يجد المواطنون الروس صعوبة لم يواجهوها سابقاً في تحديد توقعاتهم للعام الجديد. فقبل أن يتخلصوا من الأعباء التي خلفتها تداعيات جائحة كورونا، واجهوا في العام المنصرم (2022) تحديات غير مسبوقة نتيجة العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، وما ترتب عليها من عقوبات فرضها الغرب ضد روسيا، والتي ألقت بأعباء ثقيلة على الاقتصاد الروسي بشكل عام، وعلى جوانب عدة من حياة المواطنين. وفي ظل هذه التحديات الاستثنائية، لايزال المواطنون يحاولون التكيف مع التغيرات المستجدة، ويسعون لتحسين ظروف حياتهم، حيث ينصب تركيز الروس على أوضاعهم المعيشية بالأساس ومواجهة المخاوف التي يحملها لهم العام الجديد.
استيعاب الصدمات الاقتصادية:
على الرغم من أن الاقتصاد الروسي كان قد بدأ يستعيد عافيته ونشاطه، منذ منتصف عام 2021، بعد جائحة كورونا، فإنه من الصعب الحديث عن استقرار الوضع الاقتصادي الآن. فعلى سبيل المثال سجل الناتج المحلي الاجمالي لروسيا ارتفاعاً في الربع الأول من عام 2022 بنسبة 3.5 بالمائة، مقارنة بالربع الأول من العام 2021، لكنه بالمقارنة مع الربع الأخير من العام 2021، انخفض بنسبة 19.2 بالمائة.
ولم يكن الوضع أفضل بالنسبة للدخول الحقيقية للمواطنين (أي الدخل بعد تسديد المدفوعات الإلزامية). فحسب بيانات وكالة الإحصاءات الفيدرالية الروسية، تراجع الدخل الحقيقي للمواطنين في الربع الأول من عام 2022 بنسبة 1.2 بالمائة.
وفي الأشهر المتبقية من 2022، وقع الاقتصاد الروسي تحت تأثير العقوبات غير المسبوقة التي فرضها الغرب ضد روسيا، على خلفية العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا، التي بدأت في 24 نوفمبر 2022.
وبينما سجلت وتيرة انخفاض الدخل تباطؤاً في الربع الثاني من العام، مع انخفاض بنسبة لم تزد على 0.8 بالمائة فقط، فإنها عادت للارتفاع في الربع الثالث من العام. وبشكل عام، في الفترة من يناير إلى سبتمبر 2022، انخفض الدخل الحقيقي للمواطنين الروس بنسبة 1.7 بالمائة مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي. في الأثناء تتوقع وزارة التنمية الاقتصادية انخفاضاً في الدخل الحقيقي للمواطنين في روسيا الاتحادية بنسبة 2.2 بالمائة في عام 2022، يليه نمو بنسبة 1.6 بالمائة في عام 2023.
وكان لافتاً أن انخفضت في هيكل الدخل الحقيقي حصة الدخل من الأجور والمدفوعات الاجتماعية، وازداد الدخل من النشاط التجاري، والممتلكات، وغيرها. وأشار معهد أبحاث العمل لعموم روسيا إلى أن الانخفاض في الدخل الحقيقي يرجع إلى تأثير جائحة COVID-19، فضلاً عن "التأثير الكبير للتكيف التضخمي للاقتصاد مع ضغوط العقوبات"، لا سيما تعطل سلاسل التوريد وتوقف عمل بعض الشركات الأجنبية الكبرى في روسيا.
التكيف مع "العادي الجديد":
تسببت العقوبات الغربية المتشددة والتي شملت جميع قطاعات الاقتصاد الروسي تقريباً، وجميع مجالات الحياة في البلاد، في تشكيل واقع جديد. حيث توقف التبادل التجاري لروسيا الاتحادية مع عدد كبير من الشركاء التجاريين الرئيسيين، مثل ألمانيا ودول أوروبية أخرى. فضلاً عن ذلك ضيقت العقوبات الخناق على العلاقات الاقتصادية لروسيا مع عدد كبير من دول العالم، التي تخشى أن تصبح هي بدورها عرضة لأي تدابير عقابية إن انتهكت تلك العقوبات. وبشكل عام يمكن القول إن تلك العقوبات أثرت على تعاون روسيا الاقتصادي-التجاري مع غالبية الشركاء التجاريين السابقين، كما أثرت على حركة الإنتاج داخل البلاد، لاسيما في القطاعات والمجالات التي كانت تعتمد إلى حد كبير على المعدات وقطع الغيار ومكونات الإنتاج الغربية. ويضاف إلى هذا كله التعقيدات المالية، بعد تجميد الأصول الروسية في الغرب، وحظر تصدير الدولار إلى روسيا، وإعلان السلطات الروسية رداً على تلك القرارات، عن قيود على تداول الدولار واليورو في السوق المحلية.
وبالطبع أثرت العقوبات بشكل مباشر على الوضع الداخلي بالمعنى الاقتصادي، فضلاً عن تأثيرها إلى حد كبير على نمط النشاط الاجتماعي الذي ألفه المواطنون الروسي طيلة العقدين الماضيين. فعلى سبيل المثال وليس الحصر، تسببت العقوبات في المرحلة الأولى منها بانهيار الروبل الروسي أمام العملات الأجنبية، وارتفاع معدل التضخم. بينما فقد كثيرون عملهم نتيجة خروج عدد كبير من الشركات الغربية من السوق الروسية. وعلاوة على ما سبق أدى حظر حركة الطيران مع روسيا، ومن ثم وضع قيود على منح تأشيرات "شينغن"، للمواطنين الروس، إلى حرمان جزء كبير منهم من رحلاتهم السياحية التي اعتادوا عليها، بما في ذلك رحلاتهم لقضاء أعياد الميلاد ورأس السنة في المدن الأوروبية. كما أدت القرارات في هذا المجال إلى تقييد قدرة المواطنين الروس على السفر نحو وجهاتهم السياحية الرئيسية المحببة في مصر وتركيا، حيث ارتفعت أسعار التذاكر بشكل كبير، وزادت مدة الرحلة الجوية بشكل كبير، نتيجة إغلاق عدد من الدول أجوائها أمام الطيران الروسي.
وكانت الفيرا نابيولينا، مديرة البنك المركزي الروسي أشارت في تصريحات أثناء أكثر من مناسبة خلال عام 2022، إلى أن الاقتصاد الروسي دخل فترة صعبة من التغييرات الهيكلية المرتبطة بالعقوبات. وقالت إن هذه المرحلة قد تستمر لأكثر من عام، ولم تستبعد أن يسوء الوضع خلالها.
ست مهام حكومية:
خلال اجتماع مع "مجلس التنمية الاستراتيجي والمشاريع القومية"، في منتصف ديسمبر نهاية عام 2022، أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن المجالات التي سيجري العمل على تنميتها في العام الجديد. ويقول الخبراء إن توجهات التنمية التي وضعها رئيس الدولة ترمي إلى تخفيف قلق السكان بشأن مستقبلهم.
في كلمته خلال ذلك الاجتماع أكد بوتين أن الوضع الاقتصادي تحت التحكم، وقال إن خطط العام المقبل تمت صياغتها في ظروف "عدوان عقوبات غير مسبوق" يمارسه الغرب ضد روسيا، ويهدف إلى "سحق الاقتصاد الروسي"، وأكد أنه "كما يرى الجميع فإن حساباتهم لم تتحقق" وأن الاقتصاد الروسي يتعافى ويواصل نشاطه. مع ذلك لم ينف الرئيس الروسي انخفاض الناتج المحلي الإجمالي، وأشار إلى أنه من المرجح أن تشهد الميزانية عجزاً في العام الجديد، وأكد في الوقت نفسه أن السلطات "ستحافظ على سياسات مالية واقتصادية كلية مسؤولة"، بما يضمن التمويل الكامل للالتزامات الاجتماعية، وحل المهام الجديدة التي تواجه البلاد.
وأكد الرئيس الروسي أن بلاده ستواصل التطور والتنمية "رغم أي ضغوط خارجية". وأعلن أنه سيتم تنفيذ مشروعات جديدة نوعياً، ترتقي بروسيا إلى مستوى تكنولوجي أعلى، وتضمن سيادتها الاقتصادية والمالية والتكنولوجية. وأضاف أنه للقيام بذلك لابد من حل ستة مهام رئيسية خلال عام 2023. وتلك المهام هي:
1- نقل التعاون مع الشركاء الرئيسيين إلى مستوى جديد في قطاعي الطاقة والغذاء والتمويل والخدمات اللوجستية وغيرها من صناعات التكنولوجيا الفائقة.
2- تعزيز السيادة التكنولوجية وتسريع نمو الصناعة التحويلية وتحقيق الريادة في هذه المجالات.
3-ضمان السيادة المالية للبلاد، وتوفير الموارد اللازمة للمستثمرين القائمين على مشروعات واعدة ذات تقنيات عالية، وتخرج منتجات ذات قيمة مضافة عالية.
4- التطوير المتقدم للبنية التحتية.
5- الحد من الفقر وزيادة دخل السكان.
6- حماية الأمومة والطفولة، ودعم الأسر على جميع المستويات.
2023 عام "الحذر":
لم يكن عام 2022 عاماً سهلاً، ولا حتى طبيعياً بالنسبة لغالبية المواطنين الروس؛ وقد ترك لديهم مخاوف عديدة من العام الجديد.
وعادة ما يتم إعداد تقارير ودراسات نهاية كل عام لمعرفة مزاجية الرأي العام وتوقعاته من العام المقبل، وقد تداولت وسائل الإعلام الروسية دراسة أعدتها الوكالة الوطنية للبحوث المالية بالتعاون مع "دار التأمينات في إس كيه" في نهاية شهر ديسمبر 2022، وكشفت نتائج تلك الدراسة أن الغالبية العظمى من الروس (92 بالمائة) يخشون الأحداث السيئة التي يمكن أن تحدث في عام 2023. وكان واضحاً أن غالبية المخاوف مرتبطة بالوضع المادي والدخل والعمل.
إذ عبر 29 بالمائة عن مخاوفهم من التضخم وارتفاع الأسعار. وقال 27 بالمائة إنهم يخشون من انخفاض مستوى دخولهم في العام الجديد، بينما أعرب 11 بالمائة من المشاركين في الدراسة عن مخاوفهم من عدم قدرتهم على سداد القروض في الوقت المحدد، وقال 9 بالمائة إنهم يخشون أن يتم طردهم من وظيفتهم الحالية في العام الجديد.
كما يخشى 20 بالمائة من المشاركين في الدراسة من جائحة جديدة. وفي المجال الأمني لم تُظهر الدراسة مخاوف لدى المواطنين الروس إزاء احتمال نشوب حرب نووية، بينما عبر 18 بالمائة عن مخاوفهم من وقوع هجمات إرهابية. أما المخاوف من نقص الغذاء أو الدواء، فلم تكن عالية حيث عبر عنها حوالي 10 بالمائة. وقال 8 بالمائة إنه لا توجد لديهم أية مخاوف من العام الجديد.
كما تناولت الدراسة خطط وتوقعات المواطنين الروس المتعلقة بوضعهم المادي للعام الجديد. وأظهرت أن معظم المواطنين الروس يخططون لتوفير المال وادخاره، إذ قال 75 بالمائة إنهم لا يعتزمون سحب أية قروض، ويعتزم 71 بالمائة من المستطلعين توفير المال. في المقابل، يعتقد 23 بالمائة أنهم سيصبحون أكثر ثراءً في عام 2023. ويعيش المتفائلون من الروس في سيبيريا (33 بالمائة) والأورال (30 بالمائة)، بينما يعيش الأكثر تشاؤما في سانت بطرسبرغ ومنطقة لينينغراد (12 بالمائة)، وكذلك في المنطقة الفيدرالية الشمالية الغربية (15 بالمائة). في المقابل يعتقد 17 بالمائة أنهم سيصبحون أكثر فقراً في العام الجديد (22 بالمائة في الشرق الأقصى، و12 بالمائة في شمال القوقاز). وأجاب 29 بالمائة بأن وضعهم المالي لن يتغير في عام 2023.
وأخيراً، ركزت دراسة "شركة التأمينات الحكومية الروسية" بالتعاون مع مصرف "أوتكريتي" على تطلعات المواطنين الروس في 2023، وارتبطت في مجملها بآمال تحقيق السلام، ووفرة الأموال واستقرار العمل الجيد.