يستند الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، إلى فوزه التاريخي في التصويت الشعبي والمجمع الانتخابي، لتغيير هوية الحزب الجمهوري والسياسة الأمريكية في الداخل والخارج، خاصةً في ظل عدم وجود معارضة واضحة حتى الآن لهذا التغيير بعد قيادته الناجحة للجمهوريين في الحصول على الأغلبية في مجلسي النواب والشيوخ في انتخابات 5 نوفمبر 2024، فهو أول رئيس مهزوم بعد ولايته الأولى منذ نحو 130 عاماً يعود إلى البيت الأبيض لولاية ثانية، وحدث هذا مرة واحدة في التاريخ الأمريكي عندما عاد الرئيس الديمقراطي الأسبق غروفر كليفلاند للحكم.
وتشجع هذه المكاسب غير المسبوقة الرئيس ترامب على تغيير كل شيء، بدايةً من السياسات الداخلية الشائكة، مروراً بتعديل الأسس التي قامت عليها علاقات وتحالفات واشنطن في الخارج، وصولاً إلى العمل على تغيير أنماط ومسارات البيئة الدولية عبر التلويح بقبضة "القوة الأمريكية" وتوظيفها لتحقيق مكاسب سياسية وجيوستراتيجية.
ووفق قاموس جامعة كامبريدج، فإن "الترامبية" تعني سياسيات وأفكار الرئيس ترامب، لكن البعض الآخر يرى "الترامبية" تتمثل في السعي الواضح من الرئيس الأمريكي الـ47 لتأسيس حزب جمهوري جديد لا يكون له علاقات كثيرة بالأفكار التي كان يعمل بها الجمهوريون قبل ظهور ترامب على الساحة السياسية. ويؤكد تحليل خطابات ترامب وأوامره التنفيذية منذ اليوم الأول في ولايته الثانية، أن أكثر ما يعمل عليه الرئيس الأمريكي هو تغيير شكل ومحتوى الإطار الفكري والرؤية السياسية التي اعتمد عليها زعماء الحزب الجمهوري على مدار التاريخ، وكان آخرها الرؤية التي وضعها وعمل عليها الرئيس الأسبق رونالد ريغان، وسار عليها من بعده كل الزعماء الجمهوريين، وحتى وصول ترامب للحكم في ولايته الأولى في 20 يناير 2017.
ولا يسعى ترامب فقط إلى تسجيل اسمه في قائمة العظماء في التاريخ الأمريكي، بل يعمل هو وفريقه الجديد على نقل الحزب الجمهوري من ميراث ريغان إلى المبادئ "الترامبية" الشعبوية الجديدة؛ بهدف ترسيخ أفكار ترامب وجعلها الأساس الوحيد لرؤية الحزب الجمهوري والسياسة الأمريكية في السنوات والعقود القادمة. ولعل اختيار ترامب لنائب الرئيس، جيمس ديفيد فانس، وفريق إدارته، يقول إننا أمام حقبة قد تطول لعقود عنوانها "الترامبية". وهناك عشرة مبادئ "ترامبية" يعمل عليها الرئيس الأمريكي الحالي، تتمثل في الآتي:
1- عقيدة سياسية جديدة:
يتفق الكثيرون على أن ترامب، ومنذ نجاحه أول مرة في انتخابات نوفمبر 2016، يسعى لتأسيس "عقيدة جديدة" في السياسة الأمريكية تقوم بشكل خاص على أن "أمريكا أولاً". وتُعد هذه العقيدة وذلك الشعار مدخلاً لفهم كل قرارات ومواقف ومشروعات ترامب، سواء أكانت في الداخل الأمريكي أم الخارج. وعلى الرغم من أن تلك العقيدة في الوقت الحالي تقوم على التفضيلات الشخصية والعاطفة بدلاً من اتباع نموذج سياسي صارم؛ فإن ترامب يسعى إلى أن تكون لديه عقيدة سياسية راسخة على غرار "عقيدة ريغان"، و"عقيدة مونرو"، و"عقيدة ترومان".
ويشير تحليل وقراءة قرارات ترامب إلى أنه يأخذ من مختلف هذه العقائد، مع إضافة "الإطار الشعبوي" لها. فعلى سبيل المثال، كان ريغان هو أول من تبنى فكرة بناء "قبة حديدية" حول الأراضي الأمريكية، وها هو ترامب يتبنى الفكرة من جديد. كما أن سعي ترامب لاستعادة قناة بنما، والسيطرة على كندا، يتوافق مع "مبدأ مونرو" الذي أفصح عنه في فبراير 1823، وكان يرى ضرورة الهيمنة الحصرية الأمريكية على كل الأمريكيتين والنصف الغربي من الكرة الأرضية. وحالياً بات شعار "لنجعل أمريكا عظيمة من جديد" هو العنوان العريض لـ"الترامبية"، وهذا أيضاً ليس جديداً؛ حيث تم رفع هذا الشعار من جانب رافضي تورط الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية عام 1940، وهي نفس المواقف السياسية لترامب الذي يرفض التورط في الحروب الخارجية التي يصفها بأنها "سخيفة". وظهرت أولى بذور "الترامبية" في وثيقة نشرها البيت الأبيض عام 2017، كانت تقول "أمريكا ستضع مواطنيها وقيمها في المقام الأول، مثلما ينبغي أن تفعله جميع الدول".
2- مفهوم جديد للحماية:
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ساد مفهوم حماية أمريكا من الخارج، ويتجلى ذلك في وجود أكثر من 850 قاعدة عسكرية أمريكية في الخارج، والكثير من التحالفات العسكرية مثل حلف شمال الأطلسي "الناتو"، و"أوكوس"، و"العيون الخمس"، و"كواد"، بالإضافة إلى عشرات الاتفاقيات العسكرية والأمنية الثنائية التي لها هدف واحد هو تحقيق الحماية للأراضي الأمريكية والشعب الأمريكي. لكن ترامب له مفهوم جديد للحماية؛ يتجلى بوضوح في تحقيق الحماية الذاتية والمباشرة عبر بناء "القبة الحديدية" حول كل الأراضي الأمريكية، وتعزيز قدرات الجيش الأمريكي لمساعدته على تنفيذ رؤيته "السلام الذي يقوم على القوة"، وتحديث الأسلحة النووية، لخلق فجوة كبيرة بين قدرات الجيش الأمريكي وأي جيش آخر في العالم. ويعمل ترامب بالفعل الآن على الخطوات الثلاث، بجانب تعزيز أمن الحدود مع المكسيك وكندا، وضرب عصابات المخدرات في أمريكا اللاتينية والتي تهرب المخدرات إلى الولايات المتحدة.
3- توريث "الترامبية":
يأمل الرئيس ترامب في تخليد ذاته وسط الكبار في التاريخ الأمريكي، ليس فقط باتخاذ قرارات ذات طابع استراتيجي في ولايته الثانية، بل أيضاً من خلال تعميق ونشر أفكاره لدى الأجيال القادمة من الجمهوريين والمستقلين؛ ولهذا جاء اختياره لنائبه ديفيد فانس الذي يؤمن بكامل أفكار ترامب، كما أنه صغير السن، ويحظى بقبول وحضور كبير بين الجمهوريين. وقد بدأ التيار المناصر لترامب في إضفاء الطابع الأيديولوجي على أفكاره حتى تتعمق أكثر وتبقى في وجدان الأجيال القادمة من الأمريكيين.
4- إزالة الخطوط الفاصلة بين التيارات الثلاثة:
كشفت نتائج الانتخابات الأمريكية في نوفمبر الماضي عن قدرة ترامب على إيجاد قبول ودعم بين التيارات الثلاثة الرئيسية في الحزب الجمهوري؛ مما منح ترامب مرونة كبيرة في الحركة والمناورة بين هذه التيارات، سواء تيار المشاركة والانخراط وتعزيز الوجود العسكري الأمريكي في الخارج، أم التيار الانكفائي الانعزالي الذي يرفض مزيداً من التفاعل العسكري في القضايا الدولية، أم تيار الوسط الذي يتأرجح بين تيار الهيمنة وتيار الانعزال. ويعتقد ترامب أنه نجح في إزالة الخطوط الفاصلة بين التيارات الثلاثة؛ بما يمنحه قدرة استثنائية على ترسيخ مفاهيمه ورؤيته للسياسة الداخلية والخارجية بين مختلف فئات المجتمع الأمريكي.
5- تفكيك الدولة العميقة:
يعتقد ترامب أن الدولة العميقة الأمريكية يمكن أن تعوق مشروعه السياسي والاقتصادي، وقد بدأ بالفعل سلسلة من الإجراءات بهدف تفكيكها، ومن هذه الإجراءات تعيين صديقه وحليفه إيلون ماسك في وزارة كفاءة الحكومة الأمريكية وعدم الهدر، وتعيين آلاف الموظفين الجدد الموالين لأفكار ترامب، وإقالة أي مسؤول كبير يمكن أن يعارض رؤيته؛ لذا قرر ترامب إقالة المستشارين الكبار الذين أثبت "اختبار الولاء" أنهم غير موالين لأفكاره وعقيدته السياسية. ويعمل ترامب في الأيام الحالية على تعيين موظفين سياسيين ينتمون إلى الحزب الجمهوري، كما يعمل بالتوازي مع ذلك على تغيير شكل وحجم الحكومة بهدف تسهيل عملية اتخاذ الرئيس للقرارات، ومنحه حرية وفاعلية أكبر لتجاوز العتبات البيروقراطية، وإلغاء الحماية لآلاف الموظفين الحكوميين كما جرى من إلغاء للحماية عن خصوم ترامب مثل جون بولتون، مستشاره السابق للأمن القومي، ومايك بومبيو، وزير خارجيته السابق، وأنتوني فاوتشي، كبير المستشارين الطبيين السابق بالبيت الأبيض. وهناك قناعات جمهورية بأن غالبية الموظفين يميلون للديمقراطيين، ويستدل ترامب على ذلك بأن واشنطن العاصمة التي بها أكبر عدد من موظفي الحكومة الفدرالية بها أغلبية ديمقراطية كاسحة؛ ومن ثم يهدف ماسك إلى تقليل عدد موظفي الحكومة، كما سيعمل ترامب على إعادة هيكلة مكتب التحقيقات الفدرالي وغيره من الوكالات الحكومية التي وقفت بجانب جو بايدن ضد ترامب إبان الخلاف حول نتائج انتخابات 2020.
6- تأسيس اليمين الجديد:
لا يمكن وصف ترامب بأنه ينتمي إلى اليمين المتطرف، كما لا يمكن القول إنه يتمركز في يمين الوسط. والتعمق فيما يقوله ويفعله ترامب يؤكد أنه ليس من المحافظين الجدد الذين قادهم جورج بوش الابن ودونالد رامسفيلد. ولا تتطابق أفكار ترامب بالكامل مع المحافظين القدماء مثل أبراهام لينكولن بالرغم من إعجاب ترامب الشديد به؛ لهذا يمكن وصف ما يقوم به ترامب بأنه بمثابة تأسيس لليمين الجديد.
7- رفض العولمة ومحاربة الإقليمية:
لا تؤمن "الترامبية" بالعولمة، وقد وصفها ترامب بأنها كانت كارثة على الولايات المتحدة، استفاد منها فقط منافسو وخصوم بلاده؛ لذا انسحب ترامب في أول يوم له في البيت الأبيض في ولايته الأولى في 20 يناير 2017 من اتفاقية التجارة عبر المحيط الهادئ التي سبق أن وقعها الرئيس الأسبق باراك أوباما. وخلال الأيام الأولى من ولايته الثانية، انسحب ترامب كذلك من منظمة الصحة العالمية، واتفاقية باريس للمناخ. وكان أيضاً قد انسحب عام 2017 من منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة "اليونسكو"، وفي أغسطس 2019 انسحب من اتفاقية منع إنتاج ونشر الصواريخ القصيرة والمتوسطة المدى والتي يمكن أن تحمل رؤوساً نووية. ويعمل ترامب في الوقت الحالي على التخلص مما يسميه "الامتيازات المجانية"، وعلى تصحيح المسار والخلل في العلاقة مع الدول الأخرى، ويطالب دول حلف "الناتو" بإنفاق 5% من الناتج القومي على الشؤون الدفاعية بعد أن كان يطلب منهم في السابق إنفاق 2%، فضلاً عن أن ترامب يرفض العمل متعدد الأطراف، ويفضل بدلاً من ذلك الاتفاقيات الثنائية التي يكون هو فيها من يوقع الصفقة.
ليس هذا فقط، فـ"الترامبية" لا تؤمن حتى بالإقليمية والتعاون الإقليمي. وفي هذا الصدد، بالرغم من أن اتفاقية التجارة الحرة التي تجمع الولايات المتحدة وجيرانها الكنديين والمكسيكيين تنتهي عام 2036؛ فإن فرض ترامب للجمارك الجديدة على البضائع القادمة من كندا والمكسيك يهدد عملياً بإنهاء أكبر اتفاقية تجارية للتعاون الإقليمي في العالم، مع أن ترامب نفسه أضاف بعض البنود لصالح واشنطن في هذه الاتفاقية عندما جرى تجديد العمل بها في عام 2018 تحت اسم "نافتا" الجديدة.
8- الاقتصاد بدلاً من الحرب:
على الرغم من أن هناك في الوقت الحالي نحو 220 ألف جندي أمريكي خارج الأراضي الأمريكية، تؤمن "الترامبية" بتجنب الحرب قدر الإمكان حتى تظل الولايات المتحدة تهيمن على العالم لعقود قادمة. ويرى ترامب أن الحرب هي سبب تآكل وتراجع قدرات الأمم؛ ولهذا لم تشهد سنوات ترامب الأربع في ولايته الأولى أي نوع من الحروب، وذهب وتصافح في ثلاث قمم مع الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون، وعقد قمة تاريخية مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في هلسنكي عام 2018، وفي يناير 2020 توصل لاتفاق مع الصين بقيمة 200 مليار دولار لوقف الحروب التجارية. وسبق أن انتقد ترامب الحرب الأمريكية على العراق، وكان منفتحاً على سحب القوات الأمريكية من هناك، وهو من تفاوض مع حركة طالبان لسحب القوات الأمريكية من أفغانستان.
9- حماية مكاسب الأمريكي الأبيض:
عصب مشروع "الترامبية" هو الرجل الأبيض، وبالرغم من زيادة عدد المصوتين من اللاتينيين والسود للرئيس ترامب في انتخابات نوفمبر 2024؛ فإنه يعتقد أن الرجل الأبيض وليس اللاتيني أو الأسود هو من سيحمل لواء "الترامبية" وينقلها للأجيال القادمة. وهنا يمكن فهم سبب الحملة التي يقودها ترامب حالياً لطرد نحو 20 مليون مهاجر غير شرعي جاء غالبيتهم من دول أمريكا الجنوبية؛ لأن بقاء هؤلاء المهاجرين مع دخول ملايين آخرين سيعني فقدان الرجل الأبيض لهيمنته وغالبيته في المجتمع الأمريكي، فحالياً تصل نسبة البيض في الولايات المتحدة إلى نحو 59%، واللاتينيين 19%، والسود 13.5%، والآسيويين 6%. ويخشى ترامب أن الهجرة من أمريكا اللاتينية يمكن أن تغير التركيبة السكانية؛ ولهذا فإنه سوف يبذل كل جهوده من أجل أن تظل الغالبية الكبيرة للبيض.
10- الأسرة عصب الحياة الأمريكية:
ليس من قبيل الصدفة أن يظهر ترامب وأبناؤه وأحفاده في المؤتمر العام للحزب الجمهوري، وفي خطاب النصر، وأثناء أداء القسم في يوم التنصيب، والأكثر من ذلك تعيين أعضاء من عائلته في مناصب رفيعة، مثل تعيين صهره مسعد بولس كمنسق للعلاقات العربية الأمريكية، وتعيين صهره الثاني تشارلز كوشنر سفيراً في فرنسا. ويهدف ترامب من كل هذا إلى تأكيد قيمة الأسرة والعائلة باعتبارها صمام أمان لمستقبل الولايات المتحدة؛ ولهذا أيضاً كان الاعتراف منذ اليوم الأول لعودته إلى البيت الأبيض بأن الأسرة الأمريكية تتكون فقط من رجل وامرأة، وتعهد بطرد المثليين من الجيش وعدم التحاقهم بالمسابقات الرياضية.