جاء الهجوم المُسلح على العرض العسكري في الأحواز جنوب غربي إيران امتدادًا لاضطرابات الداخل التي تشهدها طهران منذ نهاية العام الماضي ومطلع العام الجاري، إذ شهدت إيران موجات احتجاجية متتابعة كان أكثرها احتدامًا في ديسمبر 2017 نتيجة لتردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، ولقد كشف الهجوم عن تصاعد الاحتقان في العلاقة بين النظام الإيراني والأقليات، وتصاعد تهديدات الفصائل المُسلحة المنتمية لأقلية الأحواز، وهو ما قد يدفع الحرس الثوري الإيراني لاتخاذ إجراءات انتقامية بحق الأحواز، كما قد يلجأ النظام الإيراني للتصعيد خارجيًّا للإفلات من ضغوط وتعقيدات المشهد الداخلي.
ملابسات الهجوم:
أعلن التلفزيون الرسمي الإيراني أن أربعة مسلحين قاموا بإطلاق النار على عرض عسكري في الأحواز جنوب غربي إيران، وهو ما أدى إلى مقتل ما يصل إلى 29 شخصًا معظمهم من قوات الحرس الإيراني، وإصابة العشرات. وعلى الرغم من إعلان تنظيم "داعش" في البداية عبر وكالة أعماق مسئوليته عن الهجوم، إلا أن المتحدث باسم حركة "النضال العربي لتحرير الأحواز" قد نفى ذلك، معلنًا تبني المقاومة الوطنية الأحوازية التي تنضوي حركته تحتها لهذا الهجوم المسلح، وقد جاء هذا الهجوم بالتزامن مع ذكرى الحرب العراقية الإيرانية التي عانى الأحواز بشكل خاص من تبعاتها. بينما رأت بعض التنظيمات المعارضة أن هذا الهجوم جاء بتدبير من النظام الإيراني نفسه لادعاء المظلومية، خاصة أنه قد تم تنفيذه قبيل حضور الرئيس "حسن روحاني" اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، واجتماع مجلس الأمن حول إيران المزمع عقدها خلال الأسبوع المقبل.
فيما قامت الخارجية الإيرانية باستدعاء سفراء كل من المملكة المتحدة وهولندا والدنمارك متهمة إياهم بإيواء عناصر ومنظمات إرهابية على أراضيها، ولا سيما تلك الحركات الأحوازية الناشطة هناك، وندد وزير الخارجية الإيراني "محمد جواد ظريف" بهذا الحادث، مصرحًا بأن "إيران سترد بسرعة وحسم دفاعًا عن أرواح أبنائها".
تأزم الداخل:
تشهد الساحة الإيرانية منذ فترة حالة من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي خاصة بعد اندلاع الاحتجاجات الشعبية الأخيرة في مطلع العام الجاري بسبب تدهور الأوضاع الاقتصادية على الرغم من الوعود الحكومية المستمرة بتحسين الوضع الاقتصادي، وقد حاول كل من الإصلاحيين والمحافظين تحميل مسئولية تدهور الأوضاع للطرف الآخر، وقد ازدادت هذه المحاولات تحديدًا بعد إعلان الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" فرض حزمة جديدة من العقوبات الاقتصادية على إيران والدول التي لا تلتزم بهذه العقوبات في إطار السعي لتحجيم النظام الإيراني حتى إسقاطه وفقًا للمعلن.
وهو ما يحمّله التيار المحافظ للإصلاحيين باعتبارهم الداعين للتصالح مع الغرب والخروج عن نهج الثورة الذي يطالب بمواجهة "قوى الاستكبار". ويرى المحافظون أن الإصلاحيين قد هددوا ثوابت الأمن القومي الإيراني بفتح المجال للتدخلات الخارجية، مما أدى لحدوث شقاق اجتماعي أسهم في حالة عدم الاستقرار الداخلي الذي تعيشه إيران منذ توقيع الاتفاق النووي بين إيران ومجموعة دول 5+1 عام 2015.
وفي المقابل، يرى الإصلاحيون أن المحافظين والمؤسسات الداعمة لهم -وعلى رأسهم "الحرس الثوري"- هم المتسببون في حالة عدم الاستقرار الداخلي بسبب سوء إدارة موارد الدولة، ولا سيما في أعقاب الانفراجة الاقتصادية التي أعقبت الاتفاق النووي والإفراج عن معظم الأموال الإيرانية المجمدة في الخارج، واستخدامها في تمويل الأنشطة الإيرانية خارج الحدود، خاصة في كلٍّ من العراق وسوريا واليمن، الأمر الذي أدى لاستنزاف موارد الدولة الإيرانية في صراعات خارجية على حساب توجيه هذه الأموال لدعم الداخل. ومن هنا فإن هذا الشقاق الذي لم يحسمه المرشد الأعلى "خامنئي" حتى الآن سيؤدي بالتبعية لمزيد من الإشكاليات على الصعيد الداخلي، وسيسعى كل طرف للخروج من تبعات الأزمات الحالية على حساب الآخر.
حراك المعارضة:
تزايدت خلال الفترة الماضية أنشطة التنظيمات المعارضة للنظام الإيراني على المستويين الداخلي والخارجي، فقد شهد العام الجاري عددًا من الاحتجاجات الواسعة في بعض الأقاليم الإيرانية، ولا سيما في كل من كردستان والأحواز، ونشوء كيان عُرف باسم "حراك الشعوب الإيرانية" أصبح المسئول عن التحركات الداخلية والخارجية ضد النظام الإيراني، وهو ما يُقلق النظام الإيراني، لا سيما وأن الولايات المتحدة تقوم بدعم العديد من الحركات المعارضة في الخارج.
وتُعتبر الولايات المتحدة أهم داعم للمعارضة الإيرانية في الوقت الحالي، خاصة أن لديها جالية إيرانية كبيرة تُمثل كافة أطياف الشعب الإيراني، وتركز غالبية أنشطتها على مجال حقوق الإنسان. وفي هذا الإطار، عقدت منظمة "مجاهدي خلق" الإيرانية، في 22 سبتمبر 2018، مؤتمرًا في نيويورك تحت عنوان "انتفاضة إيران نحو الحرية" لبحث البدائل أمام المعارضة الإيرانية لتغيير النظام، كما استضاف الكونجرس الأمريكي عددًا من الحركات المعارِضة للنظام الإيراني في يونيو 2018. وتدل هذه الفعاليات على حصول المعارضة الإيرانية على الدعم المباشر من الدول الغربية في غالبية تحركاتها، لا سيما وأن الهجوم الذي وقع لم يَلقَ إدانات من غالبية الدول الغربية باستثناء بعضها مثل فرنسا رغم المطالبات الإيرانية بإدراج المنظمات المعارضة كتنظيمات إرهابية.
وقد اعتمدت المعارضة الإيرانية في الخارج منذ فترة وجيزة على استراتيجية جديدة في تعاطيها مع النظام الإيراني، مستفيدة من التحولات الخارجية، لا سيما من قبل الغرب الذي تخلى عن محاولات احتواء النظام إلى السعي لتغييره تماشيًا مع الرؤية الأمريكية في هذا الصدد، حيث قررت التنظيمات المعارضة توحيد حركتها في الخارج، وعدم الدخول في أنشطة قد تؤدي لاستعداء الدول الحاضنة لها، خاصة وأن هذه الدول قد شهدت العديد من العمليات الإرهابية مما يجعلها حذرة من أي أنشطة قد تقوم بها هذه الجماعات وتؤدي لزعزعة استقرارها، ومن هنا فإن هذه الجماعات قد سعت لتحويل أنشطتها إلى داخل إيران على غرار العملية الأخيرة التي وُجِّهت ضد مؤسسة "الحرس الثوري" دون القيام بعمليات ضد مدنيين أو مؤسسات مدنية تجلب عليهم إدانات تسهم في تحجيم حركتهم في الدول الحاضنة لهم، وإدراجهم كمنظمات إرهابية، في حين أنهم يسعون للظهور في صورة حركات مقاومة مسلحة تواجه التجاوزات التي تحدث من جانب النظام الإيراني بشكل عمدي ضد الأقليات الإيرانية، وهو ما يُكسبهم مزيدًا من التعاطف الخارجي والدعم لأنشطتهم داخل إيران بحسب رؤيتهم.
ويتزامن مع هذا صعود الاحتجاجات في إيران منذ مطلع شهر سبتمبر الجاري، واستمرار الإضرابات والاعتصامات في عدد من المدن الإيرانية على خلفية تردي الوضع الاقتصادي، وانهيار العملة المحلية وارتفاع الأسعار. من جانب آخر، فإن عدم رضا "البازار" -والذي يعد من العناصر الداعمة تقليديًّا للنظام- عن السياسات الاقتصادية التي ينتهجها النظام تمثل عنصر ضغط شديد على النظام باعتباره قادرًا على تحريك الشارع الإيراني، وهو ما برز خلال احتجاجات يوليو 2018.
وتسعى المعارضة الخارجية لجذب "البازار" إليها في ظل الطبيعة البراجماتية لمكوناته وسعيها لتحقيق مصالحها، الأمر الذي يقلق مؤسسة الإرشاد باعتبار أن "البازار" الممول الرئيسي لأنشطة رجال الدين والحوزات، بسبب أموال "الخمس" من ناحية، والمصالح الاقتصادية للمؤسسات الداعمة للنظام الثوري التي تستثمر مواردها المالية من خلاله.
ختامًا، يمكن القول إن العملية العسكرية الأخيرة ضد "الحرس الثوري" لا تكمن خطورتها في حجم الخسائر التي سببتها، وذلك على الرغم من فداحتها ومساسها بسمعة الأمن الإيراني، بيد أن خطورتها تتضح في قيام حركة "النضال العربي لتحرير الأحواز" بتبني الهجوم لاستعراض قدراتها، ودفع النظام الإيراني لمحاولة الانتقام من الداخل، والقيام بأعمال تعسفية لاستعادة هيبته، مما سيؤدي بالتبعية إلى زيادة الضغوط الخارجية على النظام كرد فعل على الممارسات التعسفية المتوقعة، ويأتي هذا كله في ظل تكثيف الدول الداعمة للمعارضة لحركتها ضد النظام الإيراني استعدادًا لاجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة حول إيران، الأمر الذي سيفرض على "طهران" مزيدًا من الضغوط خلال المرحلة القادمة في الداخل وفي تحركاتها الخارجية لا سيما مع وضوح حجم الخلافات بين إيران وروسيا التي تسعى بدورها لتحجيم النفوذ الإيراني في سوريا.