أخبار المركز
  • أحمد عليبة يكتب: (هاجس الموصل: لماذا يخشى العراق من التصعيد الحالي في سوريا؟)
  • محمود قاسم يكتب: (الاستدارة السريعة: ملامح المشهد القادم من التحولات السياسية الدرامية في كوريا الجنوبية)
  • السيد صدقي عابدين يكتب: (الصدامات المقبلة: مستقبل العلاقة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية في كوريا الجنوبية)
  • د. أمل عبدالله الهدابي تكتب: (اليوم الوطني الـ53 للإمارات.. الانطلاق للمستقبل بقوة الاتحاد)
  • معالي نبيل فهمي يكتب: (التحرك العربي ضد الفوضى في المنطقة.. ما العمل؟)

أدوار شائكة

كيف تساعد "البنوك" على تجاوز الأزمات المالية؟

18 ديسمبر، 2022


شهدت المؤسسات المالية على مدار العامين الماضيين ضغوطاً كبيرة، خاصة أنها كانت في الخط الأول من التأثر بتداعيات الأزمات الاقتصادية، فضلاً عن ضغوط التعامل المباشر مع الجمهور العام، وإدارة حالة عدم الثقة التي تصاعدت في عدة دول مع تعقد الأزمات الاقتصادية من جانب، وعلى الجانب الآخر، كانت أداة أساسية في إدارة الأزمات الاقتصادية. وقد أثارت المحن المتلاحقة الأسئلة بشأن موقع البنوك من الأزمات الاقتصادية، وما إذا كانت تلعب دوراً في احتواء الأزمات، وما هي محددات السياسات البنكية خلال تلك الأوقات. 

وفي هذا الإطار منحت الأكاديمية الملكية السويدية جائزة نوبل للاقتصاد في شهر أكتوبر الماضي إلى الحاكم السابق للاحتياطي الفيدرالي الأميركي، بن برنانكي، وشركائه دوغلاس دايموند وفيليب ديبفيغ؛ تقديراً لأعمالهم في مجال الأزمات المالية والمصارف. وأعلنت لجنة نوبل أن الخبراء الثلاثة "طوروا بدرجة كبيرة آليات لتحديد دور المصارف في الاقتصاد، خاصة خلال الأزمات المالية الكبرى، فضلاً عن شرح الأطر الأكثر فاعلية لتنظيم الأسواق المالية".  

"صدمة السيولة":

وفقاً لطبيعة وظائفها، عادة ما تكون البنوك محط اهتمام الجمهور العام، وهو ما يجعلها دائماً عرضة للشائعات بشأن انهيار وشيك، ويعد هذا البعد من أهم نقاط الضعف لدى البنوك، والثغرة التي شكلت بداية الفتيل لوقوع أزمات اقتصادية كبرى كما حدث في الأزمات التاريخية السابقة، مثل انهيار وول ستريت عام 1929، ومرحلة الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي، التي تعد أسوأ أزمة اقتصادية في التاريخ المعاصر، وأيضاً الأزمات المالية العالمية في الفترة 2007-2009، حيث شكل التهافت الكبير على سحب الأموال من المصارف عاملاً رئيسياً في إطالة أمد الأزمات وتفاقمها. 

وهو ما أشار له برنانكي بوضوح في أبحاثه، من خلال النماذج الرياضية والتحليلات التاريخية التي تكشف طبيعة النظام المصرفي ذاته، والذي يعتبر نظاماً ديناميكياً غير خطي، يمكن أن يخرج عن نطاق السيطرة بسبب أبسط المحفزات. وأكثر مثال وضوحاً على ذلك حالة الذعر التي قد تظهر وتنتشر بين المدخرين والعملاء والتي ينتج عنها سحب الأموال بصورة هيسترية ما يعرف ب bank rush، وهي الحالة التي قد تهدد القطاع المصرفي فجأة، غير أن هروب الأموال يمنع بالضرورة البنوك من تقديم القروض وتباطؤ الاستثمار. 

وقد قدم دايموند وديبفيغ عام 1983، نموذجاً رياضياً شرح فيه كيفية عمل البنوك كوسيط يقلل الفجوة بين متطلبات المدخرين والمقترضين، ويجعل دورة المعاملات المادية والمالية سهلة وفعالة. فمن جانب يريد المدخرون الاستثمار الآمن لأموالهم مع ضمان قدرتهم على الانسحاب في أي وقت من دون التزام طويل الأمد، في المقابل يحتاج المقترضون، مثل الشركات والمؤسسات الكبرى، إلى قروض مالية بالتزامات طويلة الأجل. ولأنه بشكل عام لا يحتاج جميع المدخرين إلى الانسحاب في الوقت نفسه، يمكن للبنوك استيعاب التقلبات للحفاظ على "السيولة"، وبالتالي تمكين عملية تداول الأموال. 

غير أن هذا النظام ينطوي على نقطة ضعف فاصلة، إذا تعرض عدد كاف من المدخرين لما يسمى بـ"صدمة السيولة" الخارجية، وهي حالة مجتمعية تجعلهم يرغبون في سحب أموالهم، وتؤدي إلى حلقة مفرغة من الذعر والتهافت على البنوك لسحب الأموال، وتنتشر هذه الحالة بين فئات واسعة خوفاً من نفاد أموال البنك، وبالتالي ضياع مدخراتهم. وهي الحالة التي شهدنا مظاهرها في لبنان مؤخراً، وانتجت أنماطاً غير اعتيادية من سلوك المدخرين.  

وقد يؤدي عدم الاستقرار المتقطع هذا إلى انهيار البنوك، على الرغم من أن الضمانات، مثل التأمين على الودائع، يمكن أن تقلل من المخاطر. فيقول دايموند وديبفيغ: "تصبح الأزمات المالية أسوأ عندما يبدأ الناس في فقدان الثقة في استقرار النظام"، حيث تنشأ مشكلة السيولة من "النبوءة ذاتية التحقق". 

فوضى الأسواق المالية

في السابق، لم يكن من الواضح ما إذا كانت إخفاقات البنوك سبباً أو نتيجة للأزمة المالية، أو أيهما يحدث أولاً، بينما أظهرت أبحاث برنانكي أن الانهيارات السابقة كانت مدفوعة في الغالب بالبنوك. والسبب يرجع لفشل البنوك في الحفاظ على خصوصية العميل، الذي يؤدي لفقدان معلومات مهمة عن مدخرين ومقترضين، فمن دون ضمانات بشأن جدارة البنك الائتمانية، من الصعب بناء السيولة المالية مجدداً. وهذا يؤدي لبداية كساد وأزمة اقتصادية كما أوضح برنانكي في بحثه.

فسرت هذه النظرية انهيار 2007-2009، والذي بدأ بتراجع قطاع الإسكان، ما أدى إلى حالة من الهلع في الأسواق المالية. وكما توقع نموذج دايموند وديبفيغ، انهارت شركات الخدمات المالية الدولية الكبرى، مثل ليمان براذرز، وتسبب ذلك في خلق انكماش اقتصادي عالمي. وقد بيّن هذا الحادث الحاجة الشديدة إلى تنظيم القطاع المالي من خلال تدخلات الدولة، والمؤسسات المسؤولة لمنع تكرار ذلك مرة أخرى.  وقد ساعدت هذه الدروس والأطر البحثية في الحد من خطر انعدام السيولة خلال عمليات الإغلاق الناجمة عن جائحة كوفيد-19. فعلى سبيل المثال، تدخل البنك المركزي الأوروبي بتقديم المساعدة المالية للبنوك، وتقديم الحوافز لها لإقراض المستهلكين والشركات، كما دعمت بلدان كثيرة القطاع الخاص والشركات الصغيرة.

فذكريات أزمة [2007-2009] والتحسينات في السياسات التنظيمية في جميع أنحاء العالم تركت النظام أقل عرضة للخطر، وجعلت القطاع المصرفي في حالة أفضل، وقدرة جيدة على إدارة المخاطر. ومع ذلك يحذر دايموندز أيضاً من أن نقاط الضعف التي تتسبب في عرقلة البنوك "يمكن أن تظهر في أي حلقة في القطاع المالي" وليس فقط في البنوك، فالمشاكل المالية التي تبدأ بسيطة، قد تتحول مع الوقت إلى ظروف أسوأ. 

وقد حث رئيس مجلس الاحتياطي الاتحادي السابق، بن برنانكي، صانعي السياسات على مراقبة أي تدهور يحدث في الأوضاع المالية في أنحاء العالم، خاصة في الوقت الذي تزيد فيه الضغوط الناجمة عن الحرب وتقلبات العملة، على الاقتصادات جميعها. وعلى الرغم من أن واحدة من أسس الاقتصاد التي وضعها آدم سميث، هي أن اقتصاد السوق أفضل عبر الاعتماد على نفسه من دون أي تدخل خارجي، فإن الفائزين بجائزة نوبل اعتقدوا خلاف ذلك، فقد حثوا على تدخل الدولة لمنع أي مخاطر محتملة.

تدخل الدولة 

أما عن الوقت الحاضر، فتظهر المؤشرات أنه بعيداً عن المعاناة والأزمة الإنسانية الناجمة عن الغزو الروسي لأوكرانيا، فإن الاقتصاد العالمي بأكمله سوف يشعر بآثار تباطؤ النمو وتسارع التضخم.  وتظهر الآثار في ثلاثة أبعاد رئيسية.  أولاً، زيادة التضخم الناتج عن ارتفاع أسعار السلع الأساسية مثل الغذاء والطاقة، مما يؤدي بدوره إلى تآكل قيمة الدخول والتأثير على الطلب. ثانياً، تصارع الاقتصادات المجاورة، خاصة مع تباطؤ حركة التجارة، وسلاسل التوريد، والتحويلات المالية، فضلاً عن الارتفاع التاريخي في تدفقات اللاجئين. وثالثاً، يؤثر انخفاض ثقة الشركات وارتفاع حالة عدم اليقين لدى المستثمرين على أسعار الأصول، وزيادة صعوبة الأحوال المادية، وربما تحفز تدفقات رأس المال من الأسواق الناشئة. 

فقد تسببت الاضطرابات الناجمة عن الحرب بين الدولتين في ارتفاع الأسعار العالمية، خاصة بالنسبة للنفط والغاز الطبيعي. وارتفعت تكاليف الغذاء مع وصول القمح الذي تشكل أوكرانيا وروسيا 30٪ من صادراته العالمية إلى مستوى قياسي. وقد تؤدي السياسات التي تحث على احتواء التضخم، مثل رفع الدعم الحكومي، إلى الضغط على الحسابات المالية الضعيفة بالفعل. وبالإضافة إلى ذلك، فإن تدهور ظروف التمويل الخارجي قد يحفز تدفقات رأس المال إلى الخارج، ويضيف العبء على البلدان ذات مستويات الديون المرتفعة، والاحتياجات التمويلية الكبيرة. وقد يؤدي ارتفاع الأسعار إلى زيادة التوتر المجتمعي في بعض البلدان، مثل تلك التي تعاني من ضعف شبكات الأمان الاجتماعي، وقلة فرص العمل، ومحدودية الحيز المالي، والحكومات التي لا تحظى بشعبية.

 وكما أشارت أبحاث برنانكي، فإن النظام المالي بحد ذاته غير متزن، وقد يواجه الكثير من الثغرات والمشاكل على مدار السنين. ولكن، على الرغم من صعوبة تقليل التضخم المدفوع بأزمات سياسية، بحيث لا يؤدي إلى ركود اقتصادي، أشار برنانكي إلى أن الولايات المتحدة لديها سوق عمل قوي، مشيراً إلى أنه "مع بعض الحظ، وإذا تحسن جانب العرض، يمكن لمجلس الاحتياطي الفيدرالي خفض التضخم من دون فرض نوع التكاليف التي رأيناها في أوائل الثمانينات".

وعلى الرغم من أن ارتفاع أسعار النفط، التي تشكل 3٪ من الناتج المحلي العالمي، تعد سبب مهم في التضخم. فالحقيقة هي، أن السياسات الاقتصادية الضعيفة وعدم الاعتماد أولاً على القوة العاملة المحلية، والناتج المحلي، هي أيضاً أسباب مهمة وراء عدم استقرار التضخم وزيادته. فكما أوضحت الأبحاث الاقتصادية الأخيرة، فإن تدخل الدولة بقرارات داعمة، من شأنها تحقيق الأمان للمستثمرين، قد يؤدي إلى تخطي احتمالية الكساد الاقتصادي.