جرت المرحلة الأساسية من الانتخابات التشريعية اللبنانية يوم الأحد 15 مايو 2022 بعدما سبقتها مرحلة انتخاب اللبنانيين المغتربين يومي 6 و8 مايو 2022. وكانت السمة الأساسية في هذه الانتخابات هي ضعف الإقبال على التصويت، سواء داخل لبنان أو خارجه، بالإضافة إلى تراجع واضح في وزن حزب الله وحلفائه، من المسيحيين والسنة والدروز.
تباين الأوزان السياسية:
تكشف النتائج النهائية للانتخابات البرلمانية اللبنانية عن عدد من الدلالات، والتي يمكن توضيحها على النحو التالي:
1- تراجع نسبة المصوتين: انخفضت نسبة التصويت في الانتخابات اللبنانية الأخيرة بشكل لافت عن نسبة التصويت في انتخابات 2018؛ إذ بلغت نحو 41.3% حسب المؤشرات الأولية، فيما بلغت النسبة عام 2018 نحو 50%. وكذا تعد هذه النسبة هي الأدنى في تاريخ الانتخابات اللبنانية منذ عام 1992، التي بلغت نسبة التصويت فيها نحو 29.6% فقط.
ويعود هذا العزوف عن المشاركة في الانتخابات إلى عدة أسباب أساسية، أولها الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يعيشها اللبنانيون، والتي جعلت الهم المعيشي هو الشغل الشاغل لهم متقدماً على الاهتمام بالمشهد السياسي. وثاني الأسباب هو تبدد آمال التغيير التي كانت في أوجها بعد الحراك الشعبي في أكتوبر 2019؛ وذلك بعدما استطاعت القوى السياسية التقليدية إعادة التموضع داخل المشهد السياسي، والالتفاف على الغضب الشعبي والمبادرات الداعية للتغيير والإصلاح.
2- حفاظ الثنائي الشيعي على وزنهما الانتخابي: أظهرت نتائج الانتخابات حصول الثنائي الشيعي، حزب الله وحركة أمل، على 28 مقعداً، وهو ما يقارب عدد المقاعد التي حصلا عليها في انتخابات عام 2018؛ والمقدرة بـ 27 مقعداً، ليواصلا بذلك هيمنتهما على الطائفة الشيعية.
3- خسارة موجعة لحلفاء حزب الله: كشفت النتائج النهائية عن تعرض حلفاء حزب الله لانتكاسة انتخابية واضحة، إذ خسر التيار الوطني الحر، الحليف المسيحي لحزب الله، وزنه باعتباره الكتلة المسيحية الأكبر داخل مجلس النواب بحصوله على نحو 18 مقعداً فقط، وذلك بعدما حصل على 20 مقعداً في الانتخابات السابقة، في حين أن خصمه حزب القوات اللبنانية قد حصل على 20 مقعداً.
كما فشل حزب الله في إيصال حلفائه من السنّة والدروز كذلك إلى البرلمان. ومن أبرز الخاسرين من حلفاء الحزب نواب الحزب السوري القومي الاجتماعي، وكذلك مرشحون دروز وسنة مقربون منه ومن دمشق، مثل السياسي الدرزي طلال أرسلان، والذي حافظ على عضويته في مجلس النواب منذ عام 1992، وعلى مدار ثلاثين عاماً تالية.
وقد ترتبت على ذلك الأمر خسارة حزب الله وحلفائه الأغلبية التي كانوا يتمتعون بها في البرلمان اللبناني، فقد كان الحزب يمتلك نحو 71 مقعداً من إجمالي 128 مقعداً (عدد مقاعد البرلمان اللبناني) إلى حوالي 62 مقعداً، أي أقل من الأغلبية المقدرة بحوالي 65 مقعداً.
4- ارتفاع تمثيل القوى المناوئة لحزب الله: توضح النتائج النهائية للانتخابات أن ما يمكن تسميتهم بالقوى المعارضة للحكومة السابقة بقيادة الرئيس اللبناني ميشال عون، وحليفه حزب الله، قد استطاعت تأمين اختراق قوي داخل مجلس النواب. فقد حصلت القوى المناوئة لحزب الله على 52 مقعداً، كما أن قوى التغيير حصلت على 15 مقعداً أخرى. وفي حال انضمام قوى التغيير إلى القوى المناوئة لحزب الله، فسوف يرتفع وزنهم إلى 67 مقعداً، أي امتلاك الأغلبية في البرلمان الجديد، خاصة إذا لم ينجح حزب الله وحلفاؤه في استقطاب أي منهم لصفوفه.
وتتمثل أبرز القوى الفائزة في حزب القوات اللبنانية بزعامة سمير جعجع، والذي ارتفعت حصته من المقاعد بشكل تدريجي من 8 مقاعد عام 2009 إلى 15 مقعداً عام 2018، وصولاً إلى نحو 20 مقعداً حسب النتائج النهائية للانتخابات الأخيرة، ليصبح بذلك الكتلة المسيحية الأكبر داخل البرلمان. كما أن الحزب التقدمي الاشتراكي بقيادة وليد جنبلاط، السياسي الدرزي، قد حصل على تسعة مقاعد، في حين أن الكتائب اللبنانية حصل على 5 مقاعد.
ملامح المرحلة التالية:
ستكون للانتخابات البرلمانية الأخيرة تأثيرات كبيرة على المشهد السياسي للبلاد خلال الفترة المقبلة، وأولها إعادة تشكيل التحالفات داخل مجلس النواب، ويمكن إبراز بعض هذه الآثار فيما يلي:
1- دور محتمل لأشرف ريفي: قاطعت حركة المستقبل الانتخابات البرلمانية، فقد عزفت الرموز الأساسية لهذا التيار عن المشاركة في الانتخابات، وأبرزهم رئيس الوزراء الأسبق وزعيم تيار المستقبل سعد الحريري، ورئيسا الوزراء السابقان فؤاد السنيورة وتمام سلام ورئيس الوزراء الحالي نجيب ميقاتي، إلى جانب بهية الحريري، أخت سعد الحريري. وعلى الرغم من ذلك، فقد فاز بعض الأعضاء المنتمين لتيار المستقبل في هذه الانتخابات، وعددهم ستة، كما يعتقد أن بعض النواب المستقلين الذين فازوا في الانتخابات ينتمون لهذا التيار كذلك.
وعلى الجانب الآخر، فقد برز أشرف ريفي الفائز عن المقعد السني في طرابلس بالانتخابات البرلمانية، والذي أكد استعداده لقبول منصب رئاسة الحكومة اللبنانية، غير أن هناك تحديات تواجهه لتولي هذا المنصب، وليس أقلها حاجته إلى ضمان ولاء النواب السنّة والمستقلين في لبنان، خاصة وأنه كان معروفاً عنه أنه يتبنى مواقف ناقدة لحزب الله اللبناني، ولكن على الجانب الآخر، فإنه قام بإبرام اتفاق انتخابي مع سمير جعجع في الانتخابات الأخيرة، والتي كفلت دعم السنة للنواب المسيحيين التابعين لجعجع في الانتخابات الأخيرة.
2- تعقد الاستحقاقات التالية: يقبل لبنان بعد ظهور نتائج الانتخابات على عدد من الاستحقاقات الدستورية المهمة، وهي انتخاب رئيس مجلس النواب، ورئيس الوزراء، وكذلك رئيس جديد للجمهورية خلفاً للرئيس ميشال عون الذي تنتهي ولايته الدستورية بنهاية أكتوبر 2022.
وفيما يتعلق باختيار رئيس مجلس النواب، تصب المؤشرات في صالح التجديد لرئيس حركة أمل نبيه بري لولاية أخرى. أما فيما يتعلق باختيار رئيس الوزراء، فإن الأمر يبدو أكثر تعقيداً خاصة في ضوء عزوف تيار المستقبل عن المشاركة في الانتخابات. ويتمثل أحد الخيارات المطروحة في أشرف ريفي، إلى جانب رئيس الوزراء الحالي نجيب ميقاتي، ولكن عملية تأليف الحكومة قد تستغرق هي الأخرى وقتاً لتعكس متغيرات حصص الكتل داخل البرلمان، خاصة انخفاض حصة التيار الوطني الحر بزعامة عون.
أما استحقاق انتخاب رئيس الجمهورية، فلن يقل تعقيداً عن تشكيل الحكومة، لاسيّما مع خسارة التيار الوطني الحر صفة الكتلة المسيحية الأكبر لصالح حزب القوات الذي سيكون معارضاً لمجيء رئيس التيار جبران باسيل رئيساً للجمهورية، وعدم حسم حزب الله موقفه من هذا المنصب، سواء بترشيح باسيل أو بترشيح سليمان فرنجية. ويبرز هنا كذلك تعقيد دستوري محتمل يتعلق باحتمالات تعقد تشكيل الحكومة الجديدة إلى ما بعد نهاية أكتوبر المقبل، مما يعني أن حكومة تصريف الأعمال هي التي ستتولى صلاحيات رئاسة الجمهورية حسب الدستور.
3- تمسك حزب الله بلغة التهديد: كانت مسألة سلاح حزب الله من العناوين الأساسية للحملات الانتخابية الخاصة بالقوى المعارضة، ولذلك من المحتمل أن يعاد طرح هذه المسألة بقوة خلال الفترة المقبلة، لاسيّما من قبل حزب القوات، غير أنه من غير المحتمل حدوث اختراق كبير في هذا الملف، بالنظر إلى توظيف الحزب لسلاحه لتهديد خصومه في حالة إثارة هذا الملف.
4- تأثيرات سياسية محدودة: يتسم النظام السياسي اللبناني بطبيعة خاصة، فهو يقوم على نظام المحاصصة، أي أن كل القوى السياسية الرئيسية، بغض النظر عن أوزانها السياسية تكون طرفاً في الحكومة، ليس فقط بسبب التوزيع الطائفي للرئاسات الثلاث، وأن رئيس البلاد ينتمي للطائفة المارونية، في حين أن رئيس الوزراء سني، ورئيس مجلس النواب شيعي، ولكن كذلك بفعل الثلث المعطل، والتي تجعل الأقلية السياسية قادرة على تعطيل الحكومة، وهو دور لعبه حزب الله مرات عدة منذ استحداث هذه الآلية في النظام السياسي اللبناني منذ العام 2008.
وما يؤكد ذلك تحذير رئيس كتلة حزب الله البرلمانية، محمد رعد، للمعارضة قائلاً: "إذا رفضتم حكومة وطنية فأنتم تقودون لبنان إلى الهاوية" في إشارة إلى استعداد الحزب لتوظيف ميليشياته المسلحة ضد خصومه السياسيين إذا لم يكن طرفاً "مؤثراً" في الحكومة الجديدة.
وفي الختام، جاءت نتائج الانتخابات التشريعية اللبنانية الأخيرة لتؤكد تراجع وزن حزب الله وحلفائه من دون أن يعني ذلك تراجع تأثيرهما على الحكومة القادمة، إذ من المتوقع أن يواصل حزب الله تأثيره السياسي، سواء عبر الثلث المعطل، أو من خلال التلويح بسلاحه إذا لزم الأمر.