أعلنت السلطات الأمنية التونسية، في 6 مارس الجاري، عن هجوم انتحاري وقع قرب السفارة الأمريكية وأسفر عن مقتل شرطي وإصابة خمسة عناصر من قوات الأمن بجانب مصرع منفذي الهجوم. ورغم أن تنظيم "داعش" لم يعلن مسئوليته عن الحادث، إلا أن اتجاهات عديدة تشير إلى احتمال ضلوع تنظيم "جند الخلافة"، الموالي له، في تنفيذه. وتأتي تلك العملية بعد نحو شهر ونصف من محاولة استهداف السفارة الأمريكية في بيروت من قبل عنصر "داعشي"، وهو ما يطرح تساؤلات حول مدى اتجاه تنظيم "داعش"، وربما تنظيمات إرهابية أخرى، إلى استهداف المصالح الأمريكية، ولاسيما السفارات، في الإقليم.
وفي هذا السياق، يمكن القول إن ثمة اعتبارات رئيسية عديدة يمكن أن تساهم في تفسير ذلك، تتمثل في:
1- الرد على مقتل البغدادي والمهاجر: كان لافتاً أن عمليات الاستهداف الأخيرة توازت مع إعلان تنظيم "داعش" عن بدء مرحلة جديدة من المواجهة مع القوى المنخرطة في الحرب ضده، على نحو بدا جلياً في التسجيل الصوتي للمتحدث الرسمي الجديد للتنظيم أبو حمزة القرشي في 30 يناير 2020، والذي توعد فيه تلك القوى بالانتقام بعد مقتل البغدادي والمتحدث الرسمي السابق أبو الحسن المهاجر وهزيمة التنظيم في الباغوز السورية.
وقد رد "داعش" على إعلان تلك القوى هزيمته بتأكيد استمرار عناصره في تنفيذ العمليات الإرهابية، وبدا أنه يحاول التركيز على توجيه رسائل مباشرة إلى الدول الغربية تحديداً من خلال إطلاق العديد من القنوات المغلقة الناطقة باللغة الإنجليزية على مواقع التواصل الاجتماعي في مسعى لتحقيق هدفين: الأول، استقطاب مزيد من العناصر الأجنبية لصفوفه. والثاني، التركيز على المجال الأوروبي والغربي عموماً، وهو ما يمكن معه ترجيح تزايد احتمالات تنفيذ عمليات إرهابية في الدول الغربية خلال المرحلة القادمة، رداً على مقتل البغدادي والمهاجر، وفي الوقت نفسه إثبات قدرة التنظيم على استيعاب الضربات العسكرية التي تعرض لها في الفترة الماضية.
2- استغلال "صفقة القرن": كشف "داعش" في جريدة "النبأ"، وهى جريدته الرسمية، عن موقفه من المبادرة الأمريكية الخاصة بعملية السلام التي تعرف بـ"صفقة القرن"، حيث أفرد صفحتين بالجريدة لمناقشتها، وتوعد فيهما التنظيم بـ"العمل على استهداف القوات والمصالح الأمريكية"، سواء في الإقليم أو في العالم، بما يوحي بأنه يحاول استغلال الجدل الذي ثار حول المبادرة الأمريكية من أجل تعزيز موقعه من جديد ودعم قدرته على مواجهة الضغوط التي يتعرض لها.
3- إثبات الوجود: تعتبر منطقة الساحل والصحراء الإفريقية إحدى أهم نقاط الارتكاز للتنظيمات الإرهابية "القاعدية" و"الداعشية"، حيث يمثل تنظيم "داعش في غرب إفريقيا" أحد أقوى أفرع تنظيم "داعش" بعد فرعى التنظيم في كل من سوريا والعراق. ويسعى التنظيم الرئيسي إلى تأسيس نقطة ارتكاز بديلة في منطقة الساحل، بعد سقوط المركز الأساسي في العراق وسوريا، بجانب اعتبار هذه المنطقة بيئة مهيأة وهشة تساعد على تنامي وجوده ونفوذه، خاصة أنها مركز للصراعات والحروب الأهلية. ومن هنا، يمكن تفسير اهتمام التنظيم بإلقاء الضوء على العمليات التي تقوم بها المجموعات الموالية له في تلك المنطقة، خلال الفترة الماضية، على غرار الهجمات الإرهابية التي وقعت في مالي والنيجر وبوركينافاسو.
4- توسيع نطاق النشاط الإرهابي: يبدو أن التنظيم يراقب التحركات العسكرية الأمريكية في منطقة الساحل والصحراء، لاسيما مع ظهور تقارير حول احتمال قيام وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) بتخفيض عدد القوات الأمريكية الفاعلة في دول الساحل والصحراء، والتي تعمل بالتعاون مع القوات الفرنسية وأجهزة الأمن والقوات العسكرية المحلية في هذه الدول، لمكافحة نشاط تنظيمى "داعش" و"القاعدة" وبعض التنظيمات الإرهابية الأخرى. ومن هنا، فإن التنظيم يرى أن تلك العمليات الإرهابية الجديدة يمكن أن توفر له ورقة ضغط إضافية ضد القوى الغربية للإسراع في تنفيذ عملية الانسحاب العسكري من المنطقة، واستغلال ذلك في توسيع نطاق نشاطه فيها.
ولذا، حذرت اتجاهات عديدة من التداعيات التي يمكن أن يفرضها تخفيض عدد القوات الأمريكية في تلك المنطقة، على غرار المفتشين العامين في وزارتى الدفاع والخارجية والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، الذين أصدروا، في بداية فبراير 2020، تقريراً حذروا فيه من عواقب هذه الخطوة، خاصة في ظل الوضع الأمني المتدهور في بعض دول تلك المنطقة. وأكدوا في هذا السياق، أن "الضغط المستمر على الجماعات المتطرفة ضروري لإضعافها"، بما يمثل إشارة إلى أهمية الإبقاء على الوجود العسكري الأمريكي في تلك المنطقة.
لكن يبدو أن مساعي "داعش" في هذا الصدد سوف تواجه تحديات، لاسيما أن الولايات المتحدة الأمريكية ما زالت حريصة على توجيه رسائل تفيد اهتمامها بمحاربة الإرهاب في تلك المنطقة، كان أبرزها قرارها، في 8 مارس الجاري، بتعيين بيتر فام كمبعوث خاص لمنطقة الساحل بغرض رفع مستوى التنسيق الأمني في مواجهة هذه التنظيمات.
5- إحراج "القاعدة" بعد توقيع اتفاق واشنطن و"طالبان": تأتي العملية الإرهابية الأخيرة التي وقعت بالقرب من السفارة الأمريكية في تونس بعد أيام من إبرام اتفاق بين الولايات المتحدة الأمريكية وحركة "طالبان". ومع الوضع في الاعتبار أن بعض بنود الاتفاق تركز على منح "طالبان" ضمانات بعدم تعرض مصالح واشنطن وحلفائها للخطر سواء من جانبها، أو من قبل تنظيم "القاعدة"، فإن "داعش"، في حالة ما إذا ثبت ضلوعه في تلك العملية، ربما سعى عبرها إلى إحراج تنظيم "القاعدة"، الذي يروج إلى أنه قلص من توجهه الخاص باستهداف المصالح الغربية، وذلك في محاولة للسيطرة على التنظيمات "القاعدية" في شمال إفريقيا ومنطقة الساحل.
في المجمل، تشير ظاهرة استهداف السفارات الأمريكية في المنطقة من قبل تنظيم "داعش" إلى أن أهدافاً غربية أخرى، على غرار شركات الاستثمار أو السياح، قد تكون عرضة لهجمات مماثلة خلال الفترة القادمة، في سياق سعى التنظيم إلى رفع كلفة العمليات العسكرية التي تشنها القوى المعنية بالحرب ضده.