أخبار المركز
  • د. أمل عبدالله الهدابي تكتب: (اليوم الوطني الـ53 للإمارات.. الانطلاق للمستقبل بقوة الاتحاد)
  • معالي نبيل فهمي يكتب: (التحرك العربي ضد الفوضى في المنطقة.. ما العمل؟)
  • هالة الحفناوي تكتب: (ما مستقبل البشر في عالم ما بعد الإنسانية؟)
  • مركز المستقبل يصدر ثلاث دراسات حول مستقبل الإعلام في عصر الذكاء الاصطناعي
  • حلقة نقاشية لمركز المستقبل عن (اقتصاد العملات الإلكترونية)

توقيت حرج :

ارتدادات تفكك الحكومة الائتلافية في ألمانيا

21 نوفمبر، 2024


أقال المستشار الألماني أولاف شولتس، وزير المالية وزعيم الحزب الديمقراطي الحر كريستيان ليندنر، في 6 نوفمبر 2024؛ إذ أعلن المستشار الألماني أن وزير ماليته خان ثقته مراراً، و"أن العمل الحكومي صار غير ممكن في ظل تلك الظروف"؛ وتأتي الإقالة في ظل تفاقم الخلاف داخل الحكومة الائتلافية في ألمانيا حول سبل إنعاش الاقتصاد الألماني المتعثر وميزانية الإنفاق، وقد وضعت الإقالة حداً كذلك لاستمرار التحالف بين الأحزاب المكونة للائتلاف الحاكم الذي يتشكل من الديمقراطيين الاجتماعيين بزعامة شولتس، والديمقراطيين الأحرار بزعامة ليندنر، وحزب الخضر.

أبعاد مُتداخلة:

ترتبط إقالة وزير المالية الألماني، كريستيان ليندنر، بالعديد من الأبعاد المتداخلة، التي يمكن الإشارة إليها على النحو التالي:

1. سبب الإقالة: تأسّست إقالة شولتس لوزير المالية ليندنر على الخلافات الجوهرية حول الإدارة الاقتصادية وأولويات الإنفاق، حيث أصرّ وزير المالية السابق على مسألة الانضباط المالي وفرض قيود على الإنفاق العام، وهو ما تعارض مع دفع شولتس المستمر نحو اتخاذ تدابير اقتصادية استباقية لتحفيز النمو ودعم القطاعات المُتعثرة من خلال تحمل المزيد من الديون؛ لذا دفعت تلك الاختلافات، شولتس، إلى ذلك القرار "الجريء" والبحث عن وزير مالية يتوافق نهجه مع رؤيته الخاصة. 

2. خلافات الحكومة الائتلافية في ألمانيا: تُعد الإقالة بمثابة انعكاس جلي لحجم الخلاف القائم والممتد داخل الائتلاف الألماني الحاكم منذ بدايته قبل نحو ثلاث سنوات بشأن العديد من القضايا، ويمكن الإشارة إلى أبرز أوجه الخلاف بين أحزاب الائتلاف الثلاثة على النحو التالي:

أ. السياسات الاقتصادية: كانت السياسة الاقتصادية مصدراً أساسياً للخلاف داخل الائتلاف الحاكم، حيث دعا كل حزب إلى اتباع نهج مختلف للتعامل مع مسائل التضخم والإنفاق العام والاستثمار؛ فغالباً ما يدفع الديمقراطيون الاجتماعيون والخضر من أجل إنفاق أكثر على الرعاية الاجتماعية لدعم العمال وتخفيف التفاوت في الدخل، في حين يدعو الديمقراطيون الأحرار إلى الانضباط المالي وخفض الدين العام؛ وهو ما يتعارض غالباً مع مقترحات الإنفاق المقترحة من الحزب الديمقراطي الاجتماعي والخضر؛ وبذلك برزت تعقيدات كبيرة بشأن قدرة الائتلاف على تقديم استراتيجية اقتصادية موحدة وخلق اختراق حقيقي حول تخصيصات الميزانية، والسياسات الضريبية، وتمويل البرامج الاجتماعية.

ب. السياسات البيئية: يدفع الحزب الديمقراطي الاجتماعي والخضر باتجاه اتخاذ إجراءات مناخية تستهدف التخلص التدريجي من الفحم والحد من الانبعاثات وزيادة قدرة الطاقة المتجددة، إلا أن الحزب الديمقراطي الحر يُعارض في كثير من الأحيان اللوائح البيئية الشاملة، مستشهداً دائماً بأعباء محتملة على الشركات والنمو الاقتصادي؛ مما قوّض قدرة الائتلاف على الإجماع بشأن قضايا حاسمة لالتزامات ألمانيا المناخية مثل: تسعير الكربون، ودعم الطاقة الخضراء، واللوائح التنظيمية للصناعات.

ج. الهجرة: في حين يعطي الخضر والحزب الديمقراطي الاجتماعي الأولوية بشكل عام لمسارات أكثر انفتاحاً فيما يتعلق بحماية اللاجئين، يتخذ الحزب الديمقراطي الحر موقفاً أكثر تشدداً، ويدعو إلى ضوابط هجرة أكثر صرامة وإعطاء الأولوية للهجرة الاقتصادية على الاعتبارات الإنسانية؛ وهو ما ظهر جلياً في الخلاف داخل الائتلاف حول استقبال اللاجئين من مناطق الصراع مثل: سوريا وأوكرانيا.

3. السياق العام: تتزامن الإقالة مع سياق داخلي وخارجي ضاغط على الحكومة الألمانية، وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالي:

أ- الأزمة الاقتصادية: تواجه ألمانيا أزمة اقتصادية مُتصاعدة خلال السنوات الأخيرة، مدفوعة إلى حد كبير بالضغوط التضخمية، وارتفاع تكاليف الطاقة، وانقطاعات سلاسل التوريد، ولاسيما في أعقاب أزمة الطاقة التي تفاقمت بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، بالإضافة إلى مُعاناة بعض الشركات المحلية في ظل زيادة تكاليف التشغيل؛ مما يجعل من الصعب الحفاظ على الربحية والاستقرار. وإضافة إلى ذلك، تعرض النموذج الاقتصادي الألماني، الذي يعتمد بشكل كبير على الصادرات، لضغوط شديدة مع تراجع الطلب على مستوى العالم، وارتدادات التوترات الجيوسياسية المُباشرة على أنماط وتوجهات التجارة العالمية. 

ب- الانكماش الصناعي: شهد القطاع الصناعي في ألمانيا، وهو العمود الفقري لاقتصادها، انحداراً كبيراً في السنوات الأخيرة؛ إذ تواجه القطاعات التقليدية، بما في ذلك صناعة السيارات والتصنيع، تكاليف متزايدة ولوائح بيئية أكثر صرامة، مدفوعة بتعقد ديناميكيات الصناعة في بعض القطاعات الحيوية مثل القطاع التكنولوجي الألماني، والذي بدأ يستشعر خطورة تأثير هيمنة الصين المتزايدة عليه.

ج- فوز ترامب: حيث جاءت الإقالة في نفس اليوم الذي أُعلن فيه عن فوز ترامب بالانتخابات الأمريكية، وعلى الرغم من افتراض إظهار قدر من التماسك الحكومي لألمانيا في ظل ترجيحات تراجع التزامات إدارة ترامب تجاه القارة الأوروبية؛ فإن حالة الاضطراب السياسي الحالي في ألمانيا -بصفتها قوة كبرى داخل الإطار الأوروبي- قد تُضفي مزيداً من التعقيد على مسار العلاقات الأوروبية الأمريكية خلال فترة حكم ترامب.

د- ردود الفعل: أثارت الإقالة جملة من ردود الفعل من قِبل الأحزاب الألمانية كلٌ وفقاً لتوجهاته الأيديولوجية، وكذلك دوره داخل أو خارج الائتلاف الحاكم، وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالي:

1) الحزب الديمقراطي الاجتماعي (SPD): أيّد الحزب الديمقراطي الاجتماعي، حزب شولتس، القرار، باعتباره خطوة ضرورية للحفاظ على سياسة اقتصادية متماسكة داخل الحكومة الألمانية؛ فلطالما انتقد العديد من أعضاء الحزب الديمقراطي الاجتماعي نهج ليندنر الذي يركز على التقشف.

2) الحزب الديمقراطي الحر (FDP): أعرب قادة الحزب الديمقراطي الحر عن خيبة أملهم وإحباطهم من قرار شولتس، واعتبروه خطوة تستهدف تقليص نفوذ الحزب الديمقراطي الحر داخل الائتلاف الحاكم، كما تجدر الإشارة في ذلك الإطار إلى أن زعيم الحزب، كريستيان ليندنر، أكد أن شولتس حاول إجباره على تعليق نظام كبح الديون الدستوري في البلاد، وأنه أظهر "أنه لا يملك القوة اللازمة لإعطاء بلاده دفعة جديدة".

3) حزب الخضر: أظهر الخضر تفاعلاً إيجابياً بشكل عام مع الإقالة، إذ غالباً ما تتوافق رؤى الحزب مع سياسات شولتس على عكس الحزب الديمقراطي الحر.

4) الاتحاد الديمقراطي المسيحي (CSU): انتقد حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي المعارض، قرار شولتس، واعتبره دليلاً على عدم الاستقرار والخلل داخل الائتلاف الحاكم، كما استغل زعيم الاتحاد الديمقراطي المسيحي فريدريش ميرز، وأعضاء آخرون في الحزب، الموقف؛ لتعزيز قاعدة دعمهم الخاصة واستعادة أرضية سياسية مناسبة لطرح الحزب كبديل في حالة الدعوة إلى انتخابات مبكرة، لاسيما وأن زعيم الحزب والمعارضة الألمانية ميرز، قد دعا إلى إجراء انتخابات مبكرة، محذراً من أن البلاد لا يمكن أن تخاطر بفترة طويلة من عدم اليقين السياسي. 

ارتدادات الإقالة:

ثمّة بعض الارتدادات المباشرة لإقالة وزير المالية الألماني، والتي أدت إلى انهيار الائتلاف الحكومي الألماني، وهي ارتدادات عزّزت بصورة عامة حالة عدم اليقين السياسي، والاقتصادي، والخارجي، بالشكل الذي قد يعيد تشكيل الأولويات الألمانية خلال الفترة المقبلة، ويمكن الإشارة إلى أبرز تلك الارتدادات على النحو التالي:

1. تعميق الاضطرابات السياسية: من المُرجّح أن تدفع إقالة وزير المالية، وكذا تفكك الائتلاف الحاكم الألماني، إلى فرض مسألة الانتخابات المبكرة؛ مما يخلق فترة من عدم الاستقرار قد تُعوق قدرة ألمانيا على معالجة القضايا المحلية والإقليمية الملحة، وقد يؤدي تولي شولتس رئاسة حكومة أقلية تضم الديمقراطيين الاجتماعيين والخضر، إلى شل منظومة صنع القرار الحكومي بشأن قضايا حاسمة مثل: أمن الطاقة وإدارة التضخم.

وفي سياق مناخ الاضطرابات السياسية العام، والذي يتقاطع مع جملة من الأزمات الداخلية التي أظهرت محدودية التوافق داخل الائتلاف الألماني الحاكم؛ يرجح أن تشهد الفترة القصيرة المقبلة تراجعاً في ثقة الناخبين الألمان تجاه الأحزاب الثلاثة المكونة للائتلاف الألماني الحاكم في مقابل تعزيز جاذبية بعض الأحزاب الأخرى المعارضة مثل: الاتحاد الديمقراطي المسيحي وحزب البديل من أجل ألمانيا، لاسيما وأنه من الواضح تقدم الأول في استطلاعات الرأي الأخيرة، والتي أظهرت تفوق الحزب بنسبة 30-34%، ويأتي خلفه حزب البديل من أجل ألمانيا 16-19%، بالإضافة ارتفاع حظوظ حزب "بي إس في" في ظل نتائجه المفاجئة في الانتخابات الإقليمية في مقاطعتي "تورينغن" و"ساكسونيا". 

2. إشكاليات اقتصادية: من غير المستبعد أن تشير الإقالة ضمنياً إلى تحول محتمل في الاستراتيجية الاقتصادية لألمانيا، مع احتمال زيادة الإنفاق على البرامج الاجتماعية والمشروعات البيئية من قِبَل الحزب الديمقراطي الاجتماعي والخضر، كما قد تؤدي الإقالة إلى إعادة التوجيه نحو أولويات الحزب الديمقراطي الاجتماعي، مع التركيز على الرعاية الاجتماعية والاستثمارات في الطاقة المتجددة، حتى لو كان ذلك يتطلب تخفيف بعض القيود المالية.

لكن تجدر الإشارة إلى إن هذا التحول قد يضغط على ميزانية ألمانيا في ظل الأزمة الاقتصادية الراهنة، إذ إن التغييرات في السياسة الاقتصادية الألمانية قد تؤثر في دورها داخل الاتحاد الأوروبي، وقد يؤدي التحرك نحو زيادة الإنفاق إلى خلق احتكاك مع الدول الأكثر محافظة مالياً في الاتحاد الأوروبي. بالإضافة إلى ذلك، فإن أي زيادة في الاقتراض أو توسعات في الميزانية قد تؤثر في ثقة السوق، حيث يبحث المستثمرون عن الاطمئنان بشأن الاستقرار المالي البعيد لألمانيا.

3. الدور الألماني داخل الإطار الأوروبي: قد يُضعف عدم الاستقرار السياسي الداخلي في ألمانيا دورها القيادي داخل الاتحاد الأوروبي، وقد يؤثر عدم الاستقرار في ألمانيا أيضاً في قدرتها على القيادة داخل حلف شمال الأطلسي، وخصوصاً فيما يتعلق بالطاقة والسياسة الدفاعية التي أصبحت ألمانيا طرفاً مهماً وأساسياً فيها، كما سيلقي بظلاله على الخطط الخاصة بالتصنيع العسكري الأوروبي، والتي يعوّل فيها الأوروبيون على التغطية المالية الألمانية. 

سيناريوهات مُحتملة:

ترتيباً على ما تقدم، يمكن الإشارة إلى السيناريوهين التاليين فيما يتعلق بمستقبل الحكومة الألمانية:

1. السيناريو الأول: إجراء انتخابات مُبكرة وحدوث تحول مُحتمل في السلطة، وهو سيناريو يرتبط ارتباطاً وثيقاً باحتمالات تصاعد الضغوط من قبل أحزاب المعارضة من أجل إقامة انتخابات مبكرة في ظل حاجة ألمانيا إلى حكومة مستقرة على المدى القريب، ولكن نظراً للطبيعة المعقدة للمشهد السياسي في ألمانيا، فمن المرجح أن يكون تشكيل ائتلاف جديد في "البوندستاغ" الحالي صعباً، كما أن اقتراب انعقاد موعد الانتخابات العامة القادمة (سبتمبر 2025) قد يدفع باتجاه الانتظار لعقدها عوضاً عن الانتخابات المبكرة. 

2. السيناريو الثاني: استمرار عمل حكومة الأقلية، يطرح ذلك السيناريو إمكانية تسيير شولتس لحكومة أقلية تدعم التعاون والانخراط مع الأحزاب الأخرى -حتى المعارضة- أو المستقلين، وذلك حتى إجراء الانتخابات العامة المقررة سبتمبر 2025، والتي من المحتمل أن تؤدي إلى خسارة الديمقراطيين الاجتماعيين بقيادة المستشار الحالي شولتس، في ظل تراجع نتائجهم في الانتخابات المحلية، وذلك لصالح عودة حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي إلى الحكم ضمن ائتلاف جديد.

في ضوء ما سبق، يمكن ترجيح السيناريو الثاني للحدوث، وذلك للأسباب التالية؛ أنه حتى في ظل التصريحات التصعيدية من قبل الأحزاب المعارضة بشأن ضرورة إجراء انتخابات مبكرة؛ إلا أنها تدرك تماماً أنه في ظل السياق الإقليمي والدولي، من شأن حل الحكومة في الوقت الحالي أن يؤدي إلى اضطرابات سياسية واقتصادية كبيرة؛ مما قد يؤدي إلى فترة طويلة من عدم الاستقرار، ويقوض بالتبعية استجابة ألمانيا للتحديات الاقتصادية ويضعف مكانتها الدولية. 

هذا إلى جانب إمكانية تعزيز حكومة الأقلية لمجالات التعاون بين الأحزاب؛ مما يجبر الحزب الديمقراطي والخضر على الانخراط مع الأحزاب الأخرى وفقاً لكل قضية أو ملف على حدة؛ مما سيؤدي إلى سياسات أكثر توازناً ومرونة، وخاصة في مجالات رئيسية مثل: السياسات المالية، والاقتصادية، والعسكرية.  

وعلى الرغم من حرص حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي على استعادة السلطة؛ فإنه يرغب بالتأكيد في مزيد من الوقت من أجل تنظيم صفوفه وإعادة ترتيب أوراقه وأولوياته وفقاً للظرف الداخلي، والإقليمي، والدولي من أجل صقل برنامجه السياسي، وإجراء استطلاعات متعمقة لفهم مخاوف الناخبين بشكل أفضل، وكذا تقديم رؤية موحدة ومقنعة للناخب الألماني.

وفي التقدير، يمكن القول إن المشهد السياسي الراهن في ألمانيا، والذي ينطوي على جملة من الأبعاد والأزمات المعقدة قد يؤدي إلى قصور في الالتزامات الألمانية تجاه القارة الأوروبية، ولاسيما أن تلك الفترة من عدم اليقين الألماني تأتي في وقت حرج يحاول فيه القادة الأوروبيون توحيد صفوفهم في مواجهة التحديات الملحة بما في ذلك مسائل الدفاع الأوروبي في ظل التخوفات من تخلي الولايات المتحدة عن التزاماتها الأمنية تجاه حلف "الناتو"، واحتمالات وقوع اختلافات تجارية مع الولايات المتحدة بعد فوز ترامب بولاية رئاسية ثانية.