إذا كان ثمة مَن يريد تحليل النتائج التي انتهت إليها الانتخابات البرلمانية الأخيرة في لبنان بمعزل عن المناخين الإقليمي والدولي، فإنني أنصحه بالانصراف إلى أمور أكثر نفعاً.
أصلاً، منذ حقبة «التوافق الوهمي» التي سبقت حقبة «الاحتلال الواقعي» الحالية، كان من رابع المستحيلات الخروج بقراءة مفيدة للتحالفات والتكتيكات السياسية في لبنان، فكيف اليوم في بلد نظامه السياسي عبثي و«فلسفة» طبقته السياسية الاستنساب وانتهاز الفرص والمتاجرة بالأوهام.
في هذا السياق، قبل أن أستقرّ على موضوع هذه المقالة اخترت أمس أن أراجع صفحة الرأي في إحدى الصحف اليومية اللبنانية، فإذا بي أمام اجتهادات متناقضة في الصفحة ذاتها، لعلها تعبّر خير تعبير عن تلك الأوهام المتاجر بها. فثمة رأي مغالٍ في واقعيته المتألمة المكلومة، وآخر مكابر أو قُل مقتنع بأن حسم حزب الله وأتباع «الجهاز الأمني السوري - اللبناني» معركة الانتخابات الأخيرة لمصلحتهم لا يعني أنه ربح الحرب... بل إن إيران مأزومة وعقارب الساعة لن تعود إلى الوراء.
في مطلق الأحوال، أمام هذا الاختلاف في التحليل ضمن صفحة رأي واحدة في الصحيفة نفسها، ثمة حقيقة واحدة أزعم أنه لا خلاف عليها هي أن لبنان، كان ولا يزال وسيبقى، سمكة صغيرة في بحر كبير. وفي غياب حياة سياسية وحزبية ومؤسساتية حقيقية سيظل البلد في مهب ريح المنطقة، التي هي بدورها في وضع غير مطمئن وبعيد جداً عن الحسم.
بديهياً، لا مجال للفصل بين الهيمنة الفعلية لحزب الله على لبنان عن المشروع الإيراني، لا سيما، أن الحزب جزء لا يتجزّأ من هذا المشروع. ولقد أثبتت الأيام منذ 2006 تحديداً أن كلمة «المقاومة» مع كل ما يسبقها من مقدّمات ويتبعها من صفات... تعني «مصالح نظام طهران ومشروعه».
ثم إن هذا الحزب كان نتاج هيمنة ترسّخت في سوريا قبل لبنان، إبان حكم حافظ الأسد. ومع أن الأسد «الأب» - مثل جماعات «الإصلاحيين» المزعومين في طهران - كان أقدر بكثير على التمويه والتخدير وتحييد الخصوم من الأسد «الابن» وجيل «الحرس» الثوري الممسك اليوم بمفاتيح السلطة، فإن عهد «الأب» هو الذي شهد فعلياً بداية دور «الحاضنة» لحزب الله.
وبالتالي، عندما اضطرت قوات نظام دمشق للانسحاب من لبنان عام 2005 في أعقاب جريمة اغتيال رفيق الحريري، تبين أن نظام دمشق ما كان سوى «حاضنة» لوليد النظام الإيراني... لا أكثر ولا أقل. والدليل أن الحزب أسفر عن وجهه صراحة على الساحة اللبنانية، رافضاً القبول بمحكمة دولية في جريمة اغتيال الحريري، ثم رفض التعاون معها. ولاحقاً بعد اتهام 5 من عناصره بالتورّط في الجريمة رفض تسليمهم والبحث بأي تفاوض بشأنهم وهو الذي فاوض - ولو عبر طرف ثالث - إسرائيل على أسراه وجثث الجنود الإسرائيليين.
ثم جاء دليل أقوى، وهو حرب 2006 التي افتعلها الحزب مع إسرائيل. وكانت الثمرة الاستراتيجية الأهم لهذه الحرب إبعاده عن الحدود الجنوبية، وتوجيهه سلاحه إلى الداخل اللبناني عام 2008، ثم إلى الداخل السوري عام 2011، ولاحقاً التدخل حتى في الشأن اليمني تنفيذاً لاستراتيجية إيران الإقليمية التي لا يهمهما لا من قريب أو بعيد «مقاومة» إسرائيل أو تحرير فلسطين... بما فيها القدس.
في الانتخابات اللبنانية الأخيرة حقق حزب الله كسباً كبيراً في معركة أسهم بفرض قانونها الانتخابي. والمجتمع الدولي كان يعلم سلفاً بأن حصيلة التمثيل النسبي - وفق قانون الانتخاب الجديد - حدوث اختراقات كبيرة في مختلف الكتل الطائفية باستثناء الكتلة الشيعية طالما أن حزب الله وحده يحتفظ بسلاحه الثقيل، وطالما أن ثمة توافقاً بين الحزب و«حركة أمل»... التي توفر له إطلالة مريحة على باقي الطوائف وتشكل جهاز امتصاص الصدمات بينه وبين اللاعبين الآخرين.
وحقاً، هذا بالضبط ما حصل. إذ أغلق «الثنائي الشيعي» معاقله في جنوب لبنان وشرقه (البقاع الشمالي) بوجه خصومه واكتسح كل مقاعدها الشيعية، بينما تمكن أتباعه الذين كانوا يلقَّبون حتى الأمس القريب بـ«أيتام حقبة الوصاية السورية» من اختراق المناطق الأخرى.
وبالأمس، انتخب الرئيس نبيه برّي زعيم حركة «أمل» للمرة السادسة رئيساً لمجلس النواب. ولكن إذا كان انتخاب برّي مسألة محسومة، لكون «الثنائي الشيعي» يحتكر عملياً التمثيل الشيعي في المجلس، ولكون برّي مقبولاً من أطراف عدة عبر المشهد، كان انتخاب نائب رئيس المجلس ذا دلالة كبرى. إذ انتخب النائب إيلي الفرزلي (الذي سبق له شغل المنصب قبل 2005) وهو أحد كبار المحسوبين على دمشق وتيار رئيس الجمهورية ميشال عون، وبالتالي، على استراتيجية حزب الله. وكان مثيراً جداً قول الفرزلي «ما حصل هو تصحيح لخطأ تاريخي وقع في 2005».
هذا يعني أن لبنان اليوم، في مرحلة ما بعد انتخابات فرض قانون انتخابها تحالف حزب الله - عون، عائد إلى حيث كان قبل 2005.
عائد إلى «حقبة وصاية 2»، وهذا أمر ما كان ممكناً لو كان موقف المجتمع الدولي مختلفاً إزاء المشروع الإيراني بما أنه، وحتى إشعار آخر، لا تعارض علنياً بين مواقف دمشق الرسمية ومواقف طهران.
باراك أوباما الذي عقد صفقته التاريخية مع طهران كان يعرف أنه يضحي بشعب سوريا، لكنه لم يتردد. والمجتمع الدولي، وبالأخص دول أوروبا الغربية الكبرى المتسابقة على استرضاء طهران واستجداء العقود معها، أيضاً لا يهمها لا شعب لبنان ولا شعب سوريا ولا شعب العراق. وروسيا لا مشكلة عندها بموطئ قدم إقليمي وسط بحيرات الدم.
وإسرائيل تعرف ما تريد، وهي مرتاحة للتشرذم والعداوات الطائفية و«حرس الحدود» الذين يصرخون ويزايدون... لكنهم لا يعملون.
لبنان اليوم مصيره كمصير لبنان الأمس، طالما أن في عواصم القرار اقتناعاً ببقاء نظام طهران شريطة «تغييره سلوكه»، وبقاء نظام دمشق شريطة مهادنته الكل باستثناء شعبه... ولكن ماذا سيحل بلبنان إذا حصلت المفاجأة وأزيح نظام طهران؟
*نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط