إعداد: ناهد شعلان
تسعى مجموعة من الشركات العالمية مثل جوجل، إلى العمل على تدشين مشروعات تكنولوجية لإنتاج وتطوير سيارات ذاتية القيادة، وذلك رغبةً في تقليل عدد حوادث الطرق التي تسفر عن مقتل ما يقرب من 30 ألف فرد سنوياً، وتشير الإحصائيات إلى أن 95% من هذه الحوادث تكون نتيجة لأخطاء بشرية.
كما يقف وراء مساعي إنتاج مثل هذا النوع من السيارات، تقليل الآثار السلبية لرحلات السفر الطويلة على الصحة الجسدية والعقلية للسائقين، كما أنهم يقضون وقتاً أقل مع عائلاتهم وأصدقائهم؛ فوفقاً للإحصائيات، فإن 86% من الموظفين الأمريكيين يقودون صباحاً سياراتهم إلى عملهم ويعانون من الاختناقات المرورية.
ولكن تضاربت الأقوال حول جدوى هذه التكنولوجيا، فالبعض يرى أنها ستُقلل الحوادث بنسبة 90%، وتساعد في حفظ الوقت والطاقة والمجهود، وتوفير ما يقرب من 300 مليار دولار للشعب الأمريكي، فيما أعرب آخرون عن القلق من تطبيق مثل هذه الفكرة.
في هذا السياق، تأتي دراسة "جون سي. سوليفان" Jhon C. Sullivan، المتخصص في تكنولوجيا المعلومات والعلوم السياسية بجامعة نوتردام الأمريكية، والمُعنونة: "ماذا سيقود مستقبل السيارات ذاتية القيادة؟"، وهي الدراسة المنشورة عن "معهد المشروع الأمريكي لأبحاث السياسة العامة" AEI. ويستعرض خلالها الكاتب المحددات التي تؤثر على رغبة المُنتِج في إنتاج مثل هذا النوع من السيارات وطرحها في السوق، وكذلك العوامل التي تؤثر على المستهلك لشراء السيارات ذاتية القيادة.
هل تنتشر السيارات ذاتية القيادة سريعاً؟
يطرح الكاتب سؤالاً هاماً حول معدل انتشار السيارات ذاتية القيادة، فهل ستكون سريعة الانتشار على نطاق واسع ويتم تطبيقها عالمياً كما حدث بالنسبة لآلة الفاكس في الثمانينيات؟ أم ستستغرق وقتاً طويلاً كما حدث بالنسبة للهواتف التي تستخدم خاصية الفيديو، والتي لم يتم الاتجاه اليها إلا مع ظهور الهواتف الذكية؟
ويتطرق الباحث في هذا الصدد إلى نظرية "إيفريت روجرز" Everett Rogers حول انتشار الابتكارات، والتي تنص على أن "اتجاه المستهلك لتبني تكنولوجيا جديدة يتضاعف مع الوقت، ثم يتضاءل تدريجياً كلما اتجه عدد أكبر من المستهلكين نحو تبني هذه التكنولوجيا، أي أنه يتباطأ عندما يصل إلى معدل الكتلة الحرجة، وهي التي يتحقق عندها أعلى نسبة من المستهلكين لهذه التكنولوجيا، ولا يعني ذلك تبني هذه التكنولوجيا بنسبة 100%، حيث سيظل هناك نسبة من الأفراد يقاومون تلك التكنولوجيا الجديدة".
ومن خلال تتبع تاريخ تبني واعتماد التكنولوجيا والاختراعات الجديدة، يتبين أن الوقت اللازم لاعتماد التكنولوجيا أو الاختراع الجديد من قِبل الكتلة الحرجة (أي أكبر نسبة مُستهلكين) يتضاءل تدريجياً. فعلى سبيل المثال، بينما استغرق انتشار استخدام السيارات ما يقرب من 65 عاماً ليصل إلى نسبة 80%، استغرق انتشار الهواتف الخلوية أقل من 20 عاماً. وبناءً على ذلك، يمكن التنبؤ بأن انتشار السيارات ذاتية القيادة يحتاج إلى أقل من 20 عاماً لتحقيق نسبة 80% من معدل الاعتماد.
ولكن هذه العملية قد لا تكون سلسة التطبيق على أرض الواقع، وذلك لعدة أسباب، منها أن ذلك النوع من السيارات يمثل تغييراً جذرياً لقطاع المواصلات، ويطرح العديد من التساؤلات حول معدل الأمان والثقة في هذا النوع من التكنولوجيا، والتي قد تجعل من منحنى اعتماد السيارات ذاتية القيادة قريب من نظيره للسيارات الأولية. ومن ناحية أخرى، فإن وجود تكنولوجيا جديدة لا يعني اتجاه المنتجين إلى طرحها، حيث إن الفوائد المحتملة لتكنولوجيا ما لا تعني سهولة إدخالها وطرحها في السوق وتحقيقها للمكاسب.
العوامل المحددة لإنتاج السيارات ذاتية القيادة
يطرح الكاتب في هذا الصدد مجموعة من العوامل التي تؤثر في اتجاه المُنتِجين لاعتماد ونشر السيارات ذاتية القيادة، وقد لخصها في خمسة عوامل لا يجب فصل إحداهما عن الآخر، وهي:
1- جدوى التكنولوجيا: في العموم فإن الجدل قليل حول جدوى تكنولوجيا السيارات الذاتية، لأن هناك بالفعل العديد من السيارات المتضمنة بعض الأنظمة التي تعمل تلقائياً دون تدخل بشري، مثل تكيف السيارة مع السرعات المختلفة، والتعرف على المخاطر المحيطة. ولكن المعضلة تكمن في أنه كلما أردنا بلوغ تكنولوجيا أكثر دقة تُضاهي أو تزيد عن القدرات البشرية في الملاحظة والتتبع واختيار رد الفعل، كلما زادت التكلفة، وهي أحد العوامل التي تحكم عملية اختيار إنتاج سلعة معينة.
2- البنية التحتية الرقمية: وتنقسم إلى مكونين رئيسيين لا يمكن فصلهما عن بعض، وهما:
أ: تكنولوجيا الخرائط؛ حيث تحتاج السيارات ذاتية القيادة إلى أنظمة خرائط تفصيلية ودقيقة تُمكنها من ترجمة الواقع المحيط، وما يجعل من هذا النظام مُمكناً هو أن السيارات يُمكنها أن تبث معلومات عن محيطها إلى سيارات أخرى في إطار منظومة مركزية للخرائط. ولكي يتم ذلك تحتاج تلك المنظومة إلى المكون الثاني.
ب: الاتصال الدائم بشبكة الإنترنت؛ وهو المكون الثاني للبنية التحتية الرقمية، وبالتالي إذا كانت بعض الشوارع غير متصلة بالإنترنت فإنها ستُقلل من كفاءة وقيمة ذلك النظام من حيث معدل الأمان.
3- المسؤولية والعقبات التنظيمية: من أهم العقبات التي تواجه انتشار السيارات ذاتية القيادة هي فكرة المسؤولية، أي من سيتحمل المسؤولية إذا ما تعرضت إحدى هذه السيارات لحادث طريق. وبالتالي، فإن الشركات المنتجة ستكون مضطرة إلى رفع معدل الأمان بالنسبة لهذه السيارات، ما سيزيد من تكلفتها ويقلل من عزيمة الشركات على إنتاجها.
ومن ناحية أخرى، قد تقلل القوانين التنظيمية من قيمة المنتج المُقدم، فمثلاً إذا تم تقييد عملية جمع ومشاركة البيانات اللازمة لضمان جودة عمل تلك السيارات، فإن قيمتها ستقل بالنسبة للمستهلك. ولكن نظراً لأن القوانين والقواعد التنظيمية لاتزال في طور الإعداد، فإنه من الصعب التنبؤ بنتائجها، وإن كان ثمة ضرورة لأن تُؤخذ مثل هذه العوامل في الاعتبار.
4- اختلاف نماذج الأعمال: يرى الباحث أن اتباع نموذج "تقاسم السلعة" مثل الذي تقدمه شركتا Uber و Lyftوالذي يقضي بأن يحصل المستهلك على السلعة عند احتياجه لها وليس من الضروري أن يتملكها، قد يزيد هذا النموذج من معدل اعتماد السيارات ذاتية القيادة من خلال زيادة عدد المستهلكين، حيث إنه قد يتشارك عشرة أفراد في سيارة واحدة. ومع ذلك، فإن هذا لا يضمن أن يقوم كل منهم بشراء سيارة مستقلة له فيما بعد، ما يقلل من الطلب على هذه التكنولوجيا على المدى الطويل، وبالتالي تصبح غير مُحفزة للمُنتِجين لدخول السوق.
5- الربحية: إذا كانت تكلفة نشر وترويج ذلك المُنتَج عالية بالنسبة للمُنتِجين، فإنهم سيحجمون عن إنتاجها، لأن المُنتِج في النهاية يريد تغطية تكلفة الإنتاج وتحقيق هامش ربح. وتتعلق أيضاً الربحية بالتنافسية، فإذا لم يكن بمقدور كل شركة أن تقوم بتقديم ما يُميزها عن الشركة الأخرى، فإن التنافس سيكون حول الأسعار، والذي قد يفضي بأن لا تصل بعض الشركات إلى السعر المناسب الذي يضمن لها تحقيق أرباح، وبالتالي ستقل قدرتها على التطوير.
ويرى الكاتب أن أفضل طريقة لتخطي هذه العقبة تكون بالتعاون بين أكثر من جهة قد تشترك في المُنتَج، كأن أن تقومGoogle بقصر نظام عملها للسيارات الذاتية على الأنظمة التشغيلية للأندرويد فقط.
محددات شراء المستهلكين لهذه السيارات
يناقش الكاتب في هذا الإطار خمسة عوامل قد تُسرع أو تُبطئ من عملية اتجاه المستهلكين لشراء واعتماد تكنولوجيا السيارات ذاتية القيادة، وهي:
1- درجة تحسين القيادة: يعتمد ذلك على المزايا والخدمات التي ستُقدمها تلك السيارات للمستهلك، فيجب أن تكون مصممة لتوفر أقصى درجات الراحة والترفيه، والتي تُمكن المستهلك من استخدام وقت القيادة في إنجاز مهام أخرى. ولكن يتعين أيضاً الأخذ في الاعتبار النتائج السلبية لتلك الأنظمة، حتى ولو كانت تتعلق بفئة قليلة، فالبعض يستمتع بالقيادة أو بالوقت الذي يقضيه مع أفراد عائلته أثناء القيادة، وهو أمر مرتبط بالمنظومة الثقافية للمجتمع الأمريكي.
2- الأمان: فمعدل الأمان الذي يُوفره نظام قيادة السيارة هو من أهم المحددات بالنسبة للمستهلك لاتخاذ القرار بالشراء. وعلى الرغم مما أعلنته "جوجل" من أن تجربتها للسيارة الذاتية لمسافة 700 ألف ميل قد نجحت، ولم تُسفر عن أي حادثة إلا مرة واحدة حين تدخل أحد القائمين على التجربة لقيادة السيارة، ومع ذلك فإن نسبة 49% فقط من الأمريكيين والبريطانيين قد يشعرون بالراحة عندما يستقلون سيارة ذاتية القيادة، كما أعرب 43% من البريطانيين عن قلقهم حيال تلك السيارات.
3- الخصوصية والتأمين: على الرغم من أن ذلك النوع من السيارات قد يُقلل من عدد حوادث الطرق، بيد أنه يطرح مشكلة أخرى، وهي أنه يتم اختراق نظام بيانات السيارة عن طريق القراصنة الإلكترونيين، وتوليهم زمام القيادة؛ فحوالي 52% من الأمريكيين لديهم اعتقاد بذلك. في حين أن 37% منهم يخشون أن يتم تجميع واستخدام بيانات قيادتهم الشخصية.
4- أسعار هذه السيارات: تتعلق هذه النقطة بمدى استعداد المستهلك لأن يدفع ثمناً ما مقابل الحصول على ميزة معينة. فقد أظهرت الدراسات أن 20% فقط من الأمريكيين مُستعدين لدفع زيادة قيمتها 3 آلاف دولار عن ثمن السيارات التقليدية، في حين أن الحصول على سيارة ذاتية القيادة قد يُكلف من 7 إلى 10 آلاف دولار زيادة عن ثمن السيارة التقليدية، ولن تنخفض تلك الزيادة إلى 3 آلاف دولار إلا بحلول عام 2035، ما قد ينتج عنه عزوف المستهلكين عن شراء هذا النوع من السيارات.
5- التأثيرات الشبكية: يرى الكاتب أن هذه التأثيرات الشبكية Network effects ستُعزز من قيمة اتصال السيارة بأخرى. وكلما ازداد نسبة المعلومات التي توفرها السيارة عن محيطها، كلما ازدادت قيمتها، وساعدت على توفير نظام أكثر أماناً، وقللت من الاختناقات المرورية.
مُجمل القول، ثمة عوامل تؤثر في سلوك المُنتِجين لإنتاج السيارات ذاتية القيادة، وبالمثل هناك محددات ذات صلة بشراء المستهلكين لهذا النوع من تكنولوجيا السيارات. ويؤكد الكاتب على أن هناك تفاعلاً وتأثيراً متبادلاً بين هذه العوامل وتلك المحددات، فمثلاً قد تقلل الضوابط والقيود التنظيمية من قيمة التأثيرات الشبكية؛ وإذا كان القانون يحد من جمع واستخدام البيانات، فإنه سيؤثر سلباً على عمل الشبكة ويقلل من قدرتها على توفير نظام أكثر أماناً، وبالتالي تقل قيمتها بالنسبة للمستهلك، وتقل رغبته في الشراء ويعقبها عدم رغبة المُنتِجين طرح هذا المنتج في السوق لقلة المبيعات منه.
* عرض مُوجز لدراسة "ماذا سيقود مستقبل السيارات ذاتية القيادة؟" والمنشورة في مايو 2015 عن "معهد المشروع الأمريكي لأبحاث السياسة العامة".
المصدر:
Jhon C. Sullivan, What will Drive the Future of Self- Driving Cars? (Washington, American Entreprise Institute, May 2015)