على الرغم من أن الصورة النمطية عن الدنمارك كواحدة من الدول الاسكندنافية أنها تتمتع بكونها الدولة الأكثر سعادة وأماناً في العالم، بعدما جاءت في المرتبة الأولى بعدد من التقارير الدولية مثل "تقرير السعادة العالمي" و"تقرير السلام العالمي"، ويتمتع سكانها بمستوى معيشي لائق وضمان اجتماعي مستدام واقتصاد وطني متين على نحو يبرر عدم انخراطها في تفاعلات خارج حدودها الوطنية، إلا أن هذه النظرة قاصرة إلى حد كبير، إذ أن هناك مصالح محددة لكوبنهاجن في منطقة الشرق الأوسط تتمثل في مكافحة الإرهاب العابر للحدود وخاصة تنظيم "داعش"، لاسيما أنها تخشى من خطر "المقاتلين العائدين"، ومعارضة التدخلات الإقليمية المُعزِّزة لنشاط التنظيمات الإرهابية، وخفض التصعيد بين واشنطن وطهران، وتأمين حرية الملاحة في الممرات المائية وخاصة مضيق هرمز، وتعزيز الاستقرار داخل الدول العربية عبر برنامج الشراكة الدنماركية- العربية في مجال الإصلاح والديمقراطية والتنمية الاقتصادية.
وقد بدأت وسائل الإعلام العربية والغربية في إلقاء الضوء على اهتمام الدنمارك بالأوضاع في الإقليم، حيث ذكر بيان صادر عن وزارة الخارجية العراقية، في 18 فبراير 2020، أن "محمد علي الحكيم التقى نظيره الدنماركي ييبي كوفود، واستعرض معه تطورات العلاقات الثنائية بين البلدين والارتقاء بها في سائر المجالات، ولاسيما الاقتصادية والتجارية، وتشجيع المستثمرين على الاستفادة من الفرص الاستثمارية المتوافرة في العراق". وأضاف البيان أن "الجانبين بحثا عدداً من القضايا الإقليمية ذات الاهتمام المشترك، وأهمية مواصلة الجهود لتثبيت الاستقرار، كما تناولا مكافحة الإرهاب في المنطقة، وضرورة تبني مواقف داعمة لدول المنطقة في ظل الأوضاع الراهنة".
وبوجه عام، تتمثل أهم مصالح الدنمارك في الشرق الأوسط فيما يلي:
خطر العائدين:
1- مكافحة الإرهاب العابر للحدود: تشارك الدنمارك بقوة عسكرية في العراق في إطار التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب وتحديداً تنظيم "داعش"، قوامها 130 جندياً كانت سحبتهم من قاعدة عين الأسد الجوية في محافظة الأنبار في أعقاب مطالبة مجلس النواب العراقي بخروج جميع القوات الأجنبية من البلاد بعد استهداف واشنطن بغارة جوية قائد "فيلق القدس" قاسم سليماني ونائب رئيس هيئة "الحشد الشعبي" أبومهدي المهندس في 3 يناير الفائت، على نحو دفع طهران إلى الرد بهجوم صاروخي على القاعدة بعد ذلك بخمسة أيام.
غير أن الحكومة الدنماركية أعلنت، في 17 فبراير الجاري، أنها ستعيد عسكرييها في الأول من مارس المقبل لاستئناف تدريب قوات الأمن العراقية على قتال تنظيم "داعش". وقالت وزيرة الدفاع ترين برامسن في بيان: "في المعركة مع الإرهاب من المهم ألا يصبح العراق مرتعاً لتجنيد وتدريب الإرهابيين"، وأضافت: "لذلك من المهم أن نستأنف تدريب قوات الأمن العراقيين ليكونوا بإمكانهم على المدى الطويل الحفاظ على الأمن في العراق بأنفسهم".
ووفقاً لرؤية وزارة الدفاع الدنماركية، فإن الوضع الأمني في العراق لا يختلف الآن عما كان قبل التصعيد. وقد ثمّن الحكيم، وفقاً لما أوردته وكالة الأنباء الألمانية في 18 فبراير الجاري، مواقف الدنمارك الداعمة للعراق، ومساهمتها في إعادة قدرات القوات العراقية، والدعم الإنساني، داعياً إلى إعادة فتح السفارة الدنماركية في بغداد.
وتجدر الإشارة إلى أن هدف الدنمارك من محاربة مقاتلي تنظيم "داعش" يتمثل في تخوفها من تهديد المقاتلين العائدين من بؤر الصراعات المسلحة العربية، وخاصة في العراق وسوريا، وهو ما سبق أن أعلنه جهاز المخابرات الدنماركي، في 12 ديسمبر 2014، بأن هناك ما يقرب من 110 دنماركي سافروا للقتال في تلك البؤر. ولذلك، تعد الدنمارك واحدة من الدول الأوروبية التي تسعى لمكافحة وقف انتشار التطرف بين الشباب ومنعهم من أن يتحولوا إلى مقاتلين متشددين تخوفاً من أن يشنوا هجمات في الداخل بعد عودتهم، وهو ما يفسر إسقاط الحكومة الدنماركية الجنسية عن مواطنيها الملتحقين بـ"داعش".
وفي سياق متصل، قامت القوات الدنماركية بتدريب حوالي 16 ألف مقاتل في قاعدة عين الأسد في العراق خلال الفترة من 2016 وحتى 2018. كما خصصت مبلغ 60 مليون دولار لبرنامج استقرار لثلاثة سنوات في العراق وسوريا خلال الفترة من 2019 وحتى 2021. وشرعت الدنمارك أيضاً في تنفيذ برنامج مكافحة التطرف العنيف والمرتبط بمجموعات العمل المعنية بمكافحة التمويل والاتصالات والمقاتلين الإرهابيين الأجانب، وقدرت ميزانيته بحوالي 10 مليون دولار خلال الفترة من 2016 وحتى 2018، على نحو يشير بوضوح إلى أن الدنمارك لاتزال تتحمل عبئاً لضمان الهزيمة المستدامة لتنظيم "داعش".
تمدد أنقرة:
2- معارضة التدخلات الإقليمية المُعزِّزة لنشاط التنظيمات الإرهابية: وهو ما ينطبق جلياً على مواقف الحكومة والقوى السياسية الدنماركية المعارضة للعملية التركية في الشمال السوري، في 9 أكتوبر الماضي. فقد حذر وزير الخارجية الدنماركي ييبي كوفود من تداعيات قيام تركيا بعملية عسكرية في الشمال السوري في مناطق سيطرة جماعات كردية، معتبراً أنه "من الضروري أن نوجه إشارة واضحة إلى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بأنه ينبغي للمرء ألا يساهم بخلق حرب جديدة في البلد (سوريا) الذي يعيش أصلاً دماراً ويعاني فيه المدنيون لسنوات طويلة".
وهنا تجدر الإشارة إلى وجود توافق بين الحكومة الدنماركية ولجنة الشئون الخارجية والأمن في البرلمان، فضلاً عن عدد من الأحزاب السياسية بشأن التخوف من تأثيرات تلك العملية ضد قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وإطلاق سراح مقاتلي "داعش"، على نحو يؤثر أمنياً على الدنمارك نفسها، في الوقت التي تريد الأخيرة بقاء هؤلاء الإرهابيين بعيدين عنها ومحاكمتهم خارج الأراضي الأوروبية.
شبح الحرب:
3- خفض التصعيد بين واشنطن وطهران: إن أية احتمالات، ولو كانت ضعيفة، تتعلق بمواجهة عسكرية بين الولايات المتحدة وإيران، تثير مخاوف الدنمارك لأنها تعني تهديد الاستقرار في الشرق الأوسط، وهو ما حدث في الثُلث الأول من يناير الفائت، حيث عقدت، في 8 من هذا الشهر، جلسة برلمانية للجنة السياسة الخارجية في البرلمان الدنماركي، لمناقشة تطورات الوضع الخطير في منطقة الشرق الأوسط، وكيف يمكن أن تتعامل الدنمارك مع المستجدات في المنطقة، بعد الغارة الجوية الأمريكية على بغداد، والقصف الصاروخي الإيراني على القوات الأمريكية في قاعدة عين الأسد، وكيف يمكن إخراج القوات الدنماركية من حرب محتملة بين إيران والولايات المتحدة.
وقد أكد وزير الخارجية الدنماركي ييبي كوفود، في حديثه أمام أعضاء اللجنة، على أن "الوضع في العراق وإيران ينذر بقيام حرب غير محمودة العواقب في المنطقة، وأن الدنمارك تسعى من أجل الحد من توسع الصراع، وتريد أن تتم معالجة الأوضاع المأزومة هناك، من دون إراقة قطرة واحدة من الدم"، مضيفاً: "لا الدنمارك، ولا حتى العالم برمته يريدون الحرب، ولقد أكد الأمريكيون إنهم لا يريدون الحرب مع إيران، ويجب أن نفترض أن الإيرانيين لا يريدون الحرب مع العالم الخارجي، ونحن نأمل بأن لا يشتبك الطرفان في حرب تحرق الأخضر واليابس، ويسقط فيها ضحايا كثيرون من الأبرياء".
أمن هرمز:
4- تأمين حرية الملاحة في مضيق هرمز: تكتسب حماية أمن الملاحة عبر مضيق هرمز، والذي يتدفق من خلاله نحو خُمس الاستهلاك العالمي من النفط، اهتماماً خاصاً من جانب الدنمارك، التي أعربت عن قلقها من تزايد ما يطلق عليه "حرب الناقلات". ولذا، طرحت مجموعة من الدول الأوروبية مبادرة لحماية الملاحة البحرية في مضيق هرمز وهى فرنسا والدنمارك وبلجيكا وهولندا. وقد بدأت باريس المهمة بإرسال فرقاطة "لو كوربيه" لتكون باكورة القطع البحرية التي ستشارك فيها، فيما ستلتحق بها الفرقاطة الهولندية "دي رويتير"، وسوف تنضم فرقاطة دنماركية إلى القطع الموجودة مع سفن المواكبة.
ويكمن الهدف من إطلاق هذه المبادرة في تعزيز القدرات الأوروبية في ضمان حرية الملاحة للقطع البحرية التي تمر بمضيق هرمز باعتباره ممراً مائياً عالمياً، وتعزيز أمن الطاقة في بيئة متوترة، والمساهمة في خفض التصعيد الإقليمي. وقد بررت الدنمارك مشاركتها في بيان أصدرته، في 12 ديسمبر الماضي، اعتبرت فيه أن "لها مصلحة خاصة ومسئولية في المحافظة على الأمن البحري، وحرية الملاحة في مضيق هرمز، باعتبارها خامس أمة بحرية في العالم". وقالت أنها "ستشارك بسفينة وطائرة هليكوبتر في مهمة بحرية بقيادة أوروبية في مضيق هرمز لمدة أربع أشهر"، وأنها "سترسل أيضاً ضابطاً أو ضابطين إلى مقر البعثة اعتباراً من بداية عام 2020".
إرساء الحوكمة:
5- تعزيز الاستقرار داخل الدول العربية: على نحو يقود إلى استقرار الشرق الأوسط، ومنع تمدد الإرهابيين واللاجئين إلى دول أوروبية، ومنها الدنمارك، وهو ما يفسر استمرار برنامج الشراكة الدنماركية- العربية، بين منظمات مدنية ومنظمات مماثلة في المنطقة، وتحديداً في أربع دول عربية هى مصر والمغرب وتونس والأردن، في مجال الإصلاح والديمقراطية وتعزيز فرص الشباب والنساء في سوق العمل ودعم ريادة الأعمال والمشاريع الشبابية وتوفير الدعم للصحافة المستقلة. وتبلغ ميزانية البرنامج مليار كرونة (حوالي 135 مليون يورو) على مدى خمس سنوات من منتصف عام 2017 وحتى منتصف عام 2022.
ووفقاً لرؤية الدنمارك، فإن منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا هى واحدة من أكثر مناطق العالم من حيث عدم الاستقرار، فضلاً عن البطالة بين الشباب، إذ أن ثُلثى عدد السكان تقل أعمارهم عن 30 عاماً. كما أن واحداً من بين كل ثلاثة شباب في بعض الدول بدون عمل. ولذلك يركز البرنامج على إشراكهم في تنمية دولهم، وتجنب حدوث نزيف الأدمغة والهجرة والتطرف على نحو يساعد على معالجة المشكلات من المنبع، قبل أن تتطور وتستفحل تأثيراتها بما يهدد أمن الدول الأوروبية.
كما أن الدنمارك معنية بتعزيز الاستقرار داخل بؤر الصراعات المسلحة العربية، ومنها العراق، على سبيل المثال، عبر إعادة تأهيل البنى التحتية الحيوية، وإعادة الخدمات العامة بما يعزز من فرص تمكين النازحين جراء النزاعات من العودة إلى ديارهم. يضاف إلى ذلك إعلان الحكومة الدنماركية أنها ستساهم بتمويل الانتخابات المحلية المستقبلية في ليبيا، وفقاً لبيان صادر عن وزارة الخارجية الدنماركية، في 15 أكتوبر 2018، وهو ما يأتي اتساقاً مع موقفها الرامي إلى ضمان حل سياسي سلمي للصراع في ليبيا.
خلاصة القول، إن الدنمارك ستظل منشغلة بتفاعلات الشرق الأوسط، لاسيما من حيث اشتعال الصراعات المسلحة، وبصفة خاصة في العراق وسوريا، وتهديدات المقاتلين العائدين من هناك، وكيفية إدماجهم وإعادة تأهيلهم مرة أخرى في المجتمع الدنماركي، عبر شراكة لكل قطاعات الدولة (مثل قطاعات الخدمة الاجتماعية والتعليم والرعاية الصحية والشرطة وأجهزة الاستخبارات)، إضافة إلى منع وقوع عمليات إرهابية في البلاد، وهو ما دفعها إلى تمديد فرض قيود على حدودها، فضلاً عن توجيه مساعدات إغاثية لضحايا الصراعات، وخاصة عبر "المجلس الدنماركي للاجئين"، وإعادة إعمار المناطق المتضررة والمحررة من سيطرة "داعش"، حتى لا تمتد تأثيرات "البيوت الخشبية" الشرق أوسطية المليئة بالنيران إلى حدودها.