لا يكفي أن تعلن انتصارك. يبقى ناقصاً ما لم يشهر الآخر هزيمته. وأحياناً تكفي نكزة صغيرة لتذكير ملاكم كبير أن المباراة لم تنتهِ بالضربة القاضية، وأن الخصم المترنح لا يزال قادراً على إفساد العرس وإلحاق جرح بالصورة.
أغلب الظن أن فلاديمير بوتين شعر بالمرارة حين تلقى التقارير. موجة الـ«درون» التي استهدفت معاقل قواته في حميميم وطرطوس كانت مزعجة ومحرجة. حفنة طائرات بلا طيار، وبتكنولوجيا عادية، سجّلت اختراقاً هو أشبه بدفرسوار. صحيح أن تحرشاً من هذا النوع لا يغير قواعد اللعبة، لكن الصحيح أيضاً هو أنه كشف أن القلعة قابلة للاختراق، وأنه يمكن العثور على ثغرات في منظومة الهيبة الروسية وإجراءاتها العسكرية. حادثة محدودة تكشف هشاشة إجراءات دولة عظمى. والرسالة واضحة، ومفادها أن الحرب لم تختتم بعد.
برّأت روسيا تركيا من الحادث. ويصعب الاعتقاد أن تركيا الحالية يمكن أن ترتكب مغامرة من هذا النوع. دفعت غالياً في السابق ثمن تجرؤ أحد طياريها على قاذفة روسية. دفعت وبالغت وغيّرت سياستها وخياراتها. حاولت موسكو الإيحاء بوجود رعاية أميركية للعملية، لكن واشنطن سارعت إلى النفي القاطع. ثمة من يرجح أن مجموعة معارضة أرادت تذكير اللاعب الروسي بأن الحرب لا تزال مفتوحة، وتتسع لجولات كثيرة، على رغم تبدل موازين القوى بفعل الانخراط الروسي.
أسوأ ما في الحادث أنه جاء بعد أقل من شهر من إعلان بوتين انتصاره في سوريا. اعتبر أن المهمة أنجزت، وأمر ببدء انسحاب جزء من القوات. والحقيقة أن المشهد الإقليمي والدولي بدا وردياً للقيصر؛ لم يعد هناك مشروع مضاد في سوريا. جنحت معظم القوى الإقليمية والدولية إلى التعامل مع الحل الروسي كأمر واقع. اعتبرت جهات كثيرة أن الحل الروسي هو الطريق الواقعي الوحيد لتقليم أظافر الدور الإيراني هناك. الولايات المتحدة نفسها بدت مستعدة لتقبل النجاح الروسي في سوريا إذا كان من شأنه تقليص سوريا الإيرانية لمصلحة سوريا الروسية.
لم يكن بوتين يشعر بالقلق من الانتخابات الرئاسية المقررة في مارس (آذار) المقبل. وهي في الحقيقة نوع من الاستفتاء في غياب أي منافس جدي. لكنه قد تعمد إعلان الانتصار لتعزيز صورة الزعيم البارع. لم تتحول سوريا بالنسبة إلى بلاده إلى فيتنام أميركية، ولا إلى أفغانستان سوفياتية. بأقل التكاليف، نجح في تنظيم انقلاب واسع أعاد إلى روسيا موقعها وهيبتها. كل ذلك في وقت تعيش فيه أميركا على وقع حروب «تويتر»، وتجاهد ميركل لتشكيل حكومة، وتتعثر تيريزا ماي بإجراءات الطلاق مع الاتحاد الأوروبي.
أحياناً، تأتيك المفاجأة من حيث لا تتوقع؛ حفنة طائرات صغيرة أعادت طرح السؤال عن الصعوبات التي تعترض الانتصار الروسي الفعلي في سوريا. والانتصار الفعلي هو أن تحمي انتصاراتك الميدانية بحل سياسي دائم يسمح لك بالقول جدياً إن الحرب انتهت.
والواقع يشير إلى أن الحل الروسي ليس نزهة على الإطلاق؛ الحسابات داخل مثلث آستانة، الذي يضم روسيا وإيران وتركيا، ليست متطابقة على الإطلاق. فإيران تعتبر نفسها شريكة أساسية في الانتصار الذي تحقق في سوريا، وتعتقد أنه ما كان باستطاعة سلاح الجو الروسي أن يقلب مسار الحرب لولا الدور الذي اضطلعت به على الأرض الميليشيات الموالية لها. وحسابات تركيا مختلفة هي الأخرى؛ الهم الأول هو توجيه ضربة قاصمة إلى «وحدات حماية الشعب» الكردية. وها هو رجب طيب إردوغان يعطي «الوحدات» في عفرين مهلة أسبوع للاستسلام أو مواجهة السحق على يد قواته والقوات التابعة لها. أكثر من ذلك طالبت تركيا روسيا وإيران بتنفيذ التزاماتهما السابقة حيال إخلال قوات النظام بشروط مناطق «خفض التصعيد»، خصوصاً في إدلب. لا تقبل إيران بأقل من عودة نظام الأسد إلى ما كان عليه، ولا مصلحة لتركيا على الإطلاق في مثل هذه العودة.
لروسيا مصلحة فعلية في الظهور في صورة صانع الحل في سوريا. لا تريد الإقامة في بلد يشهد حرباً بلا نهاية، لكنها تجد صعوبة حتى في توفير الحد الأدنى الضروري لحل يكاد يكون تجميلياً. فالنظام الذي لم يظهر ميلاً إلى تقديم تنازلات يوم كان في وضع شديد الصعوبة لن يظهر مثل هذا الميل بعدما تخطى الأخطار التي كانت تهدد باقتلاعه، ثم إن النظام يستطيع الاتكاء أحياناً على التشدد الإيراني، أو التذرع به. وليس سراً أن أي حل يعيد توزيع السلطات - ولو نسبياً - بين المكونات، لن يكون على المدى المتوسط والبعيد في مصلحة إيران.
فعلت موسكو كل ما في استطاعتها لتسريع فرض حل في سوريا؛ بذلت جهوداً غير عادية لاستنزاف روح بيان جنيف ونصوصه. بذلت جهوداً غير عادية أيضاً لفرض تغييرات داخل الجسم المعارض المعني بالمفاوضات. لكن الأيام الأخيرة كشفت حجم الصعوبات التي تعترض طريق موسكو؛ الأمم المتحدة لا تخفي معارضتها محاولة تكريس لغة سوتشي، وتحويل جنيف مجرد ثلاجة أو علبة بريد مهمتها انتظار الرسائل الوافدة من سوتشي. واشنطن نفسها تعود تدريجياً إلى التشدد، ولو من بوابة رفض أي حلول تكرس سوريا مجرد حلقة في «الهلال الإيراني». الأوروبيون يظهرون استعداداً أكبر للنظر في سياسات زعزعة الاستقرار التي تنتهجها إيران، على رغم تمسكهم بالاتفاق النووي معها. إسرائيل تعبر أكثر من ذي قبل عن تبرمها بعجز روسيا عن إبعاد الميليشيات الإيرانية عن المناطق الحدودية، وتصعد غاراتها في العمق السوري.
واضح أن روسيا تجد صعوبة متزايدة في التوفيق بين مطالب اللاعبين الإقليميين والدوليين على الساحة السورية. تراجع الرهان على جدية الحل الروسي قد يفتح الباب ليقظة خيارات أخرى تساهم في تمديد الحرب التي كشف انحسار «داعش» أنها أكثر تعقيداً مما اعتقد كثيرون. الانتصار النهائي صعب في سوريا. وفي غياب الحل السياسي، يبقى كل انتصار عسكري مهدداً أو قابلاً للاستنزاف.
*نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط