أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

استهداف النجباء:

هل تغيّرت قواعد الاشتباك بين واشنطن والمليشيات في العراق؟

11 يناير، 2024


أعلنت مصادرُ عراقية وأمريكية، الخميس 4 يناير 2024، مقتل القيادي في حركة النجباء التابعة للحشد الشعبي مُشتاق طالب السعيدي، والمُلقب "بأبو تقوى"، والذي كان يشغل منصب مُعاون قائد عمليات حزام بغداد بالحشد، وكذلك أحد مُرافقيه، في قصف أمريكي استهدف مقر اللواء الثاني عشر للحشد الشعبي في بغداد.

ومن جانبه، قال مسؤول دفاعي أمريكي لم يُحدد، أن الولايات المتحدة تواصل اتخاذ إجراءات لحماية قواتها في العراق وسوريا، من خلال معالجة التهديدات التي تواجهها.

تصعيد تدريجي:

يمثل الاستهداف الأمريكي الأخير لأحد مقار الحشد الشعبي في بغداد، تغيراً في قواعد الاشتباك الأمريكية المعمول بها مع الفصائل المُسلحة في العراق، إذ تطورت هذه القواعد على عدّة مراحل منذ بدء الهجمات على القواعد الأمريكية في 17 أكتوبر 2023، في تماهٍ مع اندلاع التصعيد في قطاع غزة بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية، وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالي:

1. المرحلة الأولى: شهدت المرحلة الأولى من الرد الأمريكي تحفظاً بشكلٍ عام على الهجمات التي تشنها فصائل مُسلحة مُوالية لإيران في العراق وسوريا، إذ اقتصر رد الفعل الأمريكي على ضربات جوية محدودة على الأراضي السورية، مع التركيز على استهداف مخازن أسلحة وذخائر مع تجنب إيقاع خسائر بشرية في صفوف الفصائل المسلحة في ظل ترك مساحة للجهود الدبلوماسية من أجل وقف الهجمات المتنامية على القواعد الأمريكية. وتجنب الرد على هجمات المليشيات في العراق، منعاً لإثارة الاضطرابات الأمنية داخل العراق، خاصة في ظل الاتفاق الاستراتيجي الذي يربط واشنطن ببغداد.

2. المرحلة الثانية: شهدت توسعاً في الاستهدافات الأمريكية لعدد من الفصائل المسلحة الموالية لإيران من حيث نوعية الأهداف والسياق الجغرافي الخاص بها، إذ شهدت تلك المرحلة امتداد الهجمات الأمريكية إلى العراق، لأول مرة، وتغيراً في نوعية الأهداف من استهداف للمخازن والبنية التحتية العسكرية للفصائل المسلحة إلى استهداف مقار هذه الفصائل وإيقاع قتلى في صفوفها، وفرض عقوبات على بعض تلك المليشيات، سواءً بشكل جماعي، مثل تصنيف جماعة "سيد الشهداء"، وأمينها العام هاشم السراجي، كـ"إرهابيين عالميين"، أم بشكل فردي، مثل فرض عقوبات على ستة أشخاص منتمين لـ"كتائب حزب الله". 

3. المرحلة الثالثة: وهي المرحلة الحالية، والتي توسعت فيها القوات الأمريكية من مجرد ضرب أهداف عسكرية تابعة للفصائل في العراق وسوريا إلى محاولة التأثير وإرباك هيكل القيادة والسيطرة الخاص بالفصائل المسلحة العراقية بما يحد من قدرتها على شنّ هجمات ضد القوات والقواعد الأمريكية، وذلك من خلال قتل قادة عسكريين في تلك الفصائل، ولاسيما جماعتيْ كتائب حزب الله وحركة النجباء. 

دوافع مُتعددة:

يمكن الإشارة إلى جملة من الأسباب والدوافع وراء استهداف الولايات المتحدة للقيادي في حركة النجباء "أبو تقى"، ويمكن استعراض أبرزها على النحو التالي:

1. تصاعد الهجمات على القوات الأمريكية: شهدت الهجمات التي تشنها فصائل مُسلحة محسوبة على إيران تصاعداً منذ 17 أكتوبر 2023، إذ أشارت صحيفة "واشنطن بوست"، نقلاً عن مسؤولين أمريكيين، في 7 يناير 2024، إلى أن القوات الأمريكية قد تعرضت إلى ما يقرب من 120 هجوماً على الأقل في سوريا والعراق منذ 17 أكتوبر، إذ تنوعت هذه الهجمات ما بين استهداف بالصواريخ غير المُوجّهة والطائرات المسيرة الانتحارية أو كلاهما.

2. فشل واشنطن في فرض الردع: أدّى استمرار الهجمات التي تشنها الفصائل المسلحة ضد القوات الأمريكية في العراق وسوريا بل وتصاعدها إلى بروز عيوب جوهرية في آلية الردع الأمريكية، إذ لم تؤد الهجمات الانتقامية المحدودة في بداية التصعيد إلى وقف الهجمات التي تشنها الفصائل على القوات الأمريكية، كما لم تسفر الهجمات التي استهدفت بشكل مباشر مقار وقواعد للفصائل المسلحة وأسفرت عن سقوط قتلى في صفوف هذه الفصائل عن أي تغيير في موقف الفصائل من حيث استمرار هجماتها ضد القوات الأمريكية ورهن توقفها بتوقف الأعمال العدائية الإسرائيلية في قطاع غزة.

3. أهمية الهدف: يأتي الاستهداف الأمريكي لحركة النجباء مدفوعاً بعاملين أساسيين، أولهما، هو أن حركة النجباء - بالإضافة إلى "كتائب حزب الله العراقية"– من أكثر الحركات المسلحة العراقية انخراطاً في تنفيذ الهجمات على القوات والقواعد العسكرية الأمريكية في العراق وسوريا، علاوةً على ذلك فإن الحركة قد تبنت موقفاً مُتشدداً إزاء القوات الأمريكية قبل بداية الحرب الإسرائيلية في غزة، وبعد دخول الجبهة العراقية والسورية ساحة المواجهة بعد 17 أكتوبر، إذ قادت حركة النجباء هجمات الفصائل ضد القوات الأمريكية في العراق وسوريا، إذ لم تُخفِ الحركة انخراطها الواضح في العمليات، وقد تجلى ذلك في تصريحات الأمين العام للحركة أكرم الكعبي، بأن "المقاومة الإسلامية قد قررت تحرير العراق عسكرياً"، العامل الثاني، هو سهولة تبرير الحادث سياسياً سواءً للداخل الأمريكي أم على المستوى الدولي، إذ تصنف الولايات المتحدة حركة النجباء على أنها مُنظمة إرهابية، ولذا فإنها تعتقد أن العمل العسكري ضدها أو ضد قيادتها هو عمل مشروع من ناحية القانون الدولي.

4. عجز الحكومة العراقية عن وقف الهجمات: كانت الولايات المتحدة تأمل في أن تؤدي الحكومة العراقية دوراً فعّالاً في وقف تصعيد الفصائل المُسلحة الموالية لإيران ضد القوات الأمريكية، إذ كان ذلك الأمر محور حديث عدد من المسؤولين الأمريكيين مع نظرائهم العراقيين، خلال الفترة الأخيرة، خصوصاً وأن مُعظم الفصائل المُسلحة التي تشن الهجمات على القوات الأمريكية هي في الواقع جزء من الحشد الشعبي، والذي هو بدوره جزء من المنظومة الأمنية العراقية الرسمية، وذلك على الرغم من مُناشدات رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني الذي أكّد في تصريحات سابقة "أن الدولة هي المسؤولة عن اتخاذ القرارات الكبيرة وفقاً للدستور وانطلاقاً من المصلحة العليا للعراقيين".

5. الضغط الداخلي الأمريكي: يواجه الرئيس الأمريكي ضغطاً مُتزايداً في الداخل الأمريكي من أجل تبني رد أكثر حزماً تجاه الهجمات التي تشنها الفصائل المسلحة ضد القوات الأمريكية في سوريا والعراق، إذ يستعمل خصوم الرئيس الأمريكي في الكونغرس هذا الموضوع بالتحديد من أجل شنّ هجوم على الرئيس الأمريكي وإدارته، إذ أشار زعيم الأقلية الجمهورية في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل، إلى أن "الجماعات المدعومة من إيران لم يتم ردعها، فهي تعتقد أن بإمكانها محاولة قتل الأمريكيين مع الإفلات من العقاب"، داعياً بايدن إلى "التعامل بجدية" مع التهديدات التي تواجه الولايات المتحدة.

كما يزداد تخوف الرئيس الأمريكي جو بايدن من استغلال خصومه الجمهوريين مسألة الهجمات على القوات الأمريكية في سوريا والعراق كورقة انتخابية في ظل اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية والتي ستعقد في نهاية عام 2024، والتي يحاول الرئيس الأمريكي من خلالها تأمين مدة رئاسية ثانية، إذ بالفعل هاجم مرشحون جمهوريون مُحتملون الرئيس الأمريكي بسبب سياسته إزاء الهجمات المسلحة ضد القوات الأمريكية، إذ أشار المرشح الجمهوري رون ديسانتيس، إلى أن القوات الأمريكية تُعد "أهداف سهلة" في الشرق الأوسط في ظل الاستهداف المستمر لها، كما اتهمت المرشحة الجمهورية نيكي هيلي الرئيس الأمريكي باسترضاء إيران، إذ أشارت إلى أن إيران والفصائل المسلحة "لا يردون إلا بالقوة".

ضغوط مُتزايدة:

ارتبط بعملية الاستهداف الأمريكية للقيادي في حركة النجباء، عدد من الأبعاد، يمكن توضيحها على النحو التالي:

1. تنامي الضغط السياسي على الحكومة العراقية: ينبع الضغط المفروض على الحكومة العراقية من أجل اتخاذ موقف أكثر تشدداً ضد القوات الأمريكية في البلاد بشكلٍ أساسي من ثلاثة عوامل؛ العامل الأول، هو أن مُعظم الفصائل المُسلحة في العراق تمتلك امتدادات سياسية في البرلمان العراقي، لذا فإنها تمثل عامل ضغط على الحكومة ليس لكونها حركات مُسلحة فقط ولكن كقوى سياسية تمتلك تأثيراً حقيقياً في الحكومة العراقية المسؤولة أمامها في البرلمان، ولعل هذا ما تمثل في الضغط الذي مارسته بعض الفصائل المُسلحة من خلال أذرعها السياسية على الحكومة العراقية مثل كتلة "الصادقون" التابعة لحركة "عصائب أهل الحق" والتي طالبت بإخراج القوات الأمريكية من العراق، وكتلة "حقوق" التابعة لكتائب حزب الله والتي طالبت بطرد السفيرة الأمريكية من العراق، وتستفيد هذه الفصائل من كون عدد من أذرعها السياسية أعضاء في "الإطار التنسيقي" الذي يُعد الظهير السياسي الرئيسي لحكومة رئيس الوزراء العراقي محمد شيّاع السوداني في الضغط على الحكومة من أجل اتخاذ خطوات أكثر حزماً. العامل الثاني، هو إقرار البرلمان قرار رقم 18 لسنة 2020 والذي جاء فيه إلغاء طلب المساعدة المقدم إلى التحالف الدولي لمحاربة تنظيم داعش وذلك نظراً لإعلان الحكومة تحقيق النصر على تنظيم داعش، كما ألزم القرار الحكومة العراقية بإنهاء وجود أي قوات أجنبية في الأراضي العراقية ومنعها من استخدام الأراضي والأجواء العراقية لأي سبب كان، وبناءً على هذا القرار فإن من المفترض أن الحكومة العراقية ستعمل على إخراج القوات الأمريكية من العراق، إلّا أن الحكومة العراقية لم تنفذ هذا القرار حتى الآن. العامل الثالث، هو أن رئيس الوزراء العراقي مُتردد في شأن إخراج القوات الأمريكية وقوات التحالف الدولي بشكلٍ عام من العراق، فعلى الرغم من إعلان العراق الانتصار على تنظيم داعش رسمياً فإن التنظيم ما يزال حاضراً في الصحراء العراقية وخصوصاً المناطق الحدودية مع سوريا، لذا فإن السوداني حذِر فيما يتعلق بإخراج القوات الأمريكية من العراق، خصوصاً أن الدور الذي تؤديه القوات الأمريكية سواءً على الصعيد التدريبي للقوات العراقية أم صعيد مُشاركة المعلومات الاستخباراتية والقدرات التكنولوجية التي يجلبها الجانب الأمريكي في المعركة ضد داعش، يُعد حيوياً للحيلولة دون إعادة إحياء التنظيم مرة أخرى وهو ما تمثل بشكلٍ أساسي في تصريحات سابقة للسوداني في مقابلة مع "وول ستريت جورنال" دافع فيها عن وجود قوات أمريكية في العراق، مؤكداً أهميتها في مُكافحة تنظيم داعش إذ إن القضاء على التنظيم يحتاج إلى المزيد من الوقت على حد وصفه.

2. اعتبار الهجوم استهدافاً للمنظومة الأمنية العراقية: تُعد حركة النجباء جزءاً من الحشد الشعبي والذي بدوره يُعد تشكيلاً عسكرياً وجزءاً من القوات المسلحة العراقية وفقاً للمادة 1 من قانون هيئة الحشد الشعبي رقم 40 لسنة 2016، ووفقاً لقرارات رئيس الوزراء العراقي السابق عادل عبد المهدي في 2019 القاضية بضم تشكيلات الحشد الشعبي كافة إلى القوات المسلحة العراقية، لذا فإن الاستهداف الأمريكي الأخير لقائد في حركة النجباء قد شكل اعتداءً على القوات الأمنية العراقية الرسمية، وهو ما يُشكل إحراجاً لحكومة محمد شيّاع السوداني ويفرض عليها ضغوطاً متزايدة لكون الاعتداء ليس فقط ضد فصيل مُسلح ولكنه اعتداء على الدولة العراقية ومؤسساتها.

3. دلالة التوقيت: جاء الاستهداف الأمريكي للقائد في حركة النجباء بعد أيام من إحياء ذكرى مقتل قائد فيلق القدس السابق التابع للحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني ونائب رئيس الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس، واللذيْن قتلا في غارة أمريكية في 2020 بالقرب من مطار بغداد الدولي، ويُثير توقيت الاستهداف الأمريكي حساسيات لدى الفصائل لتشابه ملابسات استهداف مشتاق طالب السعيدي (أبو تقى) بملابسات مقتل قاسم سليماني، إذ إن الاستهدافيْن قد حدثا في بغداد وجرى تنفيذهما عن طريق طائرة مُسيّرة أمريكية، كما أن حدوث الاستهداف بعد يوم من ذكرى مقتل سليماني والمهندس، قد أثار غضباً من تكرر حوادث "الاغتيال" الأمريكية على الأراضي العراقية مما يفرض مزيداً من الضغوط على الحكومة العراقية. كما يُؤشر التوقيت على تعمّد الجانب الأمريكي التصعيد ضد وكلاء إيران في المنطقة، إذ إن اغتيال (أبو تقى) ومرافقه، جاء بعد أيام من استهداف البحرية الأمريكية لثلاثة من أصل أربعة زوارق تابعة لجماعة الحوثي في البحر الأحمر، ما أسفر عن مقتل عشرة عناصر من المليشيا، على خلفية تهديداتها للسفن والناقلات التي تَعْبُر في الممر الملاحي الدولي، ما يوحي بأن الإدارة الأمريكية باتت تتخذ نهجاً أكثر حزماً في التعامل مع التهديدات التي تتعرض لها مصالحها في المنطقة. 

وفي التقدير، يمكن القول إن قواعد الاشتباك بين واشنطن والمليشيات في العراق وسوريا، قد انتقلت إلى مستوى استهداف القادّة، وليس فقط استهداف البنى التحتية والعناصر، وهو ما يؤشر على تصاعد حدّة المواجهات بين الجانبين خلال المرحلة المقبلة، وإن كان سيظل "تصاعداً محسوباً"، طبقاً لآلية التصعيد التدريجي الموضوعة من قبل إيران، كما سيكون هذا التصعيد مرهوناً بحالة الحرب في قطاع غزة. 

كما يرجح أن يكون الرد العراقي الرسمي على الهجمات الأمريكية ضمن إطار المُتوقع من حيث إعلان بدء المشاورات لإخراج القوات الأمريكية من العراق، إلّا إنه تجدر الإشارة إلى أن هذه الإجراءات المعلن عنها لم يُحدد لها إطار زمني، وبالتالي فإن المفاوضات بين بغداد وواشنطن حول خروج الأخيرة من العراق قد تأخذ مدة زمنية طويلة، في ظل عدم رغبة واشنطن في الانسحاب من العراق في الوقت الحالي.