أكّد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في كلمة له عقب اجتماع للحكومة التركية، في 16 يناير 2024، أن بلاده لن تتوقف عن تدمير ما وصفها بـ "أوكار الإرهابيين" في سوريا، من تل رفعت إلى عين العرب، ومن الحسكة إلى منبج، مُضيفاً أن الوجود العسكري لتركيا خارج الحدود له أهمية حيوية لأمن الوطن وسلامة المواطنين، ولا يمكن التراجع عن ذلك.
اتجاهات التصعيد:
شهدت الفترة الأخيرة، تصعيداً من جانب تركيا تجاه الأراضي السورية، وهو ما يمكن إجماله على النحو التالي:
1- قصف معاقل "العمال الكردستاني": تزايدت وتيرة الهجمات التركية ضد المواقع التابعة لحزب العمال الكردستاني في سوريا والعراق، منذ نهاية ديسمبر 2023، وذلك في ضوء الرد على قيام الأخير بهجوم ضد موقع عسكري للجيش التركي في شمال العراق، أسفر عن مقتل 12 جندياً تركياً، وهو ما أعقبه إعلان وزارة الدفاع التركية بدء حملة قصف جوي على مواقع الحزب في كل من شمال العراق وشمال شرق سوريا، رداً على ما تعرض له الجنود الأتراك. وقد أشار أردوغان في كلمته المُشار إليها إلى تمكن قوات بلاده تدمير نحو 60 منشأة تابعة لحزب العمال الكردستاني، منذ 12 يناير 2024، بالإضافة لما أشارت إليه التقارير من مقتل عدد من عناصر الحزب نتيجة للقصف التركي خلال الفترة الماضية.
2- مواصلة استهداف "قسد": واصلت تركيا هجماتها المُكثّفة على المناطق التابعة لـ"قسد" (قوات سوريا الديمقراطية والتي يشكل الأكراد قوامها الرئيسي)، إذ أعلنت أجهزة الاستخبارات التركية عن 3 عمليات نوعية استهدفت قيادات من "وحدات حماية الشعب الكردية" - أكبر مكونات "قسد"-، فيما أعلن أردوغان قصف 114 هدفاً وتحييد نحو 78 عنصراً في العمليات الجوية بسوريا والعراق في الأيام الأولى من يناير 2024.
ومن جهة أخرى، فقد ركّزت الضربات التركية بشكل أساسي على تدمير المؤسسات والمنشآت الكردية، إذ استهدفت أولى الضربات التي شنتها أنقرة، على شمال سوريا في 25 ديسمبر 2023، محطة الكهرباء في حي ميسلون، ومحطة القطار وموقع تخزين المحروقات "سادكوب"، ومواقع خدمية واقتصادية أخرى، كان من بينها حقول نفطية تديرها "الإدارة الذاتية"، أبرزها حقول "عودة" النفطي والسعيدة الواقع في ريف مدينة القامشلي، الأمر الذي أدى لتوقف محطات النفط والطاقة شمال شرقي سوريا وأصبحت خارج الخدمة. وفي هذا السياق، فقد أعلنت الإدارة الذاتية الكردية، في 15 يناير 2024، عن أن تجدد القصف التركي على محطات لتوليد الكهرباء شمال شرقي سوريا، أدى إلى انقطاع التغذية وانقطاع الكهرباء عن مئات القرى والبلدات.
مُحفزات مُتعددة:
ثمّة مُحفزات قد تكون الدافع وراء تصعيد أنقرة لعملياتها في سوريا خلال الفترة المُقبلة، تتمثل أبرزها فيما يلي:
1- تراخي واشنطن في صد الهجمات التركية: قد يكون تراخي واشنطن في ردع القصف التركي على المواقع الكردية، عاملاً مُحفزاً أمام تركيا لتصعيد عملياتها في سوريا، فبعد ساعات من قيام طائرة أمريكية من طراز "أف-16" بإسقاط طائرة تركية من دون طيار توغلت على بعد نصف كيلومتر من قاعدة أمريكية في أكتوبر 2023، شنت طائرات تركية من دون طيار عدة ضربات على بعد كيلومتر واحد من قاعدة أمريكية في شمال شرق سوريا، مما دفع القوات الأمريكية إلى الاحتماء بالمخابئ، مما دفع السيناتور الجمهوري، راند بول، للدعوة إلى سحب القوات الأمريكية المنتشرة في سوريا، في أعقاب الهجمات المتكررة على القوات الأمريكية وقوات التحالف الدولي المتمركزة في نهر الفرات في سوريا. وربما يحفز ذلك القوات التركية في سوريا للاستمرار في قصفها المواقع التابعة للأكراد دون الخشية من ردة الفعل الأمريكية إزاء ذلك.
2- تنافس تركي إيراني في سوريا: قد يدفع التنافس بين طهران وأنقرة في سوريا إلى قيام تركيا بتكثيف عملياتها العسكرية في الأخيرة، إذ أظهر عام 2023 أن العلاقات بين دمشق وطهران قد شهدت تنامياً كبيراً على المستويات العسكرية والاستراتيجية، بالإضافة لتحول سوريا لساحة صراع أمريكي إيراني، ما يُشير لضعف احتمالات خروج طهران من سوريا، لذلك من المرجح الّا تترك أنقرة الساحة السورية المجاورة لها لصالح مُنافستها التاريخية إيران، وهو الأمر الذي قد يدفع أنقرة لتكثيف عملياتها للحفاظ على نفوذها هناك.
3- مُناورات واشنطن مع "قسد": في مطلع يوليو 2023، أعلنت القوات الأمريكية عن البدء في مناورات عسكرية مع قوات سوريا الديمقراطية "قسد" تشمل تدريبات جوية في محافظتي الحسكة ودير الزور، وتزايدت وتيرة التدريبات المشتركة في الفترة الأخيرة بسبب الحرب في غزة، وفي 9 ديسمبر 2023، أجرت قوات أمريكية بمشاركة التحالف الدولي تدريبات عسكرية مشتركة مع "قسد" باسم "السهم الأزرق" في إحدى القواعد الأمريكية في الحسكة استمرت 5 أيام، الأمر الذي أثار غضب أنقرة ووصفته بـ"أنشطة واشنطن مع التنظيمات الإرهابية" وطالبت واشنطن بإنهاء الدعم والمساعدات العسكرية التي تقدمها لـ"قسد"، لذلك قد تكون تلك المناورات سبباً في تصعيد أنقرة لعملياتها في سوريا، ولاسيما وأنها أعلنت في أعقاب المناورة الأخيرة عن مواصلة عملياتها ضد "قسد".
4- جمود مساعي التطبيع: قد يكون الجمود الذي سيطر على عملية التطبيع بين أنقرة ودمشق سبباً في تصعيد العمليات التركية في سوريا، إذ سيطر الجمود على مُحادثات التطبيع، بعد آخر اجتماعات بين أطراف مسار التطبيع الأربعة على مستوى نواب وزراء الخارجية على هامش اجتماعات الدورة الـ20 لـ"مسار أستانا"، والتي عقدت في كازاخستان يومي 20 و21 يونيو 2023، ويرجع ذلك بشكل أساسي إلى تشبث طرفي الأزمة بشروطهما، وعدم تقديم أي تنازلات للطرف الآخر من شأنها حلحلة هذا الملف.
سيناريوهات مُحتملة:
ما يزال مُستقبل عملية التطبيع التركي السوري غامضاً خلال 2024، ولكن يمكن أن تسير تلك العملية وفق سيناريوهات مستقبلية محتملة، تتمثل أبرزها فيما يلي:
1- السيناريو الأول: دفع التطبيع قدماً: يرجح هذا السيناريو أن يتم دفع المحادثات بين أنقرة ودمشق قدماً باتجاه التطبيع، ولاسيما وأن وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، قد أعلن في 3 يناير 2024، عن استمرار محادثات الاجتماع الرباعي، على مستويات مختلفة، ويستند هذا السيناريو لعدة مؤشرات أبرزها؛ أن البعض يعتقد بأن الأزمات قد تكون حافزاً لتجديد الحوار بين تركيا وسوريا، فالحرب التي تشنها إسرائيل على غزة في الوقت الحالي، قد تمثل نقطة التقاء وتجمع بين أنقرة ودمشق، فيما تحظى القضية السورية بأهمية خاصة بالنسبة لوزير الخارجية التركي، نظراً لدوره المحوري في تسهيل المحادثات بين أنقرة ودمشق، عندما كان يرأس الاستخبارات التركية، الأمر الذي قد يدفعه للعمل على إحياء تلك المحادثات في اتجاه التطبيع.
ومن جهة أخرى، فقد قدمت أنقرة عرضاً لنظام الأسد ضمن مسار إعادة العلاقات بين الجانبين، على لسان وزير الدفاع التركي، مفاده الانسحاب التام من سوريا بشرط اتفاق المعارضة والنظام، تبع ذلك حديث الرئيس السوري بشار الأسد عن إصلاحات بحزب البعث في سوريا وعن أهمية الانتخابات، مُعتبراً أنها الطريق الأفضل لاختيار قيادات حزبية جديدة، الأمر الذي ربطه خبراء بمحاولات انفتاح الحكومة السورية على محيطها الخارجي بما فيها مشروع التطبيع بين أنقرة ودمشق.
2- السيناريو الثاني: استمرار الجمود الحالي: وهو السيناريو الأكثر ترجيحاً، ويرى هذا السيناريو، أن الوضع بين أنقرة ودمشق، سيستمر في اتجاه الجمود الراهن لعملية التطبيع بينهما، خاصة مع تراجع أعداد اللاجئين السوريين بنسبة 10% في عام 2023، فقد أكدت إدارة الهجرة التركية أن أعداد اللاجئين السوريين في تركيا الآن هي الأدنى منذ 7 سنوات، مما قد يعطي أردوغان فرصة لتفادي الانتقادات من المعارضة التي تضغط من أجل ترحيل السوريين لبلادهم؛ والذي لن يتم سوى بالتطبيع مع دمشق، كما يستند هذا السيناريو لعدة مؤشرات؛ أبرزها عودة سوريا لجامعة الدول العربية، التي جعلت نظام الأسد يشعر بأن التطبيع مع تركيا ليس أولوية. بالإضافة لذلك، فإن الشروط التركية ما تزال عائقاً أمام التطبيع التركي السوري. كما أن الشروط السورية الخاصة بانسحاب كامل للقوات التركية من الأراضي السورية ما تزال غير مقبولة تركياً، وحال تحقق هذا السيناريو ستستمر العمليات العسكرية التركية ضد الأكراد، لكن من دون الوصول لمرحلة العمليات الشاملة.
3- السيناريو الثالث: عملية عسكرية شاملة: من المرجح وفقاً لهذا السيناريو، أن تتصاعد حدة التوتر بين تركيا وسوريا، من خلال إطلاق أنقرة لعملية عسكرية شاملة في سوريا ضد الأكراد وذلك من دون تنسيق مع الحكومة السورية، إذ يرجح البعض بأن تركيا ستكون خلال 2024 أكثر حزماً وأشد عسكرياً ضد الانفصاليين الأكراد في سوريا والعراق، فعلى الرغم من أن أي عملية برية مُحتملة ضد جميع المناطق في شمال سوريا، قد تُعرض تركيا لخطر التوتر مع واشنطن، فإن تراجع قدرة الأخيرة على كبح العمليات التركية، بالإضافة لاحتمالات طرح انسحاب القوات الأمريكية من سوريا مرة أخرى في حال إعادة انتخاب دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقرر إجراؤها عام 2024، قد يعزز ميزان القوة لصالح أنقرة في سوريا، ويدفعها نحو تدشين عملية عسكرية شاملة تسيطر بها على كافة المناطق التي تسبب لها القلق.
وفي التقدير، يمكن القول إنه في ضوء معطيات الموقف الراهن بين أنقرة ودمشق، فإنه لا يمكن التكهن بمستقبل تطبيع العلاقات بين أنقرة ونظام الأسد خلال 2024، وسط غموض استعادة المحادثات بين البلدين، واحتمالات تدشين تركيا لعملية شاملة في سوريا، في إطار التصعيد التركي المكثف في شمال شرق سوريا على مواقع الإرهابيين والأكراد، لذلك من المرجح أن تفرز الأيام المقبلة حراكاً قوياً من قِبل واشنطن وموسكو، وأيضاً طهران، مما قد يزيد الأوضاع سوءاً في سوريا، نظراً لتقاطع مصالح الدول الموجودة عسكرياً في سوريا، وإصرارها جميعاً على الاستمرار في البقاء داخل سوريا.