أعلنت شركة "هاليبرتون" الأمريكية في 14 سبتمبر الجاري، فوزها بعقد خدمات متكاملة (أي إدارة المشروع، والحفر، وتعزيز الإنتاج والخدمات تحت سطح البحر ..) لحفر من ثلاث إلى خمس آبار لمصلحة شركة إنيرجن، ومقرها لندن، قبالة سواحل إسرائيل، وأشارت الشركة الأمريكية إلا أن ذلك يأتي استكمالاً لعمليات حفر أربع آبار بحرية نفذتها هاليبرتون سابقاً في حقلي كاريش وكاريش الشمالي.
ويُذكر أن جزءاً من حقل كاريش يقع في المنطقة المتنازع عليها بين لبنان وإسرائيل (انظر الخريطة رقم 1)، ولكن لا يعرف على وجه التحديد إذا كانت المنطقة المخصصة لشركة هاليبرتون تقع ضمن تلك المنطقة المتنازع عليها أم لا، مما دفع بيروت، عبر مندوبة لبنان الدائمة لدى الأمم المتحدة، السفيرة أمل مدللي، إلى توجيه إخطار إلى كل من الأمين العام للأمم المتحدة، انطونيو غوتيريش، ومندوبة إيرلندا في الأمم المتحدة، رئيسة مجلس الأمن حالياً، جيرالدين بيرن ناسون، طالبت فيه المجلس بالتأكد من أن أعمال التنقيب لا تقع ضمن المنطقة المتنازع عليها مع إسرائيل، تجنباً لأي اعتداء على حقوق وسيادة لبنان، كما طالب لبنان بمنع أي أعمال تنقيب مستقبلية في المناطق المتنازع عليها، تجنباً لخطوات قد تشكل تهديداً للسلم والأمن الدوليين.
دلالات التحرك الإسرائيلي
يلاحظ أن تحرك إسرائيل للتسريع من عملية استغلال الموارد الغازية في المنطقة المتنازع عليها مع لبنان في ذلك التوقيت، يعود لعدد من الأسباب على رأسها التالي:
1- استغلال الأزمة الاقتصادية اللبنانية: تستهدف إسرائيل من تحركها دفع لبنان للعودة للمفاوضات مرة أخرى بوساطة أمريكية، وذلك على خلفية الأزمة الاقتصادية التي تمر بها، وتركيز حكومة ميقاتي على الخروج من الأزمة الاقتصادية التي يمر بها لبنان حالياً.
ويتيح تطوير لبنان حقول النفط والغاز البحرية تحقيق الاكتفاء الذاتي من الطاقة، فضلاً عن توفير مصادر دخل للدولة في حالة تصدير الفائض منه للخارج. وقدّر تقرير صادر عن "فرنسبنك" (Fransabank)، أقدم مصارف لبنان، في يوليو 2017 امتلاك لبنان في مياهها بالبحر المتوسط نحو 1.7 مليار برميل نفط، و122 تريليون قدم مكعبة من الغاز الطبيعي، وهو ما تمثل قيمته نحو 254 مليار دولار، وبما يوازي مرتين ونصف ضعف قيمة الدين العام اللبناني الذي بلغ نحو 97 مليار دولار مليار دولار بنهاية أبريل 2021 (وفق بيانات المصرف المركزي اللبناني).
2- الضغط للعودة للمفاوضات: نجحت الولايات المتحدة من خلال زيارة وزير الخارجية الأمريكي السابق مايك بومبيو للبنان، في مارس 2019، إلى إحياء المفاوضات بين لبنان وإسرائيل، وعقدت أربع جولات من المفاوضات بدءاً من 14 أكتوبر وحتى مطلع ديسمبر 2020، أسفرت عن إعلان "اتفاق الإطار" لترسيم الحدود بين البلدين في أكتوبر من العام نفسه، وعقدت آخر جلسة، وهي الخامسة، في أبريل 2021، ثم توقفت المفاوضات بعدها إلى الآن.
وكان من المفترض أن تقتصر المفاوضات في الجولة الخامسة على مساحة بحرية تقدر بنحو 860 كيلومتراً مربعاً، بناءً على خريطة أرسلت في 2011 إلى الأمم المتحدة، وحدد فيها لبنان حدوده البحرية وفقاً للنقطة 23، والتي تم الاتفاق عليها داخلياً عبر لجنة شارك فيها كل من حزب الله والتيار العوني آنذاك، غير أن لبنان اعتبر لاحقاً أن هذه الخريطة استندت إلى تقديرات خاطئة، وطالب بمساحة إضافية تبلغ 1430 كيلومتراً مربعاً وتشمل أجزاءً من حقل "كاريش" الذي تعمل فيه شركة يونانية لصالح إسرائيل.
ويُعرف الطرح اللبناني الحالي بالخط 29 (انظر الخريطة رقم 2). واتهمت إسرائيل لبنان بعرقلة المفاوضات عبر توسيع مساحة المنطقة المتنازع عليها، خاصة أن وفق ذلك الخط سيدخل جزء من حقل كاريش الإسرائيلي ضمن الحدود البحرية اللبنانية.
3- محاولة فرض أمر واقع: تقدر إسرائيل أن الخيارات اللبنانية المطروحة للتعامل مع الأزمة هو الوساطة من خلال الولايات المتحدة، والتي لاتزال مستمرة حتى الآن، على الرغم من توقف المفاوضات اللبنانية – الإسرائيلية في 5 أبريل 2021، أو اللجوء إلى تسوية النزاع البحري من خلال لجنة تحكيم دولية، أو محكمة العدل الدولية، وهو ما يستلزم موافقة لبنان وإسرائيل على ذلك.
وقد لا تسفر هذه المحاولات إلا عن إضاعة الوقت في الوقت الذي تتجه فيه إسرائيل إلى فرض أمر واقع عبر استمرار عمليات التنقيب والاستخراج، خاصة أن تحالف شركات توتال الفرنسية ونوفاتك الروسية وإيني الإيطالية لم تبدأ في عمليات التنقيب، والتي كان من المفترض البدء فيها قبل عدة شهور في البلوك رقم 9 من الجانب اللبناني للحدود البحرية، وهو البلوك الذي يشهد حدوده الجنوبية تنازعاً بين لبنان وإسرائيل.
4- استباق تحركات ميقاتي: رأت إسرائيل أهمية المبادرة بالضغط على الحكومة الجديدة، والتي تضمن بيانها الوزاري استئناف المفاوضات لحماية الحدود البحرية اللبنانية، وذلك للحيلولة دون إعادة بحث تعديل المرسوم 6433 لعام 2011، والذي يستهدف اعتماد النقطة رقم "29" بدلاً من النقطة "23" عند ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل.
ويذكر أن تل أبيب اعترضت بشدة على ذلك الأمر، مما دفع وكيل وزارة الخارجية الأمريكية للشؤون السياسية وقتها، ديفيد هيل، إلى زيارة لبنان في أبريل 2021، والضغط على الرئيس اللبناني ميشال عون للتراجع عن اعتماد المرسوم 6433، وهو ما استجاب له، خاصة أن محاولة إقراره كانت سترتب أزمة دستورية داخلية، إذ إن تعديل ذلك المرسوم يتطلب عقد اجتماع للحكومة للموافقة عليه، وهو ما لا يمكن تحقيقه في ظل حكومة تصريف الأعمال التي كانت تدير البلاد حينها. أما الآن، فيمكن لحكومة ميقاتي تمرير ذلك المرسوم.
خيارات لبنانية ثلاثة
تمتلك بيروت الخيارات التالية في الرد على اتفاق تل أبيب الأخير مع شركة هاليبرتون الأمريكية، وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالي:
1- الدخول في مفاوضات برعاية أمريكية: يمكن أن تتدخل الولايات المتحدة من جديد للضغط على الطرفين لوقف التصعيد المتبادل، خاصة أنه لم يتضح بعد ما إذا كانت شركة هاليبرتون سوف تعمل في المنطقة المتنازع عليها أم لا. وقد تفرض واشنطن ضغوط على الجانبين الإسرائيلي واللبناني لاستئناف المفاوضات بشكل مباشر وتجنب التصعيد.
2- التصعيد الدبلوماسي عبر الأمم المتحدة: لن يكون مثل هذا التحرك ذات جدوى، خاصة أن هناك العديد من التقديرات التي ترى أن عمليات الحفر المتوقعة لشركة هاليبرتون تلتزم بالابتعاد عن المنطقة المتنازع عليها (وذلك وفق خط رقم 23).
وبالتالي فإن التقدم بشكوى للأمم المتحدة سيسفر عنه إصدار قرارات روتينية تتعلق بضرورة دخول لبنان وإسرائيل في مفاوضات لحل النزاع الحدودي بينهما بالطرق السلمية، ولن يكون هناك إلزام لتل أبيب بوقف عمل الشركات الأجنبية أمام سواحلها. وحتى في حالة قيام لبنان بتعديل المرسوم 6433 وإدراجه في الأمم المتحدة، والتأكد من أن هاليبرتون تعمل في منطقة متنازع عليها، فإن هذا الأمر سوف يتطلب تسويته إما من خلال المفاوضات عبر الوسيط الأمريكية، أو اللجوء إلى لجنة تحكيم دولية، أو محكمة العدل الدولية.
3- ضغط لبنان على الشركات الأجنبية: لم تنجح الحكومات المتعاقبة خلال السنوات الماضية، في الاستفادة من موارد النفط والغاز في البحر المتوسط، وذلك بالرغم من توقيع اتفاق مع ائتلاف الشركات النفطية توتال الفرنسية وإيني الإيطالية ونوفاتك الروسية في فبراير 2018، للتنقيب عن النفط والغاز في البلوك رقم 9، والذي يدخل الجزء الجنوبي منه ضمن المنطقة المتنازع عليها.
واتهم رئيس مجلس النواب اللبناني، نبيه بري، رداً على تعاقد إسرائيل مع شركة هالبيرتون، شركات التحالف بالتباطؤ في تنفيذ الاتفاق، وذلك في محاولة لممارسة ضغوط عليها للشروع في بدء عمليات الحفر والتنقيب، حتى يتمكن لبنان من الاستفادة من موارده النفطية والغازية، ويمنع إسرائيل من فرض أمر واقع على لبنان.
وفي الختام، يعكس توقيت التحرك الإسرائيلي لفتح ملف النزاع الحدودي البحري مع لبنان، سعي تل أبيب لإنهاء ملف ترسيم الحدود مع بيروت، ودفع الولايات المتحدة للضغط على لبنان للجلوس على مائدة المفاوضات مع إسرائيل للتفاوض على الخط 23، بدلاً من الخط 29، كما أنه من المنظور الإسرائيلي، فإن تدهور الأوضاع الاقتصادية اللبنانية سوف يكفل لها تحقيق ذلك، خاصة أن الشركات الدولية العاملة في لبنان لم تشرع في تطوير البلوك 9 بعد.