أخبار المركز
  • د. أحمد أمل يكتب: (تهدئة مؤقتة أم ممتدة؟ فرص وتحديات نجاح اتفاق إنهاء الخلاف الصومالي الإثيوبي برعاية تركيا)
  • سعيد عكاشة يكتب: (كوابح التصعيد: هل يصمد اتفاق وقف النار بين إسرائيل ولبنان بعد رحيل الأسد؟)
  • نشوى عبد النبي تكتب: (السفن التجارية "النووية": الجهود الصينية والكورية الجنوبية لتطوير سفن حاويات صديقة للبيئة)
  • د. أيمن سمير يكتب: (بين التوحد والتفكك: المسارات المُحتملة للانتقال السوري في مرحلة ما بعد الأسد)
  • د. رشا مصطفى عوض تكتب: (صعود قياسي: التأثيرات الاقتصادية لأجندة ترامب للعملات المشفرة في آسيا)

ضغوط متبادلة:

التوترات المحتملة بين أنقرة وواشنطن بعد فوز "بايدن"

15 نوفمبر، 2020


مع فوز المرشح الديمقراطي "جو بايدن" بالانتخابات الرئاسية الأمريكية يتوقع دخول الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا مرحلة جديدة من التوتر. وقد أبدت أنقرة قلقًا شديدًا حيال مستقبل العلاقة مع واشنطن في ظل اتساع نطاق الخلافات مع الرئيس المنتخب حول الملفات الإقليمية المختلفة، وعلى رأسها التنديد بالسياسة التركية تجاه الأكراد شمال سوريا، وعمليات التنقيب غير القانونية التي تقوم بها السفن التركية شرق المتوسط، إضافة إلى توصيف "أردوغان" بالمستبد، وانتقاده سياسة تأميم المجال العام في الداخل التركي.

وسعى كل من "بايدن" و"أردوغان" إلى توجيه رسائل مباشرة من أجل ممارسة ضغوط متبادلة لتعزيز مواقف كل منهما قبيل إجراء الانتخابات الأمريكية، ففي 4 أكتوبر الماضي لوح "أردوغان" بـ"توغل عسكري" جديد ضد الأكراد في شمال شرق سوريا، بينما دعا "بايدن" -في بيان له- في 6 أكتوبر الماضي إلى تكثيف الضغوط الأمريكية على تركيا لدفعها إلى خفض منسوب التوتر مع اليونان، كما دعا "بايدن" الرئيس التركي إلى إعادة النظر في قراره تحويل الكنيسة البيزنطية السابقة "آيا صوفيا" إلى مسجد، مشددًا على أهمية بقائها متحفًا مفتوحًا للجميع.

وإذا كان متوقعًا أن يكون التوتر أو على الأقل الفتور هو العنوان الأبرز في العلاقة المحتملة بين "بايدن" و"أردوغان"، ويعكس ذلك تهنئة الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" المتأخرة للرئيس الأمريكي المنتخب، ففي المقابل ثمة اعتبارات عديدة ربما تدفع الطرفين إلى محاولة ضبط حدود الخلافات خلال المرحلة المقبلة، في إطار ما يمكن تسميته بــ"التوافق البراجماتي" الذي تفرضه المصالح الخاصة بكل من أنقرة وواشنطن، على نحو ما عبر عنه خطاب التهنئة لــ"بايدن"، حيث أكد فيه "أردوغان" أن العلاقات التركية-الأمريكية تحمل طبيعة استراتيجية تستند إلى أسس متجذرة. وفي الاتجاه المعاكس، فإن "بايدن" حال توليه منصبه، لن يسعى إلى تهميش تركيا التي تضطلع بدور متعاظم في المنطقة، بل سيحاول إقامة علاقات تستند إلى قواعد جديدة أكثر صرامة مع تركيا الشريك المهم في حلف الأطلسي.

ملفات خلافية:

ثمة العديد من العقبات التي ستواجه البلدين خلال المرحلة المقبلة، إذ يبدو جليًّا أن التناقضات والرؤى والرؤى المضادة بين "أردوغان" و"بايدن" قد تسهم في زيادة مساحة التوتر بين البلدين، ويمكن بيان ذلك على النحو التالي:

1- منظومة (S-400): مثّل اختبار تركيا منظومة الدفاع الصاروخية (S-400) منتصف أكتوبر الماضي متغيرًا رئيسيًّا في توجهات الإدارة الأمريكية الجديدة حيال تركيا، إذ إن "بايدن" أبدى حرصًا على توجيه إشارات تفيد بأنه ما زال لديه طموح في تراجع أنقرة عن الاستمرار في تلك الصفقة. ويكتسب هذا الملف تحديدًا أهمية خاصة لدى الرئيس المنتخب، ليس فقط باعتبار أن تركيا عضو في حلف الناتو، وإنما أيضًا لوجود خلافات لا تبدو هينة بين واشنطن -خاصة الديمقراطيين- وروسيا حول العديد من الملفات التي تحظى باهتمام خاص من جانبهما. 

في هذا السياق، فإن موقف "بايدن" من هذا الملف سيكون حاسمًا بالاتجاه نحو تطبيق قانون "كاتسا" الصادر في عام 2017، والذي يقضي بفرض عقوبات على الدول التي تتعاون مع أعداء أمريكا، وفي الصدارة منها روسيا. ويرى "بايدن" أن اقتناء تركيا للمنظومة الدفاعية الروسية قد يعرض المقاتلة الأمريكية F35 للخطر، ويضر بالسياسات الدفاعية لحلف الناتو.

2- دعم التيارات الكردية: تعتبر تركيا حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري امتدادًا لمنظمة العمال الكردستانية التي تصنفها تركيا كيانًا "إرهابيًّا"، لكن ثمة مواقف مغايرة للرئيس الأمريكي السادس والأربعين، والذي يُصنف على أنّه من أكثر السياسيين الأمريكيين الداعمين للقضية الكردية. وتجلت مظاهر الدعم في خطابه الشهير في عام 2002 في برلمان كردستان العراق خلال زيارته للإقليم، فقد عبر من خلاله عن تعاطفه مع القضية الكردية وتعهد بدعمه لها، ووصف كردستان العراق ببولندا الشرق الأوسط. ثم قال للشعب الكردي: "لن تكون الجبال صديقتكم الوحيدة".

بالإضافة إلى ذلك كان لــ"بايدن" مواقف متعاطفة مع الكرد في سوريا، حيث عارض العمليات العسكرية التي أطلقتها تركيا ضد وحدات حماية الشعب الكردية في أغسطس 2016 ويناير 2018. كما وصف الرئيس المنتخب في وقت سابق قرار "ترامب" بسحب القوات الأمريكية من سوريا قبيل عملية "نبع السلام" التي أطلقتها تركيا في أكتوبر 2019 بأنّه خيانة للكرد، ولقوات سوريا الديمقراطية، التي يشكل الكرد الغالبية العظمى فيها. بل إنّه رفض وصف تركيا للقوات الكردية في سوريا بالجماعة الإرهابية، واعتبرها قوات صديقة ساهمت مع التحالف الدولي في القضاء على تنظيم "داعش" في مدينة الرقة السورية.

في هذا السياق، يبدو الملف الكردي مرشحًا لأن يكون إحدى القضايا الخلافية في المرحلة المقبلة بين "أردوغان" و"بايدن"، فبينما يدعم الأول إقامة "حكم ذاتي" للوحدات الكردية شمال سوريا، يعارض الثاني الكيانات الكردية ويصفها بالإرهابية.

3- مناهضة تمدد أنقرة: يناهض "بايدن" خطط تركيا التوسعية في سوريا والعراق وشمال إفريقيا، كما اتهم "أردوغان" بتأجيج النزاع في القوقاز، وطالب في مطلع أكتوبر الماضي تركيا بالبقاء بعيدًا عن الصراع في ناغورنو كاراباخ، كما طالب "بايدن" في وقت سابق بضرورة استبعاد أنقرة من أي جهود دبلوماسية في الحرب الدائرة بين أرمينيا وأذربيجان، وهو ما دفع الناطق باسم الرئاسة التركية "إبراهيم قالن" لاتهام "بايدن" بــ"الاستسلام للوبي الأرميني".

في المقابل، أعلن الرئيس المنتخب في أكثر من مرة استياءه من عمليات التنقيب غير القانونية التي تقوم بها تركيا شرق المتوسط قبالة سواحل قبرص واليونان، وهو ما يثير قلق أنقرة، خاصة أن "نيكولاس بيرنز"، أحد أقرب المستشارين السياسيين لــ"بايدن"، يتوقع أن يوسع الأخير مساحات التعاون الاستراتيجي بين واشنطن وكل من قبرص واليونان، ويكشف عن ذلك مطالبة "بايدن" في 6 أكتوبر الماضي إدارة "ترامب" بالضغط على تركيا للامتناع عن ممارسة مزيد من الأعمال الاستفزازية والعدائية في منطقة المتوسط ضد اليونان.

4- انتقاد السياسات الداخلية: خلافًا لـ"ترامب" الذي أبدى إعجابه بقادة يحكمون بقبضة حديدية، ومن بينهم "أردوغان" الذي كان يصفه بأنه "صديق"؛ وبخ "بايدن" الممارسات السلطوية للرئيس "أردوغان" في الداخل التركي، وانتقد سعيه لتأميم المجال العام وتقييد الحريات. ففي مقابلة له مع صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية في ديسمبر 2019، أكد "بايدن" على ضرورة دعم المعارضة التركية حتى تتمكن من الإطاحة بـ"أردوغان" الذي وصفه بـ"المستبد"، مهددًا إياه بضرورة دفع ثمن سياساته التصادمية ومواقفه الاستفزازية. وكذلك يرفض "بايدن" تسليم الداعية التركي "فتح الله غولن" الذي يتهمه "أردوغان" بتدبير الانقلاب الفاشل في صيف 2016، وقد تمارس الإدارة الأمريكية الجديدة ضغوطًا سياسية على تركيا لإطلاق سراح موظفين أتراك يعملون في القنصلية الأمريكية بأنقرة، وتحتجزهم حكومة العدالة والتنمية لارتباطهم بـ"غولن"، كما فعل "ترامب" في إطلاق سراح القس "أندرو برونسون". ولا تقف اهتمامات "بايدن" بخصوص تركيا عند هذا الحد، فقد كان ضد قرار تحويل "آيا صوفيا" مسجدًا.

السيناريوهات المحتملة:

تطرح تكتيكات التعامل المحتملة للرئيس المنتخب "جو بايدن" مع تركيا ثلاثة سيناريوهات محتملة، يمكن بيانها على النحو التالي:

1- تصاعد التوتر: ينتظر العلاقة بين أنقرة و"بايدن" عدد من الملفات التي تحمل طابعًا خلافيًا، إذ يتبنى "بايدن" مواقف مناهضة لتركيا في شمال سوريا والعراق فضلًا عن موقفه الرافض للتحرشات التركية قبالة سواحل قبرص واليونان في شرق المتوسط، حيث أشار في تصريحات له قبيل الاقتراع الرئاسي إلى إمكانية التعاون مع حلفاء واشنطن لعزل تركيا في المتوسط بسبب مناوشاتها شرق المتوسط، وتدخلها في الشأن الليبي. كما أنه من الداعين لاعتماد مصطلح "الإبادة الجماعية" بحق الأرمن.

في هذا السياق، فإن العلاقات بين أنقرة وواشنطن قد تشهد تراجعًا في التفاهمات، وربما تتجه نحو مزيد من التأزم، مع تنامي نفوذ الحزب الديمقراطي في الكونجرس، إذ يبدو "بايدن" وقطاع واسع من الديمقراطيين بالإضافة إلى نخب جمهورية كانت تسأم سلوك "ترامب"، أكثر ميلًا للجم السلوكيات العدائية لتركيا في شمال سوريا، فضلًا عن أنها أكثر تعاطفًا مع اليونان وقبرص في شرق المتوسط، وأكثر اقتناعًا بضرورة فرض عقوبات على تركيا. على صعيد ذي شأن، فإن الرئيس المنتخب "جو" بدا أكثر توبيخًا للممارسات غير الديمقراطية التي ينتهجها "أردوغان" في الداخل، وبخاصة انتهاكات حرية الصحافة، وقانون وسائل التواصل الاجتماعي.

2- نهج براجماتي: على الرغم من تعارض التوجهات بين "أردوغان" و"بايدن" إلا أنه يتوقع أن يدفع النهج البراجماتي الإدارة الأمريكية الجديدة إلى عدم تصعيد حدة الخلاف إلى درجة غير مسبوقة، والعودة إلى موازنة المصالح بالنظر إلى المصالح المشتركة بين البلدين، ناهيك عن أن زيادة الاحتقان قد تدفع البلدين إلى تبني خيارات لا تتوافق مع حساباتهما، لا سيما في ظل الانخراط المكثف لهما في قضايا إقليمية تحظى بأولوية من جانبهما. ومن هنا، قد يسعى "أردوغان" و"بايدن" إلى إدارة القضايا الشائكة بينهما، من خلال توفير خيارات متعددة، وإنتاج بدائل توفر هامشًا لحرية الحركة والمناورة من دون الإفراط في تهميش تركيا، أو التفريط في قواعد أكثر صرامة تجاه السياسات التركية في مناطق النفوذ الأمريكي. 

ملامح السعي للتحايل على القضايا الخلافية مع إدارة "بايدن" المنتظرة، كشفت عنها تصريحات وزير الخارجية التركي في 5 نوفمبر الماضي، حيث قال: "بغض النظر عن المرشح الذي سيشغل المنصب في الولايات المتحدة، سنواصل نهجًا مخلصًا لتحسين علاقاتنا".

3- توثيق العلاقات: على الرغم من حالة الجدل حول مستقبل العلاقة بين أنقرة وواشنطن، والتي عززتها التوجهات العدائية للرئيس المنتخب "جو بايدن" في حملته الانتخابية تجاه تركيا، إلا أن ثمة احتمالًا بتوجه إدارة "بايدن" نحو حلحلة القضايا الخلافية مع أنقرة، وتعزيز مساحات التعاون، بالنظر إلى اعتبارات متنوعة، أولها أن تضييق الخناق على أنقرة قد يدفعها إلى تعزيز انعطافتها شرقًا تجاه روسيا التي يتوقع أن ينقلها "بايدن" إلى المركز الأول في قائمة الأعداء الأمريكية. ويعي الرئيس الأمريكي المنتخب أن أنقرة تمثل "موازنًا استراتيجيًّا" لمواجهة الدور المتزايد لموسكو في مناطق ذات حساسية للمصالح الأمريكية. وثانيها يرتبط برغبة "بايدن" في إعادة الاعتبار لحلف الناتو الذي تحظى فيه أنقرة بموقع متقدم، وإذا تحرك "بايدن" لتمكين الناتو فسيكون ثقل أنقرة حاسمًا في التضامن داخل الحلف، باعتبارها ثاني أكبر قوة عسكرية داخل الأطلسي. وراء ما سبق، تمتلك أنقرة موقعًا جيوسياسيًّا، يمنحها قدرة على تمديد نفوذها وتأثيراتها داخل أغلب الساحات المهمة بالشرق الأوسط، والبلقان، والقوقاز، والبحر الأسود، وآسيا الوسطى، وبالتالي لا يمكن إغفال تركيا في إدارة المصالح الأمريكية في هذه المناطق. أما الاعتبار الرابع فيعود إلى وجود قواعد عسكرية على الأراضي التركية، في الصدارة منها قاعدة "إنجرليك الجوية" وقاعدة "قونيا". 

هنا، يمكن القول إن تصريحات "بايدن" تجاه تركيا ربما أتت في سياق انتخابي، ولا تعبر عن رغبة في وصول العلاقات إلى حالة العداء، خاصة أن ثمة جملة من التفاهمات والمصالح لا تزال توجه بوصلة العلاقات الأمريكية مع أنقرة.

في الختام، يمكن القول إن هناك تحديات عديدة تواجه استمرار التفاهمات التركية-الأمريكية بعد فوز "بايدن"، وربما يتزايد تأثيرها مع تصاعد انتقادات "بايدن" للسلوك التركي خارجيًّا وداخليًّا، والتي قد تتحول إلى سمة رئيسية في التفاعلات المستقبلية بين أنقرة وواشنطن. ورغم أن براجماتية الرئيس الأمريكي المنتخب قد تدفع إدارته إلى انتهاج مرونة لاحتواء الخلافات مع تركيا، وضبط حدود التوتر بالنظر إلى المصالح المعقدة والمتشابكة في عدد معتبر من القضايا الحيوية؛ إلا أن القضايا الخلافية قد تنعكس بشكل مباشر على واقع ومستقبل العلاقة بين البلدين.