إعداد: باسم راشد
مثَّل توقيع الاتفاق الإطاري الأخير بين مجموعة (5+1) وإيران بخصوص الملف النووي، أهمية كبيرة للولايات المتحدة، نظراً لكونه أحد العوامل التي قد تدفع واشنطن إلى إعادة النظر في استراتيجيتها الدفاعية في دول الخليج، حيث تشير بعض الآراء إلى أن هذا الاتفاق قد يكون بداية إلى مزيد من التراجع الأمريكي في المنطقة، لكن ثمة آراء أخرى هي الأعلى صوتاً الآن تطالب واشنطن باستمرارية وتفعيل اهتمامها وتواجدها بمنطقة الشرق الأوسط عامة، ومنطقة الخليج العربي خصوصاً، وذلك في ضوء عدة اعتبارات مختلفة منها برنامج إيران النووي الذي سيبقى لفترة طويلة محل أخذ ورد، واضطرار الولايات المتحدة إلى العودة للعراق في عام 2014 بعد تمدد "داعش"، وما يشهده هذا الإقليم الاستراتيجي المهم من اضطرابات داخلية قد تؤثر في حال تفاقمها اكثر من ذلك إلى تهديد العالم كله.
في هذا الإطار، نشر مركز "برنت سكوكروفت للأمن الدولي" التابع للمجلس الأطلسي دراسة بعنوان: "مستقبل الاستراتيجية الدفاعية والتواجد العسكري الأمريكي في الخليج" أعدَّها كلُّ من "بلال صعب" Bilal Y. Saab الزميل الأول لأمن الشرق الأوسط بمركز "برنت سكوكروفت للأمن الدولي"، و"باري بافيل" Barry Pavel نائب الرئيس ومدير مركز "برنت سكوكروفت للأمن الدولي"، حيث حاولا من خلالها الوقوف على ملامح الاستراتيجية الدفاعية الأمريكية في دول مجلس التعاون الخليجي ودوافع تغييرها، ومستقبل التواجد الأمريكي في منطقة الخليج.
دوافع تغير الاستراتيجية الأمريكية في الخليج
يشير الكاتبان إلى أن ثمة عدداً من الأسباب التي يُرَجح أن تحد من استمرار التواجد العسكري الأمريكي في الخليج بشكل كبير، ولعل أبرز تلك الأسباب ما يلي:
1- سياسة "إعادة التوازن الأمريكي" في إقليم آسيا والمحيط الهادي؛ والتي كان قد أعلنها الرئيس أوباما في إطار سياسته الدفاعية في عام 2012، والتي تعني في المجمل محاولة فك الارتباط مع إقليم الشرق الأوسط في مقابل التركيز الأكبر على الإقليم الصاعد في آسيا والمحيط الهادي، خاصةً أن المشكلات التي يتعرض لها الشرق الأوسط باتت أكثر تعقيداً وخطورة، وتتطلب تكلفة أعلى ومجهوداً مضاعفاً قد يؤثر على الاستراتيجية الأمريكية في الإقليم الأهم في وجهة نظر واشنطن حالياً، وهو آسيا والمحيط الهادي.
2- التحديات الأمنية الجديدة التي تواجه أوروبا؛ خاصةً بعد الأزمة الروسية - الأوكرانية عام 2014، والتي دفعت الولايات المتحدة إلى تعديل خططها تجاه أوروبا بعد أن كانت قد خفَّضت تواجدها العسكري في القارة، مما جعلها الآن تُعيد الدعم العسكري لحلفائها الأوروبيين بعدد من الألوية المسلحة وطائرات F35، بالإضافة إلى وحدات الطائرات التكتيكية، وذلك لردع أي عدوان آخر من الجانب الروسي في ضوء الأزمة.
3- تخفيضات موازنة الدفاع الأمريكية؛ حيث يُفتَرَض أن تُخفِّض الإدارة الأمريكية من إنفاقها العسكري خلال السنوات القادمة. وتكمن مشكلة هذا الخفض في أنه يتزامن مع تزايد التحديات على مستوى العالم، خصوصاً في ثلاث مناطق رئيسية هي (الشرق الأوسط، وآسيا والمحيط الهادي، وأوروبا)، والتي تعتمد كلها على السلاح الأمريكي. لذا فإن هذا الخفض لا يصب في مصلحة دول هذه المناطق، خصوصاً دول الشرق الأوسط والخليج العربي.
4- انتشار التكنولوجيات الدفاعية المدمرة؛ إذ إن الاتجاهات المتسارعة في التطور التكنولوجي تؤثر بشكل متزايد على كل من الولايات المتحدة والأمن العالمي، خاصةً أن تلك التكنولوجيات قد يكون لها تأثيرات غير متوقعة. وبرغم أنها تكون موجهة بالأساس للاستخدامات المدنية أو الصناعية، فإن لها أيضاً أبعاداً عسكرية. وقد دفع هذا التطور المتزايد بعض خبراء التكنولوجيا إلى تحذير إدارة الرئيس "أوباما" من خطورة هذا الأمر إذا لم يتم استغلاله بشكل جيد، بدلاً من التركيز على الإنفاق العسكري؛ وهو ما قد يدفع لتغيير المنظور الأمريكي للوضع العسكري في السنوات العشر القادمة.
5- تنامي القدرات العسكرية الإيرانية؛ فالولايات المتحدة والقوى الغربية قد صبَّت جُلَّ اهتمامها في العقد الماضي على البرنامج النووي الإيراني، دون الانتباه للتطورات المستمرة التي تقوم بها طهران في قدراتها العسكرية من حيث ترسانة صواريخها التي قد تستهدف دول الخليج، وقدرتها على إنتاج أسلحة خاصة بها مع تقليل اعتماد على الغرب في هذا الأمر.
6- استمرار انتشار السلفية الجهادية؛ فعلى الرغم مما قامت به واشنطن لدحر انتشار الأفكار المتطرفة، فإن التهديد الإرهابي أصبح أكثر عنفاً وتعقيداً خاصةً مع انتشار تنظيم "داعش"، وتمدد الجماعات السلفية الجهادية في العديد من دول منطقة الشرق الأوسط؛ وهو ما يعني أن تلك الجماعات ستظل تنتشر طالما ظلَّت الأسباب التي تدفعها لممارسة العنف السياسي، وطالما لم تُحل المشكلة من جذورها.
دعائم الاستراتيجية الدفاعية الأمريكية بالخليج
يؤكد الكاتبان أنه لكي تصبح الاستراتيجية الأمريكية في الخليج فعَّالة، يتعين على واشنطن أن تحدد مصالحها المحورية بوضوح داخل الإقليم.
وفي هذا الإطار يمكن الإشارة إلى عدد من المصالح التي يعتبرها الكاتبان تحتل الأهمية الكبرى في الاستراتيجية الأمريكية بالخليج؛ وهي:
1- الاعتماد على مصادر الطاقة من النفط والبترول، فرغم انخفاض اعتماد الولايات المتحدة بشكل عام على مصادر الطاقة التي تأتي من دول مجلس التعاون الخليجي، فإنها لا يمكن أن تتخلى عنها بشكل كلي، فما لم يتم الحفاظ على تلك المصادر أو بافتراض إنها اختفت من سوق الطاقة، فإن أسعار البترول سترتفع بشكل كبير للغاية، بما يؤثر على الاقتصاد العالمي، والأمريكي تحديداً، خاصةً أن دول مجلس التعاون الخليجي تنتج وحدها ما يقرب من 24% من إجمالي البترول في السوق العالمي.
2- وقف انتشار أسلحة الدمار الشامل، وبالتحديد ما يتعلق بالقدرات الإيرانية، إذ يتعين على واشنطن أن تستمر في محاولات منع طهران من حيازة أسلحة نووية، واحتواء طموحاتها الإقليمية، بحيث يتم ردعها إذا ما حاولت الهجوم على أيٍ من جيرانها.
ويُعد هذا العنصر هو الأكثر أهمية فيما يتعلق بمستقبل الاستراتيجية الأمريكية في الخليج، كما أن أفضل السيناريوهات التي طرحها الكاتبان في هذا الصدد هي التي حدثت منذ أيام قليلة فيما عُرف باتفاق "لوزان"، والذي من شأنه أن يوقف إيران من حيازة قنبلة نووية بشكل سريع، بل ويضمن تخفيض معدلات تحصيب اليورانيوم في أراضيها.
وطبقاً لهذا السيناريو، فإن الاستراتيجية الأمريكية يجب أن تستمر في مسعاها لضمان منع إيران من تعزيز قدراتها النووية. وفي حالة إخلال طهران بالاتفاق، فإنها ستتعرض للعقوبات من جانب الدول الكبرى في النظام الدولي. وحتى لو انتهكت الاتفاقية، فإنها لن تعد قادرة أن تعيد بناء قنبلة نووية بنفس السرعة بسبب القيود التكنولوجية التي تفرضها مثل هذه الاتفاقيات، وهو ما يضمن في النهاية استقرار حلفاء الولايات المتحدة في دول الخليج.
3- العمل على إعادة الطمأنينة لدول الخليج؛ حيث تسعى إلى إثارة الاضطرابات الداخلية من خلال وكلائها المحليين في بعض دول المنطقة، وهو ما يدفع الولايات المتحدة إلى أن تظل متمركزة استراتيجياً في هذه المنطقة، لمتابعة السلوك الإيراني من ناحية، ولحماية مصالحها المشتركة من ناحية أخرى.
ولتحقيق هذا الغرض يجب أن تعيد واشنطن تنظيم قواتها العسكرية في الخليج، بما يُراعي التوازن بين متطلبات استقرار الخليج واستعادة الطمأنينة داخل دوله، وبين تكلفة هذا الأمر في ضوء الميزانية الجديدة، الأمر الذي يستدعي تفعيل الأدوات الأخرى السياسية والدبلوماسية، إلى جانب الأدوات العسكرية لتحقيق الاستقرار المنشود.
4- محاربة الإرهاب؛ فرغم الجهود التي بذلتها القوات الأمريكية في مواجهة تمدد الخطر الإرهابي، إلا أن الإرهاب قد ازداد من حيث عمقه وتعقد عملياته. وتعتمد الاستراتيجية الأمريكية على فكرة المواجهة من خلال الضربات الجوية، والتي رغم فعاليتها في بعض الأحيان، فإنها لن تقضي أبداً على الإرهاب، لأن الأمر يتطلب قوات عاملة على الأرض للمحاربة في بيئة مثل سوريا والعراق وغيرها. ونظراً للتكلفة المادية العالية لهذا الأمر، فسوف تظل الاستراتيجية الأمريكية تعتمد على تقديم الدعم الاستخباراتي وبناء قدرات الحلفاء، والقيام ببعض العمليات الصغيرة في الشرق الأوسط.
مستقبل القوات الأمريكية في الخليج
يشير الكاتبان إلى أن المبدأ الأساسي في أي وضع مستقبلي للقوات الأمريكية في الخليج - وبصرف النظر عما قد يحدث للبرنامج النووي الإيراني - يجب أن يتمركز حول استمرارية وصول القوات العسكرية للدول الخليجية، كما يتعين على واشنطن ألا تكون "خجولة" في توضيح الأهمية الاستراتيجية لذلك الأمر لحلفائها الخليجيين.
كذلك فإن التفكير في وضع القوات بمنطقة الخليج يجب أن يتركز أيضاً على القدرات العسكرية، من حيث الكفاءة التي تساعد في تحقيق أهداف الردع وإعادة الطمأنينة، لا من حيث العدد فقط، لذا يتعين على الولايات المتحدة تحقيق التوازن بين ردع إيران من مهاجمة أي من جيرانها من ناحية، وإيجاد الوسائل الممكنة لمواجهة أسلوبها الناجح في تحقيق أهدافها.
وفي هذه البيئة المضطربة، يمكن للولايات المتحدة حماية مصالحها ومصالح حلفائها في دول مجلس التعاون الخليجي من خلال عدد من الخطوات التدريجية - التي طرحها الكاتبان - فيما يتعلق بوضع قواتها العسكرية؛ من حيث التوزيع الجغرافي، والمرونة التشغيلية، والقوة التكتيكية، وهي كالتالي:
1- التفاوض على "اتفاقية دفاع مشترك" بين الولايات المتحدة ودول مجلس التعاون الخليجي؛ بما سيضمن مستقبلاً عدم تعرض دول الخليج لأي انتهاكات من جانب إيران، لأنه سينقل مستوى العلاقات الأمريكية - الخليجية من "الشراكة إلى التحالف". والفرق بين الشراكة والتحالف واضح؛ فإذا كان ثمة بلدان حليفان أو أكثر، فهذا يعني التزما كل منهما بالحفاظ على أمن الآخر والدفاع عنه حال تعرضه لهجوم.
ومن شأن تلك الاتقاقية المقترحة أن تحقق عدداً من المزايا المتبادلة للمنطقة وللولايات المتحدة، ومنها:
أ- ضمان الاستقرار الاستراتيجي في المنطقة، لأنه سيبعث برسالة إلى إيران مفادها أن أي اعتداء على دولة من الدول المشاركة في الاتفاقية، سيُعد بمثابة اعتداء على الولايات المتحدة نفسها، كما أنها تعد بمثابة الشكل النهائي لتحقيق الأمن لدول الخليج.
ب- تعزيز الحزم التشريعية التي تقدمها إدارة "أوباما" لمجلس الشيوخ، بما يظهرها بأنها جادة للغاية في التعامل مع التحدي النووي الإيراني.
ج- المساعدة في الاستجابة لتلك الأصوات الداعية لمزيد من التوسع في نشر القوات العسكرية في الخليج.
2- تخفيض معدلات ضعف وهشاشة القوات العسكرية الأمريكية الموجودة في الخليج؛ عن طريق تنويع أنماط نشر القوات، واستكشاف مفاهيم جديدة للتمركز العسكري في القواعد المختلفة.
3- التركيز على تعزيز القوات البحرية في الوضع المستقبلي للقوات الأمريكية بدول مجلس التعاون الخليجي، وذلك من خلال تعزيز الدفاعات البحرية، وقدرات الهجوم المضاد السريع، والاستخبارات، بالإضافة إلى دعم نظم الرقابة والاستطلاع.
4- تكثيف التعاون العسكري مع الشركاء الخليجيين، بهدف تحسين قدراتهم الدفاعية، ومشاركتهم بالنسبة الأكبر من عبء الدفاع.
5- دعم الدفاعات الخليجية ضد هجمات الصواريخ الإيرانية، من خلال الاتجاه نحو مستويات أعلى من التكامل بين دول الخليج فيما يتعلق بتعزيز نظم الصواريخ الباليستية الدفاعية.
6- خلق حوافز مختلفة للدول من خارج الإقليم بما فيها الحلفاء والشركاء في حلف "الناتو"، للمساهمة بتقديم الدعم العسكرية لضمان أمن واستقرار الخليج.
خلاصة القول، فإن الاستراتيجية الدفاعية الأمريكية في منطقة الخليج يجب أن تنبه الجميع - سواء الحلفاء أو الخصوم - بأن الولايات المتحدة ستبقى في هذه المنطقة، بل إنها تسعى إلى بناء علاقات أطول وأعمق مع الشركاء الخليجيين، وأنها ستحافظ على أمن واستقرار شركائها في هذا الإقليم الاستراتيجي تحت أي سيناريو مستقبلي قد يحدث.
*عرض مُوجز لدراسة تحت عنوان: "مستقبل الاستراتيجية الدفاعية والتواجد العسكري الأمريكي في الخليج"، المنشورة في مارس 2015 عن مركز "برنت سكوكروفت للأمن الدولي" التابع للمجلس الأطلسي.
المصدر:
Bilal Y. Saab and Barry Pavel, Artful Balance: Future US Defense Strategy and Force Posture in the Gulf (Washington, Brent Scowcroft Center on International Security, Atlantic Council, March 2015(.