أخبار المركز
  • أسماء الخولي تكتب: (حمائية ترامب: لماذا تتحول الصين نحو سياسة نقدية "متساهلة" في 2025؟)
  • بهاء محمود يكتب: (ضغوط ترامب: كيف يُعمق عدم استقرار حكومتي ألمانيا وفرنسا المأزق الأوروبي؟)
  • د. أحمد أمل يكتب: (تهدئة مؤقتة أم ممتدة؟ فرص وتحديات نجاح اتفاق إنهاء الخلاف الصومالي الإثيوبي برعاية تركيا)
  • سعيد عكاشة يكتب: (كوابح التصعيد: هل يصمد اتفاق وقف النار بين إسرائيل ولبنان بعد رحيل الأسد؟)
  • نشوى عبد النبي تكتب: (السفن التجارية "النووية": الجهود الصينية والكورية الجنوبية لتطوير سفن حاويات صديقة للبيئة)

ضغوط متبادلة:

حرب الغاز تشتعل بين روسيا والاتحاد الأوروبي

24 يناير، 2015


في خطوة تصعيدية جديدة في مسار العلاقات المتأزمة بين روسيا والقارة الأوروبية بعد الأزمة الأوكرانية الأخيرة وما آلت إليه من تداعيات، أمر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يوم 12 يناير الجاري، الشركة الروسية الحكومية العملاقة "غازبروم" (وهي أكبر مُوَّرِّد للغاز الطبيعي في العالم) بخفض إمدادات الطاقة إلى وعبر أوكرانيا، بحسب صحيفة "الديلي ميل"، وذلك في ضوء اتهام أوكرانيا بسرقة الغاز الروسي.

ونظراً "للمخاطر التي سيتحملها المستهلكون الأوروبيون نتيجة مرور الغاز الروسي عبر أراضي أوكرانيا"، كما جاء في البيان الرسمي للشركة، جمَّدت غازبروم صادرات الغاز إلى أوروبا بنسبة 60?، وهو ما قد يدفع القارة إلى أزمة طاقة سريعة خلال فصل الشتاء الحالي، الأمر الذي يعتبره المراقبون بمثابة "تصعيد حاد" للصراع على الطاقة في المنطقة.

ولم يقف الأمر عند ذلك الحد، بل إن روسيا قطعت إمدادات الغاز عن ستة بلدان أخرى؛ هي: بلغاريا واليونان ومقدونيا ورومانيا وكرواتيا وتركيا، مُعلنة أنها، أي روسيا، تخطط لتحويل جميع تدفقات الغاز الطبيعي التي تمر عبر أوكرانيا إلى تركيا (على الرغم من شمولها ضمن الدول التي تقطع عنها روسيا الغاز)، بحسب ما أشار إليه أليكسي ميلر، الرئيس التنفيذي لشركة غازبروم، وهو ما أثار غضب الاتحاد الأوروبي الذي اعتبر أن قطع الغاز عن البلدان الستة "أمراً غير مقبول"، بل إن تحويل التدفقات لتركيا قد "يسيئ إلى سمعة روسيا كمُنتِج للغاز".

وفي ضوء هذا الشد والجذب بين الطرفين منذ بداية الأزمة الأوكرانية، ثمة تساؤلات تلوح في الأفق حول دوافع هذا القرار الروسي وتداعياته في ضوء التطورات الحالية.

دوافع روسية معلنة وأخرى خفية

ليست تلك المرة الأولى التي تقرر فيها روسيا قطع إمدادات الغاز عن أوكرانيا، فقد حدث ذلك من قبل في عامي 2005 و2009، وأدى ذلك في حينه إلى اضطرابات كبيرة في إمدادات الطاقة إلى أوروبا. بيد أن الأمر مختلف هذه المرة؛ ذلك أن روسيا طرحت بديلاً لخطوط الغاز الأوكرانية التي تمتد لأوروبا، أي أنه بدلا من أن تكون في موقع رد الفعل على السلوك الأوكراني، قررت الانتقال لموقع المُبادِر بالفعل من خلال طرحها للطريق التركي ومحاولة فرض واقع جديد على أوروبا.

ويمكن القول إن ثمة أسباب معلنة، وأخرى خفية، قد دفعت الجانب الروسي لاتخاذ هذا الإجراء. من بين الأسباب المعلنة والهامة هو تعثر أوكرانيا في دفع دفعات الديون المستحقة عليها للجانب الروسي، والتي يختلف الطرفان حول قيمتها الحقيقية؛ إذ يُقدِّرها الجانب الروسي بحوالي 5.3 مليارات دولار، بينما تُقدِّرها أوكرانيا بـ 3.1 مليارات دولار، ولذا قررت روسيا الاحتكام أمام محكمة من أجل 2.2 مليار المتبقية.

يذكر في هذا الصدد أنه بعد جولات من المفاوضات، توصلت أوكرانيا وروسيا والاتحاد الأوروبي في أكتوبر 2014 إلى اتفاق لحل الأزمة؛ يتضمن تسديد متأخرات أوكرانيا على دفعتين مقابل استمرار إمدادات الغاز الروسي حتى مارس 2015. وقد سددت أوكرانيا الدفعة الأولى لروسيا مطلع نوفمبر الماضي، وبلغت 1.45 مليار دولار، وكان من المقرر أن تسدد الدفعة الثانية وقيمتها 1.65 مليار دولار في نهاية ديسمبر الماضي، وهو ما لم يحدث؛ مما دفع الجانب الروسي لوقف إمدادات الغاز عن أوكرانيا، وذلك في ضوء ما أثير حول سرقة تلك الأخيرة للغاز الروسي بما جعل روسيا تعتبرها دولة "لا يمكن الاعتماد عليها" في نقل الغاز لأوروبا، وهو ما يُحتِّم على الجميع البحث عن مسارات أخرى.

ولا يتوقف الخلاف بين موسكو وكييف حول واردات الغاز عند المستحقات القديمة فقط، بل كذلك على مستوى أسعار الغاز بعدما حددت روسيا سعر الألف متر مكعب من الغاز بـ 485.50 دولار، ثم خفض السعر خلال المفاوضات إلى 385 دولار للألف متر مكعب. في المقابل طالبت أوكرانيا بأن يكون السعر 268 دولار، وهو ما كان يهدد المفاوضات بين الطرفين وينبئ بأزمة للقارة الأوروبية لا تتوقف عند حدود الدولة الأوكرانية.

أما فيما يتعلق بالأسباب غير المُعلَنة، فيمكن القول إن هذه الخطوة الروسية تمثل ورقة ضغط قوية على الاتحاد الأوروبي للتخلي عن موقفه الداعم لأوكرانيا في الأزمة الأخيرة؛ فمن المعروف أن روسيا تلبي ثلث حاجات أوروبا من الغاز، ويمر نصفها تقريباً عبر أوكرانيا. ولذا فإن من شأن هذا القرار الروسي أن يُحدِث أزمة طاقة في دول الاتحاد في ظل غياب البدائل الحاضرة والسريعة لمجابهة هذا الإجراء الروسي، خصوصاً مع تفاقم حدة الأزمة مع فصول الشتاء القارصة واحتياج أوروبا إلى الغاز.

كذلك فإن ما تعرَّض له الاقتصاد الروسي من تدهور نتيجة العقوبات التي فرضها، ومازال يفرضها، الاتحاد الأوروبي بالتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية على روسيا، ليس من السهل التهاون بشأنه من جانب الرئيس بوتين الطامح في إعادة روسيا للمسرح الدولي بقوة كدولة عظمى وليست فقط كدولة قوية مشاركة في النظام العالمي، لذا فإن هذا القرار وتداعياته على أوروبا قد تعد رداً من الجانب الروسي على تلك العقوبات.

رد الفعل الأوروبي والبديل المُعقَّد

يبدو أن القرار الروسي أثار ردود فعل غاضبة داخل الاتحاد الأوروبي؛ إذ اعتبره الاتحاد "غير مقبول"، بالإضافة إلى أن ماروس سيفكوفيك، نائب رئيس المفوضية الأوروبية لوحدة الطاقة، أشار إلى أن "هذا القرار لا معنى أو تأثير له على الوضع الاقتصادي"، مضيفاً أن "ما يُثار بشأن اعتماد الطريق التركي لن يتناسب مع نظام نقل الغاز في الاتحاد الأوروبي، بل إن تنفيذ أمر شركة غازبروم بتسليم الوقود على الحدود التركية مع اليونان متروك للاتحاد الأوروبي أن يقرره".

كما اعتبر رئيس هيئة الطاقة في الاتحاد الأوروبي أن قرار تحويل جميع ممرات الغاز الطبيعي إلى تركيا قد "يسيئ إلى سمعة روسيا كمنتج للغاز"، وهو ما دفع وزير الطاقة الروسي ألكسندر نوفاك للرد على تلك التصريحات بتأكيده أن "روسيا لن تضر بصورتها لأنها ستبقى دائماً منتجاً للغاز يمكن الاعتماد عليه".

ويمكن وصف الخيار التركي الذي فرضته القيادة الروسية بالبديل المُعقَّد؛ خصوصاً في ظل عدم توافر البنية الأساسية اللازمة لنقل إمدادات الغاز من تركيا، والتي يجب أن تبدأ من الحدود اليونانية ـ التركية، ثم تمر بدول أوروبا المستفيدة من الغاز، وهو ما يتطلب وقتاً طويلاً وتكلفة كبيرة.

ولا يعد اختيار روسيا لتركيا وليد الصدفة، فتركيا لم تشترك مع الاتحاد الأوروبي في فرض عقوبات على روسيا جرَّاء الأزمة الأوكرانية من جانب. ومن جانب آخر أوقفت بلغاريا العمل في خط غاز "السيل الجنوبي South Stream"، والذي كان من المقرر أن يربط بواسطة أنابيب طولها 3600 كلم روسيا ببلغاريا عبر البحر الأسود ومنها إلى أوروبا الغربية وخصوصاً إيطاليا واليونان عبر صربيا والمجر وسلوفينيا؛ حيث رفضت بلغاريا السماح بمرور أنبوب الغاز عبر أراضيها، تحت ضغط الاتحاد الأوروبي، كما أشار بوتين، وبالتالي كان اختياره لتركيا بمثابة صفعة للاتحاد الأوروبي الذي يعرف الكثير من الخلافات الراهنة مع تركيا، بل وإعلانه أيضاً "تخفيض كميات الغاز المُصدرَّة من روسيا لأوروبا"، وذلك في المؤتمر الصحفي الذي عقده في زيارته الأخيرة لتركيا، وبالتالي فإن توريد الغاز من تركيا لأوروبا قد يضع في يد تركيا ورقة ضغط على الاتحاد الأوروبي قد تستخدمها ضمن مساعيها المتكررة للانضمام في ضوء رفض بعض الدول الأعضاء.

الضغوط المتبادلة ومآلات الأزمة

يمكن وصف القرارات الروسية أحياناً بـ"الجريئة"، لكن لا يمكن وصفها أبداً بـ"العشوائية" أو "غير المحسوبة"؛ فالسوق الأوروبي مهم جداً لصادرات الغاز الروسية ولا يمكن التخلي عنه من ناحية، وتواجه روسيا ضغوطاً وعقوبات كبيرة من جانب دول الاتحاد بشأن الأزمة الأوكرانية بما يهدد اقتصادها من ناحية أخرى.

ولمحاولة إحداث التوازن بين عدم الإضرار بمصالحها في السوق الأوروبية وبين الرد على تلك العقوبات المتكررة، استطاعت روسيا أن تسخدم ورقة الغاز كوسيلة للضغط على الاتحاد الأوروبي، لتعديل أو ربما تغيير موقفه من الأزمة الأوكرانية، بل يمكن القول إن الأمر تجاوز مجرد ورقة الضغط إلى الموقف المُعلَن والواقع الجديد الذي تحاول روسيا فرضه فيما يتعلق بمجال الطاقة.

لقد سعت روسيا علناً إلى استكشاف علاقات جديدة في مجال الطاقة مع دول خارج أوروبا، وفي مقدمتها الصين والهند. ففي مايو الماضي، وقعَّت كل من شركة غازبروم الروسية وشركة البترول الوطنية الصينية China National Petroleum Corp  عقداً تاريخياً مدته 30 عاماً لإمداد الغاز الطبيعي الروسي إلى الصين. كما التقى بوتين مع رئيس الوزراء الهندي، ناريندرا مودي، في نهاية العام الماضي، واتفق الطرفان على العديد من صفقات الطاقة، ودعت روسيا الهند "للعمل في مشروعات مشتركة" في القطب الشمالي.

إن كل تلك التمهيدات سبقت القرار الروسي الأخير، مما يجعل من تنفيذه أمراً ربما قد يتحقق، ولهذا فإن اعتباره مجرد ورقة ضغط لتحقيق بعض المكاسب السياسية غير مجد لأوروبا، أخذا  في الاعتبار أن روسيا وإن كانت تسعى لفتح قنوات جديدة لأسواق الطاقة، لكنها سوف تعتمد على أوكرانيا، لكن ذلك الاعتماد سيكون في أضيق الحدود وبشروط روسيا مستقبلا، لاسيما إذا استمرت الضغوط التي يفرضها الاتحاد الأوروبي على أوكرانيا لدفع الديون المتأخرة ومحاولة جذب الأمر لطاولة المفاوضات مرة أخرى.

من جانب آخر يشير بعض خبراء الطاقة الأوروبيين إلى أن الاتحاد الأوروبي كان يستبق هذه الخطوة الروسية، أو على الأقل كان يتحسب لها، أو أنه كان لا يريد استمرار اعتماده على الغاز الروسي منذ أزمة جورجيا عام 2008. فقد أقدمت الاتحاد الأوروبي في عام 2009 على خطوة اعتبرها البعض حينذاك محاولة لإنهاء السيطرة الروسية على القارة الأوروبية في مجال الطاقة، وهي ما عرفت باسم "حزمة طاقة ثالثةThird Energy  Package "، ونصت على أن روسيا لا يمكنها امتلاك أو السيطرة على أنابيب الغاز في دول الاتحاد الأوروبي، وأنه إذا قررت موسكو أن تقطع الإمدادات، فإنه يحق للدول المتضررة أن تحصل على الغاز من أماكن أخرى".

لكن روسيا حركت دعوى قضائية لدى منظمة التجارة العالمية ضد الاتحاد الأوروبي بخصوص تلك المسألة في أبريل الماضي، بعد الجولة الأولى من العقوبات الغربية التي فُرضت عليها. كما أن الغاز الروسي سواء من حيث الكمية أو من حيث الجودة لا يمكن مقارنته بما سواه، فإذا استطاعت بعض الدول تعويض جزء من هذا الفارق، فإنها لن تستطع تعويض ذلك الأمر كليةً، وستضطر في النهاية أن تتفاوض مع روسيا أو تستجيب لشروطها، في ظل استمرار هيمنتها على مجال الطاقة في القارة الأوروبية حتى الآن؛ الأمر الذي يفرض على دول الاتحاد ضرورة البحث عن صيغة متوازنة تحافظ على مصالحها المتضررة من هذا القرار، وفي نفس الوقت تساعد على علاج الأزمة، سواء من حيث تخفيض العقوبات المفروضة على روسيا، وتدعيم فكرة تقديم روسيا لحسن النية في حل الأزمة الأوكرانية، بما قد يساهم في تحريك هذا الملف، في ضوء الاحتياج المتزايد لأوروبا للغاز الروسي في المقام الأول.