بدأت القوات البحرية الروسية والسورية، في 16 ديسمبر الجاري، في إجراء مناورات بحرية في شرق المتوسط للمرة الأولى منذ تصاعد الانخراط الروسي في الصراع السوري عام 2015. ووفقاً للبيان الذي أصدرته البحرية الروسية، فإن مركز البحرية الروسية في طرطوس "لم يتم اختياره بالصدفة لإجراء تلك المناورات"، مشيراً إلى أن القاعدة هى مركز إمداد القوات الروسية المنتشرة في سوريا، وأن هناك تشكيلات مشاركة في التدريبات البحرية تتضمن قوات جوية من قاعدة حميميم، إلى جانب قوارب صواريخ وكاسحات ألغام تابعة للقوات البحرية السورية.
دلالات عديدة:
تطرح هذه الخطوة الجديدة التي لا يمكن فصلها عن مجمل التطورات التي طرأت على الساحتين السورية والإقليمية في الفترة الأخيرة، دلالات عديدة يتمثل أبرزها في:
1- مغزى التوقيت: تم إجراء هذه المناورات في وقت تقوم فيه أغلب القوات البحرية في منطقة شرق المتوسط بإجراء أنشطة تدريبية، بما يعني أن الانخراط الروسي في هذا التوقيت تحديداً يهدف إلى إعادة الاعتبار للوضع السوري في المنطقة، على أساس أن سوريا سوف تبدأ في التحرك من أجل حجز موقعها في شرق المتوسط كدولة أساسية لا يمكن تجاهلها.
2- تطوير القدرات البحرية السورية: لم تكن القوات البحرية السورية محل اهتمام كبير مقارنة بباقي الأسلحة، خلال الفترة الماضية، بحسب أولويات الوضع السوري، وانخراط القوات المسلحة في التعامل مع الصراع الداخلي. ومن هنا، فإن هذه التدريبات توحي بأن ثمة اهتماماً خاصاً من جانب روسيا برفع مستوى القدرات السورية في هذا القطاع تحديداً للتعامل مع التطورات الجديدة التي تشهدها المنطقة.
3- استعراض القوة: لا يمكن فصل هذه الخطوة عن محاولات موسكو استعراض قوتها في المنطقة، على نحو يعكس مدى الاهتمام الروسي بالتواجد في هذه المنطقة على حساب النفوذ التقليدي للولايات المتحدة الأمريكية وحلف "الناتو"، لاسيما أن منطقة شرق المتوسط أصبحت حيوية بالنسبة لها، في إطار المتغيرات الأمنية التي تشهدها، وهو ما انعكس في البيان الذي أشار إلى الدور الروسي في مكافحة العديد من التهديدات الأمنية لاسيما الإرهاب، حيث قال أن "السفن الحربية الروسية قبالة سواحل سوريا تقدم مساهمة كبيرة في مكافحة الإرهاب الدولي".
4- التعاون في مجال استخراج الغاز: يتوازى إجراء هذه المناورات مع ما كشفت عنه تقارير عديدة، في 17 ديسمبر الجاري، بشأن موافقة البرلمان السوري على قيام شركتين روسيتين بالتنقيب عن الغاز في ثلاثة مواقع، ذكر تقرير "وكالة الأنباء السورية" منها موقعين فقط، هما حقل نفطي في شمال شرق سوريا وحقل غاز شمال العاصمة دمشق، وهو ما دفع اتجاهات عديدة إلى ترجيح أن يكون الموقع الثالث في شرق المتوسط، لكن لم يتم الإعلان عنه قبل تأكيد الاكتشافات من جهة ثم وضع خطة لعملية ترسيم الحدود البحرية، وهى الخطوة التي ربما تواجه سوريا بسببها مشكلات عديدة في الفترة القادمة، لاسيما مع كل من إسرائيل ولبنان.
ومن دون شك، لا يمكن فصل ذلك عن اهتمام روسيا برفع مستوى التعاون الاقتصادي مع سوريا، حيث نقلت وكالة إنترفاكس الروسية، في 17 ديسمبر الحالي، عن نائب رئيس الوزراء الروسي يوري بوريسوف أن روسيا تخطط لبناء مركز للحبوب في ميناء طرطوس، الذي استأجرته لمدة 49 عاماً، لتعزز وجودها في أسواق الشرق الأوسط، الأمر الذى وضعت له ميزانية تقدر بحوالي نصف مليار دولار على مدى أربع سنوات، كما تخطط موسكو لتأسيس خط للسكك الحديدية عبر سوريا والعراق، بهدف إنشاء ممر يصل إلى البحر المتوسط ويربطه بمنطقة الخليج العربي والعالم عن طريق العراق، وذلك لزيادة طاقات الشحن والحركة التجارية في الميناء.
وبحسب التصريحات الرسمية السورية، فإن هناك اتجاهاً حكومياً لتعزيز إنتاج الطاقة الذي تضرر جراء الحرب التي تشهدها سوريا منذ أكثر من 8 سنوات، فضلاً عن العقوبات الغربية التي فرضت على النظام السوري. وفي هذا السياق، فإن دمشق ستحاول الاستفادة من موقعها الاستراتيجي من أجل تحقيق هذا الهدف الذي سيساعدها في الوقت نفسه على التعامل مع بعض الأزمات الأخرى، مثل البطالة، حيث ستؤدي المشروعات الخاصة بالطاقة إلى زيادة توظيف العمالة السورية، وتشير التقارير الروسية، في هذا الإطار، إلى أنه يمكن توظيف نحو 3700 شخص في طرطوس وحدها خلال المرحلة القادمة في حالة تنفيذ الخطط المطروحة في هذا الصدد.
وبالطبع، فإن تحسن الوضع الاقتصادي السوري سوف ينعكس بالتبعية على زيادة القدرات الإنتاجية والتوزيعية بعد انتهاء الحرب التي استنزفت قدرات النظام على مدار السنوات الماضية، بما يعني أن الحكومة السورية ستكون أول المستفيدين من تلك العوائد، إضافة إلى تداعيات تحسين البنية التحتية، لاسيما في المناطق التي أٌهمِلت أو تعرضت لتدمير واسع خلال سنوات الحرب.
5- فتح قنوات تواصل مع القوى المختلفة: تقدم روسيا نفسها في الوقت الحالي على أنها القوة الدولية التي تواجه المخاطر والتهديدات الأمنية التقليدية وغير التقليدية، حيث ترى أن هذا الحضور يمكن تسويقه لكافة الأطراف، سواء في الشرق الأوسط أو أوروبا، في إطار سعيها إلى تعزيز دورها كطرف لا يمكن استبعاده في عملية إعادة صياغة الترتيبات الأمنية التي تجري في المنطقة.
وفي النهاية، يمكن القول إن نمط الوجود الروسي في سوريا خلال الحقبة الحالية بدأ في التغير، حيث بات يكتسب أبعاداً إستراتيجية أوسع وأهم وأكثر تأثيراً مما كان قائماً خلال فترة ما قبل وأثناء الحرب، إذ لم تعد أهداف الوجود الروسي، على سبيل المثال، تنحصر في مجرد تقديم الدعم العسكري خاصة بعد أن تحولت توازنات القوى لصالح النظام السوري، وإنما بدأت تمتد إلى مجالات أخرى ترتبط بمصالح حيوية روسية في قطاعات تكتسب أهمية خاصة من جانبها، لاسيما قطاع الطاقة.