أخبار المركز
  • صدور العدد 38 من دورية "اتجاهات الأحداث"
  • د. إيهاب خليفة يكتب: (الروبوتات البشرية.. عندما تتجاوز الآلة حدود البرمجة)
  • د. فاطمة الزهراء عبدالفتاح تكتب: (اختراق الهزلية: كيف يحدّ المحتوى الإبداعي من "تعفن الدماغ" في "السوشيال ميديا"؟)
  • د. أحمد قنديل يكتب: (أزمات "يون سوك يول": منعطف جديد أمام التحالف الاستراتيجي بين كوريا الجنوبية والولايات المتحدة)
  • أسماء الخولي تكتب: (حمائية ترامب: لماذا تتحول الصين نحو سياسة نقدية "متساهلة" في 2025؟)

صفقة "ستراتفور":

أبعاد تصاعد دور شركات الاستشارات الاستراتيجية المتخصصة

24 فبراير، 2020


أعلنت شركة "RANE" المتخصصة في تقييم المخاطر، في مطلع شهر فبراير عام 2020، استحواذها على شركة "ستراتفور" Stratfor التي تُعتبر واحدة من أهم المنصات في مجال الاستخبارات الجغرافية والسياسية، ومعروفة في الدوائر البحثية بأنها تقدم "تقديرات للموقف" بشأن الأحداث المؤثرة في العالم. ورغم تكرار نمط صفقات الاستحواذ والاندماجات التي تحدث في عالم شركات الاستشارات الاستراتيجية؛ إلا أن صفقة استحواذ شركة "RANE" على شركة "ستراتفور" -التي لم يُعلن عن قيمتها أو تفاصيلها- تمثل مؤشرًا على تزايد أهمية هذا النوع من الشركات، خاصة وأنها تمّت بين شركتين من الحجم المتوسط في مجال شركات الاستشارات، في ظل عالم معقد يشهد تحولات ومخاطر سياسية متسارعة، تجعل هناك طلبًا متزايدًا على خدمات هذه الشركات من الحكومات والمؤسسات والأفراد المعنيين المهتمين بخدماتها، وتصاعد دور الشركات متوسطة الحجم، مقارنة بالشركات الكبرى في هذا المجال.

عالم الاستشارات:

تهتم وسائل الإعلام الدولية بتتبع أخبار شركات الاستشارات الكبرى، مثل: ماكينزي McKinsey، وبوز آل هملتون Booz Allen Hamilton، التي أصبحت فاعلًا مؤثرًا في تقديم الاستشارات للحكومات حول العالم. ففي نفس الأسبوع الذي أعلنت فيه شركة "RANE" استحواذها على شركة "ستراتفور"، تناولت وسائل الإعلام الأمريكية الدور الذي تلعبه "ماكينزي" في إعادة هيكلة أجهزة الاستخبارات الأمريكية. ومع وجود فارق في حجم "ماكينزي"، أحد عمالقة الاستشارات في العالم، مقارنة بشركتي "RANE" وشركة "ستراتفور" اللتين تُعتبران شركتين متوسطتين؛ فإن السؤال المطروح هو: ما هو المقصود بالاستشارات؟ وما طبيعة هذا المجال؟ تُمثل "الاستشارات" صناعة كبرى في مجال المعلومات والبيانات، وهذه الصناعة تطورت منذ القرن الـ19، واتخذت طابعًا دوليًّا منذ عام 1960، وأصبح دورها يتصاعد تدريجيًّا منذ 1970 عندما بدأت شركة "ماكينزي" تتوسع وتنتشر حول العالم.

ويتركز تقديم خدمات الاستشارات في ستة مجالات رئيسية، تشمل: الاستشارات الاستراتيجية Strategy Consulting، والاستشارات في المجال الإداري Management Consulting، والاستشارات في مجال تطبيق الإصلاحات في المؤسسات الكبرى، أو ما يُعرف باسم الاستشارات في مجال العمليات Operations Consulting، والاستشارات في المجال المالي Financial Advisory، والاستشارات في مجال الموارد البشرية HR Consulting، والاستشارات في مجال التكنولوجيا Technology Consulting.

ورغم أهمية المجالات الستة؛ إلا أن الاستشارات الاستراتيجية تعتبر أكثرها أهمية لأنها تتعلق بتقديم خدمات للحكومات والمؤسسات التابعة لها، وتعتبر مظلة أوسع تشمل استشارات في المجالات الخمسة الأخرى أيضًا، أما بقية الاستشارات فيتم تقديمها أكثر للمؤسسات الخاصة، وتتعلق بإحداث إصلاحات إدارية أو تحقيق تقدم فيها. وتُعد الاستشارات التكنولوجية أكثر مجال نموًّا في عالم الاستشارات، وذلك بفضل التغييرات التكنولوجية المتسارعة.

ووفقًا لبعض التقديرات حقق قطاع الاستشارات أكثر من 120 مليار دولار في عام 2017، ويتوقع أن يصل حجم الناتج في هذا القطاع عام 2026 إلى أكثر من 170 مليار دولار. وتُشير بعض الإحصائيات إلى أن شركة مثل Accenture Consulting التي احتلت المرتبة الأولى في مجال الاستشارات في عام 2019 حققت دخلًا يصل إلى أكثر من 17.31 مليار دولار في ذلك العام، وحققت شركة KPMG Advisory التي احتلت المرتبة العاشرة في المجال دخلًا يصل إلى 10.18 مليارات دولار، وحققت شركة ماكينزي McKinsey التي احتلت المرتبة الحادية عشرة دخلًا يصل إلى 8.8 مليارات دولار، وحققت شركة بوز آل هملتون Booz Allen Hamilton التي احتلت المرتبة الخامسة عشرة دخلًا يصل إلى 6.1 مليارات دولار.

"ستراتفور" نموذجًا:

تمثل "ستراتفور" Stratfor، وشركة "RANE" التي استحوذت عليها، نموذجًا لشركات "المخاطر والاستشارات الاستراتيجية" التي يندرج عملها تحت الاستشارات الاستراتيجية بشكل عام Strategic Consulting، وهذه الشركات تقدم خدمات تشمل: توفير المعلومات، والتحليلات، والخدمات المرتبطة بها. وتركز على التطورات السياسية والاقتصادية الدولية، بهدف توفير فهم أفضل للمخاطر والفرص التي تواجه الحكومات، والبيئة التي تعمل فيها.

ورغم أن هذا النوع من الشركات يعمل في مجال المعلومات والتحليلات؛ إلا أن تلك الشركات تختلف في طبيعة وآليات عملها عن الشركات العاملة في مجال العلاقات العامة Public Relation، أو العاملة في مجال Lobbying، وحتى عن مراكز الفكر Think Tanks. وفيما يلي أبرز الجوانب المرتبطة بطبيعة عمل وآليات شركات المخاطر والاستشارات الاستراتيجية:

1- تعدد الخدمات: تتميز شركات المخاطر والاستشارات الاستراتيجية بتعدد الخدمات التي تقدمها، سواء تقديم الخدمات المرتبطة بالمعلومات (الجمع، والتحليل، وكتابة التقديرات)، إلى تقديم استشارات متخصصة للحكومات والشركات. فشركة "ستراتفور" تُعرّف نفسها بأنها "منصة معلومات جيوسياسية رائدة في العالم تقدم عدة خدمات تشمل: تقييم المخاطر، وتطوير خطط الطوارئ، وتحليل البيانات والمعلومات، ويصدر عنها تقديرات موقف بشأن الأحداث الدولية، ومؤشر للمخاطر في الدول، ومؤشر للمخاطر الجيوسياسية، وتوقعات بشأن المخاطر، وتقدم الشركة خدماتها لأكثر من 500 عميل، بينهم شركات كبرى في مجال التسليح مثل بوينج ولوكهيد مارتين".

وتعدد الخدمات ينطبق على الشركات متوسطة الحجم، مثل "ستراتفور"، وشركة "RANE" التي استحوذت عليها، وبالأساس في الشركات الكبرى مثل ماكينزي التي تعاقدت مع عدد من أجهزة الاستخبارات الأمريكية لإعادة هيكلتها، مثل: وكالة الاستخبارات المركزية CIA، ووكالة الأمن القومي NSA، ومكتب الاستخبارات الوطنية ONSI، ولذا بلغ حجم تعاقدات الشركة في هذه المشروعات التي بدأت منذ عام 2015 وحتى عام 2018 أكثر من 10 مليارات دولار. 

2- نموذج العمل: أبرز ما تتميز به الشركات العاملة في مجالات الاستشارات بشكل عام، والاستشارات الاستراتيجية بشكل خاص؛ هو نموذج العمل Business Model، فكل شركة تعمل في هذا المجال لديها نموذج وآلية عمل مختلفة عن الأخرى، وتُبنَى سمعة الشركات في هذا المجال بناء على جودة وقوة نموذج العمل الخاص بها، والبرامج والآليات المتطورة التي تستخدمها في التحليل، وجمع البيانات. وفي هذا الإطار، طوّرت "ستراتفور" نموذجًا خاصًّا بها، وهذا النموذج المعروف باسم "منهاجية ستراتفور" Stratfor Methodology مسجل باعتباره ملكية فكرية للشركة، ويقوم على التحليل الاستراتيجي والتنبؤ القائم على دراسة الجغرافية السياسية. ويحدد هذا النموذج الاتجاهات العالمية الرئيسية، ويعتمد المحللون في الشركة على مصادر المعلومات المفتوحة، وقواعد البيانات، وشبكة عالمية من العلاقات مع الحكومات والشركات في جميع أنحاء العالم، ويستخدمون تحليل الاستخبارات لتحويل البيانات والمعلومات إلى معرفة تتيح فهمًا أفضل لمسارات الأحداث، والتنبؤ بها. 

3- تنوع فريق العمل: تستند شركات الاستشارات إلى فريق عمل متنوع التخصصات، يشمل خبراء في مجالات الأمن والسياسة والاقتصاد والاجتماع وغيرها، وفي الوقت نفسه تجمع تلك الشركات ما بين الأكاديميين، والخبراء المهنيين Practitioner، فشركات المخاطر والاستشارات الاستراتيجية تعتمد على أشخاص عملوا ميدانيًّا في المجالات ذات الصلة بعمل الشركة، وطوروا خبرات فيها. فستراتفور تعتمد على محللين عملوا في أجهزة ومؤسسات استخبارات، وأشخاص مهنيين في مجالات مختلفة، لديهم القدرة على التحليل، وتطبيق منهاجية ستراتفور، وتطوير نموذج عمل الشركة بشكل مستمر.

4- مستويات تقديم الخدمة: تقدم شركات المخاطر والاستشارات الاستراتيجية نوعين من الخدمة؛ الأول هو الخدمات العامة مثل التحليلات والتقارير المتاحة على مواقع هذه الشركات، فشركة ستراتفور تقدم جزءًا من تقاريرها على الموقع، وحتى شركة ماكينزي تقدم أيضًا جزءًا من تقاريرها على موقع الشركة، والمستوى الثاني مستوى الخدمات الخاص أو الحصري، الذي تقدمه الشركات لعملائها بـClients الذين تعاقدت معهم لتقديم خدمات أو مشروعات معينة، فهذه الخدمات -سواء كانت تقارير أو مشروعات تطوير- لا يتم الإعلان عن تفاصيلها أو نشرها، ولا يتم تبادلها مع عملاء آخرين، فالتعاقدات على هذه المشروعات تتضمن عدة شروط من بينها الحفاظ على حقوق العميل المرتبطة بالسرية وحفظ البيانات والنتائج الخاصة بالمشروع. 

5- التعرض لانتقادات متعددة: رغم أهمية شركات المخاطر والاستشارات الاستراتيجية، وكونها أصبحت فاعلًا مؤثرًا في صنع القرارات التي تتخذها الحكومات والمؤسسات؛ إلا أنها لم تسلم من الانتقادات بسبب طبيعة عملها، أو "نموذج العمل" الذي تطبقه، أو بسبب بعض مشروعاتها. فشركة "ستراتفور" تعرضت لانتقادات شديدة في عام 2012، وذلك بسبب تسرب وثائق خاصة بالشركة إلى موقع ويكيليكس، وهذه الوثائق الداخلية ساهمت في توجيه انتقادات للشركة بأنها قريبة من وكالة الاستخبارات الأمريكية CIA، كما تم توجيه انتقادات لها بأن نموذجها في العمل أيضًا ليس كما تُصور الشركة، فاعتمادها على أشخاص في مواقع الأحداث أو محللين تُرسلهم لمتابعة الأحداث، يشوبه بعض المشكلات في بعض الأحيان، حيث إنها قد تُرسل أشخاصًا ليست لديهم خلفية عن المناطق والأماكن التي يقومون بزيارتها، وليست لديهم معرفة بثقافات الشعوب المحلية في بعض الحالات. 

والانتقاد الأخير غالبًا ما يُوجّه أيضًا إلى الشركات الأخرى، فشركة ماكينزي، التي قدمت خدمات استشارية للعديد من الحكومات في العالم ودول الشرق الأوسط، تُوجَّه إليها انتقادات تتركز على أن الاستشارات التي تقوم بصياغتها تنبثق من الإطار والتجارب الغربية، ولا تراعي خصوصية الثقافات وتجارب الشعوب وظروف الدول. ومن نماذج الانتقادات التي وُجّهت إلى ماكينزي أن المشروعات التي قامت بها لإعادة هيكلة الاستخبارات الأمريكية، ربما تكون عقدت من هياكل تلك المؤسسات، وقوضت من فاعليتها الداخلية. 

الخلاصة: في عالم اليوم، الذي أصبحت فيه المعلومة والمعرفة مصدرًا للقوة، أضحت شركات الاستشارات الاستراتيجية فاعلًا مؤثرًا في عمليات صنع القرارات التي تقوم بها الحكومات والمؤسسات، فهناك العديد من الشركات العاملة في مجالات الاستشارات الاستراتيجية، سواء شركات كبرى تُصنَّف باعتبارها أعلى دخلًا أو أكبر سمعة في هذا المجال، أو شركات متوسطة، لا تحقق نفس الدخل أو التأثير والانتشار؛ إلا أنها أصبحت آلية تعتمد عليها الحكومات ومؤسساتها للحصول على تحليلاتها وتقديراتها، مثل مشروعات "ستراتفور" مع شركات التسليح الأمريكية، أو الاستعانة بها في وضع خطط استراتيجية لتطوير وإعادة الهيكلة، مثل مشروعات ماكينزي مع أجهزة الاستخبارات الأمريكية.