أن تسببت العقوبات التي فرضتها الدول الغربية على روسيا في تجميد جزء كبير من احتياطياتها في الخارج، وإنما أيضاً تنويع الاحتياطيات بالنظر إلى نمو علاقتها التجارية مع بعض البلدان عقب العقوبات، خاصة الصين.
4- تعزيز تقارب الروسي – الصيني: يمثل اليوان الصيني العملة الرئيسية في خطة موسكو لإعادة بناء الاحتياطيات الأجنبية من العملات غير الدولارية، على نحو يدعم الاتجاه الراهن لتدويل العملة الصينية. هذا، وقد بدأت روسيا بشكل متزايد في الاعتماد على السلع الصينية لتحل محل الواردات الغربية بعد العقوبات الغربية على موسكو، والقيود التجارية المفروضة عليها.
وقد دفع ذلك لتصاعد استخدام اليوان في روسيا، لتحتل روسيا المرتبة الثالثة بين أكثر الدول استخداماً لليوان في المدفوعات الدولية في يوليو 2022، وهو اتجاه من المرجح أن يزداد لاسيما مع اتفاق شركة غازبروم الروسية وشركة البترول الوطنية الصينية مؤخراً على استخدام العملات الوطنية الروبل واليوان في تسوية مستحقات صادرات الغاز الروسي إلى الصين. لذ، تدرس روسيا شراء بما يصل إلى 16 مليار يوان حتى نهاية عام 2022.
الآليات الداعمة:
سوف تعتمد روسيا على عدد من الآليات التي تعزز من قدرتها في الحصول على عملات الدول الصديقة وشرائها، وتتضمن ما يلي:
1- اتفاقات مبادلة العملات: على الأرجح سوف يتجه البنك المركزي لعقد اتفاقات مبادلة للعملات المحلية مع البنوك المركزية الأخرى، أو حتى شراء عملات الدول الصديقة من السوق المفتوح عبر ما لديه من عملات صعبة. وجدير بالذكر أن روسيا تمكنت من إعادة تكوين حصيلة كبيرة من النقد الأجنبي، بفضل ارتفاع الإيرادات الحكومية من النفط والغاز الطبيعي.
وتتوقع وزارة الاقتصاد الروسية أن تصل إيرادات صادرات الطاقة الروسية إلى 337.5 مليار دولار هذا العام، بنسبة ارتفاع تصل إلى 38% مقارنة بعام 2021، وذلك في ظل ارتفاع أسعار النفط الغاز على الرغم من انخفاض الكميات المصدرة.
2- تداول عملات الدول الصديقة: تخطط بورصة موسكو لبدء تداول عقود بعض عملات الدول الصديقة، مثل الروبية الهندية، على الرغم من وجود بعض التحديات الماثلة في هذا الشأن حتى الآن. كما أدرج عدد من البنوك الروسية الأخرى عملات مثل اليوان والروبية الهندية في قائمة العملات المتداولة لديها.
3- تسوية المدفوعات بالعملات الوطنية: اتفقت روسيا والصين على استخدام العملات الوطنية الروبل واليوان في تسوية صادرات الغاز الروسي إلى الصين. كما ستدفع تركيا بعض مستحقات واردات الطاقة بالروبل الروسي، وهو الأمر ذاته بالنسبة للهند.
وتحاول روسيا الاعتماد على عملات بديلة للدولار في تسوية التعاملات مع بعض الدول الأخرى، تزامناً مع تفعيل بطاقة "مير" الروسية للدفع الإلكتروني في عدد من الدول.
4- سحب فائض النقد الأجنبي من السوق المحلي: سيتجه البنك المركزي الروسي على الأرجح للتدخل في السوق عبر شراء العملات الأجنبية، ومن ثم زيادة المعروض من الروبل، وذلك فقاً لما أوضحته "إلفيرا نابيولينا" محافظة البنك المركزي الروسي، والأمر نفسه أوضحه أنطون سيلونوف وزير المالية الروسي في وقت سابق، في خطوة تستهدف خفض سعر الصرف.
كما من المرجح إعادة تفعيل قاعدة تحويل فائض الإيرادات الحكومية للنفط المقومة بالعملات الصعبة إلى صندوق الثروة الروسي، الأمر الذي تم تعليقه في أوائل عام 2022 مع تراجع الروبل بشكل حاد، وأدت لتوقف السلطات في روسيا عن شراء العملات الأجنبية. وتحتاج هذه القاعدة حالياً إلى موافقة من قِبل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لإعادة العمل بها.
انعكاسات على الاقتصاد الروسي:
تساهم خطة روسيا لشراء عملات الدول الصديقة في عدد من الآثار الإيجابية على الاقتصاد الروسي، على النحو التالي:
1- كبح ارتفاع أسعار الصرف: تساعد عمليات شراء عملات الدول الصديقة في زيادة أرصدة المعروض النقدي من الروبل لدى البنوك الروسية، مما سيؤدي لكبح ارتفاع سعر تداول العملة الروسية مقابل العملات الأخرى مثل الدولار واليورو في المستقبل.
2- زيادة الإنفاق الحكومي: من المتوقع أن يؤدي عودة الروبل لمستوياته السابقة إلى زيادة مقدار النقد المتاح للإنفاق الحكومي. وتقدر "أكسفورد أناليتيكس" أن انخفاض سعر الصرف بمقدار 10 روبلات روسية يسمح بتوفير 1.2 تريليون روبل إضافية للموازنة.
تحديات محتملة:
من المحتمل أن تواجه روسيا بعض التحديات في دعم اقتصادها عبر شراء عملات الدول الصديقة، وذلك بالنظر للآتي:
1- عدم كفاية السيولة: هناك مخاوف بشأن محدودية السيولة المتاحة من عملات الدول الصديقة، ومن ثم عدم فاعليتها بما يكفي لكبح ارتفاع سعر صرف الروبل. كما لا تمثل الأرقام المعلن عنها حول مقايضة العملات بين المركزي الروسي ونظرائه، سوى حجم محدود من التجارة الخارجية لروسيا مع العالم. ومن جهة أخرى، فإن توفير مزيد من السيولة من العملات الأخرى، مثل اليوان الصيني، سوف يتطلب إقامة علاقات سياسية وثيقة مع بكين.
2- مخاطر التسعير: يفرض إقدام روسيا على إعادة بناء الاحتياطيات عبر عملات غير رئيسية غير مستقرة، مخاطر في تراجع القيمة الحقيقية للاحتياطيات خاصة مع الأخذ في الاعتبار التلقبات الحادة لأسعار صرف تلك العملات. فعلى سبيل المثال تواجه الليرة التركية مخاطر حدوث تراجع في قيمتها مستقبلاً، نظراً للظروف الضاغطة التي يمر بها الاقتصاد التركي.
3- فقدان السيطرة على سعر الصرف: يؤدي الدور الأكبر للروبل في التجارة الدولية إلى خلق مشاكل إضافية للسلطات المالية الروسية. فبمجرد أن تصبح العملة الوطنية مهمة في التجارة الدولية ويبدأ استخدامها بشكل أكبر في الأسواق الخارجية أو ما يعرف (offshore markets)، يفقد مُصدر العملة بعض سيطرته على تحديد سعر الصرف.
وفي الختام، يمكن القول إن اتجاه روسيا لإعادة بناء الاحتياطيات عبر عملات أخرى، سيسمح لموسكو بمزيد من التكيف الاقتصادي في ظل العقوبات الغربية المفروضة عليها، إلا أنها تحمل مخاطر عديدة تتمثل في ضعف السيولة من العملات الأخرى، ومخاطر بناء الاحتياجات بالاعتماد على عملات دولية غير مستقرة في قيمتها.