أخبار المركز
  • د. أمل عبدالله الهدابي تكتب: (اليوم الوطني الـ53 للإمارات.. الانطلاق للمستقبل بقوة الاتحاد)
  • معالي نبيل فهمي يكتب: (التحرك العربي ضد الفوضى في المنطقة.. ما العمل؟)
  • هالة الحفناوي تكتب: (ما مستقبل البشر في عالم ما بعد الإنسانية؟)
  • مركز المستقبل يصدر ثلاث دراسات حول مستقبل الإعلام في عصر الذكاء الاصطناعي
  • حلقة نقاشية لمركز المستقبل عن (اقتصاد العملات الإلكترونية)

الابتكار العمراني:

ملامح المدن الذكية العالمية.."مصدر" الإماراتية نموذجًا

10 مايو، 2017


عرض: منى مصطفى محمد، باحثة في العلوم السياسية 

تمكنت التحولات التكنولوجية من إحداث تغييرات غير مسبوقة في تنظيم التفاعلات داخل المدن، من خلال دمج التقنيات الحديثة في البنية التحتية والخدمات العامة لتحسين حياة المواطنين، وخلق بيئة مستدامة تحفز على الإبداع والابتكار والتعلم والمشاركة، وتعزز الشعور بالرضاء العام والسعادة في ظل الانتشار والتمدد للمناطق الحضرية في العالم، والاعتماد المتزايد من جانب الأفراد والمؤسسات والحكومات على تكنولوجيا المعلومات.

وفي هذا الصدد، تركز الدراسة التي أعدها كل من: إلينورا ريفا سانسفرينو، ورفايلا ريفا سانسفرينو، بعنوان "حالات دراسة المدن الذكية"، على مدينة "مصدر" بدولة الإمارات العربية المتحدة باعتبارها نموذجاً لانتشار المدن الذكية في منطقة الخليج العربي، وذلك في الكتاب المعنون "أطلس المدن الذكية: المجتمعات الذكية الغربية والشرقية" والصادر عن مؤسسة سبرينجر للنشر الدولي في عام 2017. 

تكنولوجيا العمران الحضري:

يرتبط ظهور مفهوم "المدن الذكية" (Smart Cities) بـ"مؤشر المدن الأوروبية متوسطة الحجم" (Ranking of European Medium- Sized city) الذي حدد مجموعة من المعايير التي يمكن من خلالها تحديد درجة إبداعية المدن، وهي: المستوى الاقتصادي، وطبيعة الحكم، ومستوى المعيشة، ونوع الطاقة المستخدمة، والمواطنون في المدينة وخصائصهم المختلفة، والانتقال الذكي.

وتبلور هذا المفهوم تدريجياً مع قيام بعض الدراسات بإضافة مجموعة من المؤشرات الأخرى لجعل هذا المفهوم أكثر دقة وتحديداً. فعلى سبيل المثال، اتجهت بعض الدراسات للتركيز على درجة وعي ومشاركة المواطن في مجتمعه، سواء من خلال المبادرات التي تحدث في أرض الواقع، أو تلك التي يتم نشرها وترويجها من خلال العالم الافتراضي على مواقع التواصل الاجتماعي، والمدونات الإلكترونية، واللقاءات الافتراضية بين سكان المدينة الواحدة من خلال الاسكايب والعديد من المواقع الإلكترونية المخصصة لذلك (E-town Meeting).

فيما رأت بعض الدراسات الأخرى أنه يجب الأخذ في الاعتبار أيضاً مدى طبيعة إدارة المشروعات الصغيرة والمتوسطة في المدن، ومدى إتاحة الفرص للشباب للقيام بهذه المشروعات، ودرجة الابتكارية والإبداعية في بناء المشروعات المختلفة، ومساهمة المجتمع في دفع هذه المشروعات قدماً. فعلى سبيل المثال، تتيح بعض المواقع الإلكترونية في الولايات المتحدة الأمريكية للشباب عرض فيديو يوضح فكرة مشروعهم على الموقع الإلكتروني للحصول على تبرعات مجتمعية لتغطية تكلفة المشروع بالكامل.

وفي هذا الإطار، يستخلص الكتاب تعريفاً مختصراً للمدن الذكية "مجتمع صغير يسعى لابتكار طرق وأساليب جديدة للمعيشة والتفكير"، أو "المجتمع الذي يتيح للإنسان العيش فيه بسعادة من خلال دمج التكنولوجيا في كافة مناحي حياة المواطنين".

مشروعات الابتكار المجتمعي:

تعد إقامة ما يعرف بـ"المناطق الذكية" (Smart Districts) النواة الأساسية التي يمكن من خلالها بناء المدن الذكية بشكل تدريجي، بحيث يستطيع المواطنون التأقلم مع التغيرات التي ستطرأ على مدينتهم، والتفاعل معها بشكل إيجابي. وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى مجموعة من المشروعات الذكية التي تم تطبيقها في نطاق صغير قبل التوسع فيها، وذلك فيما يلي:

1- المدارس الذكية: قام مجلس مدينة "تشينيزيلو بالسومو" الإيطالية (Cinisello Balsamo) في عام 2013 باعتماد "استراتيجية المناطق الذكية" لتتحول المدينة تدريجياً إلى مدينة ذكية، وركزت المرحلة الأولى من المشروع على تطوير 17 مدرسة ابتدائية وثانوية تضم 4600 طالب، وذلك من خلال الاعتماد على التكنولوجيا الحديثة في كافة مراحل العملية التعليمية: الشرح، والتقييم، والتفاعل، ثم انطلق المشروع ليغطي باقي مدينة "تشينيزيلو بالسومو".

2- شبكات مجتمعية للابتكار: يتطلب بناء المناطق الذكية قيام الحكومات بتهيئة البيئة للتواصل بين الأفراد المبتكرين ومراكز دعمهم من جامعات ومؤسسات بحثية وعلمية ورجال أعمال، وهو ما قامت به وزارة التعليم الإيطالي في عام 2012، حيث أنشأت مبادرة أطلقت عليها "مشاريع الابتكار الاجتماعي" innovation projects social، وانطلقت هذه المبادرة من الأحياء الصغيرة في جنوب إيطاليا، حيث طالبت الشركات ومراكز الأبحاث والجامعات بتقديم مشروعات لتطوير هذه الأحياء بالاعتماد على أحدث الوسائل التكنولوجية، مع إمكانية استعانة هذه المؤسسات بباحثيها أو تلقي مشروعات ابتكارية من الأفراد، وقدمت هذه المؤسسات مجموعة من المقترحات الابتكارية في مجالات مختلفة: النقل، والطاقة، والصحة، والتعليم، وتم تنفيذ عدد كبير من هذه المقترحات.

3- الطاقة النظيفة: تبدأ المشروعات الذكية -في بعض الأحيان- من خلال الأحياء الصغيرة، ويتم تعميم التجربة على المدينة بأكملها، ثم تنطلق التجربة إلى دول أخرى، وهو ما حدث في مشروع الطاقة النظيفة الذي تم البدء في تنفيذه في عام 2015 في كلٍّ من: مدينة بلد الوليد الإسبانية، ومدينة نونتجهام البريطانية، وقام هذا المشروع بوضع مواصفات صارمة لمواد العزل التي تدخل في عمليات البناء لتقليل نسبة الانبعاثات الضارة التي تخرج من المباني، والاعتماد على الطاقة الشمسية في المنازل، وتحديد نسب لعوادم السيارات لا يمكن تجاوزها. ومع نجاح هذا المشروع انطلق إلى مدينتي: سيراين البلجيكية، ومدينة ميشكولتس المجرية.

4- السياحة الذكية: قامت إيطاليا بالبدء في تنفيذ ما يعرف بالسياحة الذكية  (Smart Tourism) في 9 أحياء رئيسية في إيطاليا، وذلك بدءاً من عام 2013. وتهدف السياحة الذكية إلى استغلال التكنولوجيا الحديثة في زيادة عدد السائحين من خلال إقامة المتاحف الافتراضية، واستخدام المؤثرات السمعية والبصرية لتحسين تجربة السائح، وإتاحة التطبيقات الإلكترونية التي تقترح للسائح زيارة معالم معينة بالاعتماد على سماته الشخصية.

مدن الاستدامة الذكية:

يؤكد الكتاب أن منطقة الخليج العربي تعد الأكثر تأهيلاً في منطقة الشرق الأوسط لتبني تطبيقات المدن الذكية، إذ تتمتع دول الخليج العربية ببنية تحتية متقدمة تعتمد على التكنولوجيا الحديثة في تقديم الخدمات العامة، بالإضافة لوجود معدلات مرتفعة من الرضاء العام، والتركيز على سعادة المواطنين ضمن منظومات متكاملة للابتكار والإبداع والاستدامة البيئية.

وتُعد مدينة "مصدر" من أوائل المدن الذكية التي تم إنشاؤها في منطقة الشرق الأوسط؛ إذ تأسست هذه المدينة في عام 2008 في إمارة أبوظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة، وتهدف هذه المدينة إلى استيعاب التوسع الحضري السريع، والحد من التلوث من خلال الاعتماد على الطاقة النظيفة وإعادة تدوير المخلفات بالاعتماد على الطرق التكنولوجية الحديثة. وتتمثل أهم المشروعات الذكية التي تعتمد عليها مدينة "مصدر" فيما يلي:

1- شبكة نقل ذكية: تعتمد مدينة مصدر على شبكة نقل ذكية Smart Transport تتيح الخيارات التالية للتنقل: الاعتماد على السيارات ذاتية القيادة، وبرنامج تبادل السيارات الكهربائية، حيث يشترك في ملكية السيارة أكثر من فرد، وسيتم مستقبلاً تطوير شبكة مواصلات مركزية عامة تعتمد على نظام الأتمتة ولا تسبب أي نوع من الانبعاثات الكربونية.

2- استدامة الموارد الطبيعية: ركزت تصميمات مدينة "مصدر" على خفض الطلب على المياه والطاقة بنسبة 40% من خلال التصميم الذكي للمنشآت وفقاً لمعيار "آية شير" (ASHARE)، بالإضافة إلى تأسيس مختبر لمراقبة ودراسة سلوك المدن في استهلاك ومشاركة الموارد، كما تستوفي المدينة معايير الاستدامة العالمية للحفاظ على الموارد وتجنب هدر الطاقة.

3- الاستثمار في المعرفة: يقع في قلب مدينة مصدر "معهد مصدر للعلوم والتكنولوجيا" الذي تم إنشاؤه بالتعاون مع "معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا" بهدف تنمية القطاعات الاقتصادية المختلفة القائمة على الطاقة النظيفة، ويصنف هذا المعهد كجامعة مستقلة للدراسات العليا، كما قامت "الوكالة الدولية للطاقة المتجددة" (IRENA) بنقل مقرها الرئيسي إلى مدينة مصدر في عام 2015. 

4- المنشآت الذكية: تعتمد مدينة مصدر نمط بناء نموذجياً للمباني. فعلى سبيل المثال، ستحتوي أسطح المباني على ألواح لتوليد الطاقة الشمسية، كما سيتم الاعتماد على التقنيات التي ستقلل من استهلاك المياه والطاقة. وفي هذا الإطار تم إنشاء مشروع "الفيلا المستدامة" في مدينة مصدر في يناير 2017، ومن المتوقع أن توفر طاقة أقل بنسبة 72%، ومياهاً بنسبة 35% مقارنة بالمنازل التقليدية، مع الأخذ في الاعتبار أن تكلفة إنشائها تعادل نفس تكلفة إنشاء المنازل العادية، ومن المتوقع أن تستوعب المدينة 40 ألف نسمة، فضلاً عن استقبالها 50 ألفًا آخرين بغرض العمل والدراسة عند اكتمال تطويرها بحلول عام 2030.

5- المبادرات التنموية: تقوم مدينة مصدر بإطلاق والمساهمة في رعاية مبادرات تنموية متعددة، مثل: "أسبوع أبوظبي للاستدامة" (ADSW) ، و"ملتقى السيدات للاستدامة والطاقة المتجددة"، ومبادرة مكافحة التغير المناخي العالمي (COP22)، ومشروع "سولار إمبلس" الذي تضمن إطلاق طائرة تقوم بجولة حول العالم اعتماداً على الطاقة الشمسية دون استهلاك قطرة وقود واحدة.

كما شاركت مدينة "مصدر" في العديد من الفعاليات العالمية، مثل: "القمة العالمية لطاقة المستقبل"، و"القمة العالمية للمياه"، واجتماع "الجمعية العامة للوكالة الدولية للطاقة المتجددة"، و"معرض إيكوويست"، و"القمة العالمية للطاقة" التي ينظمها المجلس الأطلسي، فضلاً عن تنظيم مسابقة بعنوان "التكنولوجيا لمستقبل مستدام"، ومبادرات نشر التوعية البيئية بين الطلاب والشباب على مستوى العالم. 

ومن المرجّح أن تنتشر نماذج متعددة للمدن الذكية في دول الخليج العربي في ظل تزايد التركيز على دمج ممارسات الابتكار والإبداع والاستدامة البيئية والتكنولوجيا المتقدمة في تطوير المدن والمناطق الحضرية لتصبح صديقة للبيئة وجاذبة للاستثمارات، بهدف تعزيز الرضاء العام وسعادة المواطنين والمقيمين بالمدن.

المصدر:

 Raffaella Riva Sanseverino, Valentina Vaccaro (Editors) “Smart Cities Atlas: Western and Eastern Intelligent Communities”, Switzerland: Springer International Publishing, 2017.

-تم  الحصول على بعض المعلومات عن "مدينة مصدر" من  خلال الموقع الرسمي لمصدر