تعددت في الآونة الأخيرة تصريحات الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، التي تضمنت دعوته للقاء الرئيس السوري، بشار الأسد، وتأكيده ضرورة أن تعود العلاقات الثنائية إلى ما كانت عليه، كذلك ضرورة فرض الحكومة السورية سيطرتها على أراضيها ومواجهة الإرهاب. وجاء الرد السوري على الدعوة التركية متحفظاً بدرجة كبيرة؛ ما دفع العديد من المصادر لتأكيد أن تطبيع العلاقات بين أنقرة ودمشق سيواجه عقبات كثيرة، وأن سوريا ليست مستعدة للتجاوب مع التوجه التركي في الوقت الحالي؛ إلا أن الأيام الماضية شهدت تحركات واضحة سواء من سوريا، أم تركيا، أم روسيا؛ الوسيط الأساسي الذي يسعى إلى دفع عجلة عودة العلاقات بين البلدين.
ومن أهم مظاهر ذلك، عقد وفدين من الاستخبارات التركية والسورية ثلاثة اجتماعات في مناطق الحدود أو التماس الحدودي بين البلدين، ناقشا خلالها أهم القضايا المطروحة والعقبات التي ترى دمشق ضرورة تجاوزها حتى يتم التطبيع والرد التركي على ذلك. وتزامن ذلك أيضاً مع زيارة مبعوث الرئيس الروسي الخاص إلى سوريا، ألكسندر لافرنتييف، لدمشق، في 23 يوليو 2024، ولقائه الرئيس الأسد. كما زار رئيس الاستخبارات الروسية تركيا، والتقى الرئيس أردوغان. وتُوجت هذه الاتصالات بزيارة الأسد روسيا، في 24 يوليو الماضي، وعقده اجتماعاً مع نظيره الروسي، فلاديمير بوتين، تناول قضية العلاقات السورية التركية بدرجة أساسية. أيضاً، زار المبعوث الروسي، لافرنتييف، أنقرة، في 3 أغسطس الجاري، لإجراء مشاورات مع نائب وزير الخارجية التركي، نوح يلماز، حول الملف السوري.
وتعتبر دوائر تركية وسورية أن مجمل الاتصالات المتلاحقة الأخيرة، وما نتج عن الاجتماعات التي عُقدت بين الأطراف المختلفة المعنية بالقضية، قد أعاد قضية عودة العلاقات بين البلدين إلى مسارها الطبيعي، ودفعها نحو تحقيق تقدم خلال الفترة المقبلة. بيد أن ذلك لا ينفي استمرار وجود عقبات على هذا الطريق.
دوافع تركية:
يرتبط الموقف التركي في جوهره فيما يتعلق بتطبيع العلاقات مع سوريا بعدد من الاعتبارات، من أهمها ما يلي:
1- رغبة الرئيس أردوغان في فرض السيطرة على الحدود التركية مع كل من سوريا والعراق، ومواجهة نفوذ حزب العمال الكردستاني بصورة كبيرة، وتقديره أن تطبيع العلاقات مع دمشق وعودة الجيش السوري لضبط الحدود مع تركيا يمكن أن يسهم في فرض السيطرة على الحدود ويؤمن الحدود التركية في النهاية.
2- تقدير أنقرة أن النجاح في عودة العلاقات مع سوريا يمكن أن يسمح بمزيد من التعاون الاستراتيجي في عدد من القضايا الإقليمية المشتركة، على النحو الذي يعزز النفوذ السياسي لتركيا، ويحد من مساحات الحركة أمام بعض القوى الإقليمية المنافسة.
3- توصل تركيا وسوريا إلى تطبيع العلاقات الثنائية بينهما من شأنه أن يساعد الأولى على محاصرة حزب العمال الكردستاني في شرق وشمال شرق سوريا، والذي يمثل الكيان الرئيسي لسلطة الحكم الذاتي الموجودة في شرق سوريا.
موقف دمشق:
تدرك سوريا بوضوح أن توجهات الرئيس أردوغان ومطالبته المتكررة بعودة العلاقات معها لم تتناول قضايا الخلاف الرئيسية، وترى أن عقد لقاءات القمة بين الرئيسين ليس كافياً لحل المشكلات العالقة بين البلدين. ويتحدد الموقف السوري في هذا الخصوص فيما يلي:
1- ترى دمشق أن تركيا اتخذت -ولا تزال- الكثير من المواقف التي تهدد بصورة كبيرة الأمن القومي السوري وكيان الدولة السورية، وعلى رأس هذه المواقف احتلال شمال سوريا، وكذلك دعم جبهة النصرة "فتح الشام" في سيطرتها على محافظة إدلب بالإضافة إلى ما يُسمى "الجيش الوطني" الذي فرض حكومة في مناطق أخرى في منطقة الشمال ويتحكم في المعابر بين سوريا وتركيا في محاولة لإنشاء كيان آخر يسيطر على المنطقة.
2- إن السعي التركي لتطبيع العلاقات الثنائية لا بد أن يرتبط بحسم قضايا الخلاف الرئيسية، وعدم الاكتفاء بالوعود بشأنها، ومنها ما يتعلق بقضايا الانسحاب من الشمال السوري وجدولة هذا الانسحاب، وكذلك الاتفاق على كيفية محاصرة نفوذ وانتشار الفصائل العسكرية وسحب الدعم التركي لها، ومد سيطرة القوات المسلحة السورية في المناطق التي تشغلها تلك الفصائل، بالإضافة إلى إيجاد حل للدعم القائم لجبهة النصرة في محافظة إدلب.
3- ترى دمشق إمكانية التعاون مع أنقرة بشأن قضية سلطة الحكم الذاتي في شرق سوريا، والتي تسعى لتشكيل كيان مستقل، إذا ما تم التفاهم على القضايا المختلفة؛ إذ يمكن أن تتفق سوريا جزئياً مع وجهة نظر تركيا الرافضة لتشكيل تلك القوة كياناً مستقلاً عن الدولة السورية، لكنها ليست بصدد اجتزاء أو اجتياح المنطقة التي تسيطر عليها. وبذلت سوريا جهوداً كبيرة، وبوساطة روسية، للتفاهم مع سلطة الحكم الذاتي لأن تبقى ضمن الدولة السورية، إلا أن الضغوط الأمريكية قد سمحت لتلك السلطة باتخاذ العديد من الإجراءات التي يمكن أن تفضي إلى كيان مستقل في سوريا.
وقد تشهد قضية الانسحاب التركي من شمال سوريا، نوعاً من التفاهم بالعودة إلى اتفاقية "أضنة" التي كانت موقعة بين سوريا وتركيا، وكانت تسمح للقوات التركية بملاحقة حزب العمال الكردستاني والعناصر المرتبطة به داخل الأراضي السورية بعمق خمسة كيلومترات، وإن كان الطرح التركي الحالي يطالب بأن يكون التوغل لحدود 40 كيلومتراً بما يسمح بالوصول إلى المنطقة الرئيسية التي تسيطر عليها سلطة الحكم الذاتي. والحل الوسط المطروح أن يُسمح لأنقرة بمشاركة القوات السورية بالتغلغل في حدود 15 إلى 20 كيلومتراً، بما لا يمس السيادة السورية على أراضيها، وعلى شرط السماح بوصول الجيش السوري إلى الحدود التركية بصورة كاملة.
موسكو وواشنطن:
تتمثل مواقف روسيا والولايات المتحدة بشأن مسألة عودة العلاقات السورية التركية، في الآتي:
1- روسيا: يمثل الموقف الروسي العامل الحاسم فيما يتعلق بمسار تطبيع العلاقات السورية التركية. فموسكو لديها التأثير الكافي في الحكومة السورية والرئيس الأسد لدفعه للتجاوب مع التوجه التركي مع تفهم المطالب التي تطالب بها دمشق، خاصةً الانسحاب التركي من شمال سوريا ومحاصرة الفصائل العسكرية على اختلافها.
ويؤكد تعدد زيارات كبار المسؤولين الروس إلى دمشق وأنقرة في الفترة الأخيرة، أن موسكو تحاول حلحلة قضايا الخلاف الكامنة بين الدولتين، وأن هناك حلولاً وسطاً تُطرح بهذا الخصوص؛ الأمر الذي يوحي بإمكانية عقد لقاء قمة قريب بين الرئيسين السوري والتركي، وأن ثمة مجالاً للتفاهم.
ومن اللافت الحرص الروسي على عدم مشاركة إيران في هذه الاتصالات؛ وهو ما يُرجح عدم حضور الرئيس الإيراني، مسعود بزشكيان، لقاء القمة المزمع عقده بين الرئيسين التركي والسوري، بحضور الرئيس الروسي؛ نظراً لحرص موسكو على أن تتمكن من استعادة الورقة السورية والهيمنة عليها بصورة كبيرة، وأن تخفف من حجم الهيمنة الإيرانية عليها والتي تزايدت في ظل انشغال روسيا بالحرب الأوكرانية.
2- الولايات المتحدة: تدرك واشنطن أن تطبيع العلاقات بين تركيا وسوريا سوف ينعكس بصورة سلبية على سلطة الحكم الذاتي الكردية التي تؤدي دوراً يخدم المصالح الأمريكية على الحدود العراقية السورية. وأدى ذلك إلى دخول المزيد من القوات الأمريكية من العراق إلى منطقة الحكم الذاتي الكردية.
ولا تزال القوات الأمريكية تحتل أهم الآبار البترولية السورية في منطقة الحدود مع العراق. وشهدت الفترة الأخيرة دعم القوات الأمريكية للقوات الكردية في الاستيلاء على محصول القمح، الذي كان يمثل أهمية كبيرة بالنسبة لسوريا، ومنع العشائر الموجودة في تلك المنطقة من التعامل مع الحكومة السورية لممارسة المزيد من الضغوط عليها.
ولا شك أن التقارب التركي السوري المُنتظر خلال الفترة المقبلة، قد بدأ يترك تداعياته على سلطة الحكم الذاتي التي أفرجت مؤخراً عن 1500 عنصر من العناصر التي كانت تابعة لتنظيم داعش ومسجونة لديها؛ وهو ما فسرته بعض المصادر بأنها محاولة من سلطة الحكم الذاتي لاسترضاء العشائر العربية التي تنتمي تلك العناصر لها، وذلك في إطار سعيها لزيادة شعبيتها والحد من التوتر القائم فيما بينها، وتخفيف الارتباط القائم بين تلك العشائر والحكومة السورية.
مسار مُحتمل:
من المُرجح أن تسفر الاتصالات والإجراءات المتلاحقة عن تحقيق تقدم في تطبيع العلاقات بين سوريا وتركيا. ولا شك أن الرئيس بوتين سوف يُولي كثيراً من الاهتمام لعقد لقاء القمة المُنتظر بين الرئيسين أردوغان والأسد في موسكو، وأن تتم حلحلة الخلافات القائمة في حضوره، بما يمثل إنجازاً لروسيا على المستويين الدولي والإقليمي تحتاجه في ظل الظروف التي تواجهها، خاصةً في ظل الحرب الأوكرانية والعقوبات الغربية عليها.
ولا يُتوقع أن يتم التفاهم على جملة القضايا الخلافية بين كل من سوريا وتركيا، لكن من المُرجح أن يتم التفاهم على إطار عام للعلاقات الثنائية بينهما وعلى رؤى خاصة بقضايا الخلاف. ويمكن أن تكون البداية محاصرة الفصائل العسكرية في الشمال السوري وسحب الأسلحة منها، والسماح لقوات الجيش السوري بالدخول إلى مناطق الشمال كمرحلة أولية، على أن تحل محل القوات التركية في تلك المنطقة وأن تكون مدعومة بقوات روسية.
ومن شأن ذلك أن يشكل ضغطاً على سلطة الحكم الذاتي الكردية، التي يتعين عليها مراجعة مواقفها العدائية تجاه النظام السوري، والعمل على إيجاد صيغة تكفل لها البقاء داخل الدولة والتمتع بنوع من الحكم الذاتي بعيداً عن الاستقلالية؛ وهو ما يمكن أن يخفف من ارتباطها بالاستراتيجية الأمريكية بصورة كبيرة. وترى مصادر كردية أنه من الضروري اتخاذ خطوات على هذا النحو مبكراً، خاصةً أنه إذا عاد دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في انتخابات نوفمبر المقبل؛ من المُرجح أن يسحب القوات الأمريكية من سوريا، وهو القرار الذي سبق أن اتخذه خلال ولايته الرئاسية السابقة.
ولا شك أن إعلان إيطاليا، يوم 26 يوليو الماضي، استئناف علاقاتها الدبلوماسية مع سوريا، وما تردد عن أن بعض الدول الأوروبية سوف تتخذ خطوات مماثلة تجاه دمشق في الفترة المقبلة؛ يُعد تحولاً دولياً فيما يتعلق بالتعامل مع النظام السوري، وربما يدفع ذلك الأخير إلى تغيير موقفه فيما يتعلق بالتعامل مع المعارضة السورية في ظل المتغيرات الجديدة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط.
بصفة عامة، من الضروري فهم التوجه التركي لتحسين العلاقات مع سوريا، والذي سبقه نسج علاقات متطورة مع العراق ودول أخرى في المنطقة، ضمن استراتيجية الانتشار التركي في الفترة الأخيرة، وبصورة تحقق لتركيا طموحاتها بأن تكون قوة إقليمية تتعامل مع الاتحاد الأوروبي على هذا المستوى؛ وهو ما قد يمثل عنصر ضغط لتحقيق مطالب أنقرة تجاه الاتحاد الأوروبي.