أخبار المركز
  • د. أحمد أمل يكتب: (تهدئة مؤقتة أم ممتدة؟ فرص وتحديات نجاح اتفاق إنهاء الخلاف الصومالي الإثيوبي برعاية تركيا)
  • سعيد عكاشة يكتب: (كوابح التصعيد: هل يصمد اتفاق وقف النار بين إسرائيل ولبنان بعد رحيل الأسد؟)
  • نشوى عبد النبي تكتب: (السفن التجارية "النووية": الجهود الصينية والكورية الجنوبية لتطوير سفن حاويات صديقة للبيئة)
  • د. أيمن سمير يكتب: (بين التوحد والتفكك: المسارات المُحتملة للانتقال السوري في مرحلة ما بعد الأسد)
  • د. رشا مصطفى عوض تكتب: (صعود قياسي: التأثيرات الاقتصادية لأجندة ترامب للعملات المشفرة في آسيا)

معادلة الثقة:

لماذا نجحت نيوزيلندا في مكافحة فيروس كورونا؟

09 يونيو، 2020


اختارت الدول منذ بداية جائحة "كورونا" مسارات مختلفة للاستجابة للفيروس ومواجهة انتشاره؛ ففي حين سارعت بعض الدول –وخاصة الآسيوية منها التي عانت في فترات سابقة من خبرة سارس– إلى اتخاذ إجراءات صارمة جدًّا في إغلاق حدودها وفرض الحظر الشامل منذ البداية، بل سبقت في تلك الإجراءات إعلان منظمة الصحة العالمية ذاتها بخطورة انتشار الفيروس؛ فإن استجابة بعض الدول الأخرى جاءت متأخرة، وهو ما عكسه نموذج كل من بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية في البداية.

وبعد مرور ما يقرب من أربعة أشهر على بداية الجائحة، وعلى الرغم من عدم التوصل إلى لقاح فعال وآمن للوقاية من الفيروس أو علاج يمكنه القضاء عليه نهائيًّا، فإن استراتيجيات الاستجابة التي اتبعتها بعض الدول مكنتها من تقديم نماذج ناجحة في احتواء موجة انتشار الفيروس بل والتوقف عن تسجيل حالات إصابة جديدة. ولعل من أبرز تلك النماذج هو النموذج الذي طرحته نيوزيلندا، التي قدمت تجربة متكاملة تضافرت فيها نجاحات القطاع الطبي مع استراتيجية الحكومة التي استندت فيها إلى الأدلة العلمية، وبناء جسور من الثقة والتواصل مع المواطنين، وهو ما انعكس في التزامهم بالإجراءات، والوصول إلى التسجيل الصفري للحالات مع بداية الأسبوع الثاني من شهر مايو الماضي. ومن ثم، يتناول المقال الحالي أهم ملامح خطة الاستجابة النيوزيلندية، ومؤشرات ذلك النجاح، وأخيرًا محاولة تقييم النموذج النيوزلندي مقارنةً بالدول الأخرى. 

مؤشرات احتواء "كورونا":

ليس ثمة شك بأن اتباع سياسة الإغلاق الشامل في البداية كان هو مفتاح نجاح نيوزيلندا؛ حيث ساهم بشكل كبير في تقليص عدد حالات الإصابة، ومن ثم انخفاض أعداد الوفيات، كما سمح لأنظمة إجراء الاختبارات وتتبع الحالات المصابة والمخالطة، بأداء أدوارها بفاعلية وبكفاءة أكبر؛ الأمر الذي أتاح لها الوصول إلى مرحلة استعادة كافة أنشطة الحياة اليومية مع الالتزام بإجراءات التباعد الاجتماعي والتدابير الصحية.

 بينما كانت البدائل الأخرى ستجعل الدولة عالقة بين جهود مواجهة الفيروس وعمليات الإغلاق والتخفيف. وتتمثل أهم مؤشرات نجاح النموذج النيوزلندي في التسجيل الصفري للحالات حيث آتت السياسة الانعزالية التي تبنتها نيوزلندا ثمارها من حيث تقليص عدد حالات الإصابة التي بلغت حتى بداية مايو نحو 1504 إصابات، بينما لم يتجاوز عدد الوفيات حاجز الـ20 حالة فقط، وهو ما يعني أنه تم القضاء على عملية تفشي وانتقال الفيروس في وقت قياسي، في ظل استمرار التسجيل الصفري للحالات منذ بداية الأسبوع الثاني من مايو. وتعد نيوزيلندا بذلك من أقل الدول من حيث معدل الوفيات الذي لا يتجاوز (1%)، وأعلاها متن حيث نسب التعافي التي بلغت نحو (98%). 

وقد أظهرت بيانات وخرائط Google أن النيوزيلنديين أظهروا درجة عالية من الالتزام في اتباع قواعد الإغلاق مع مستوى عالٍ من التغيير السلوكي؛ حيث انخفض النشاط بما يزيد عن (90%)؛ الأمر الذي كان له بالغ الأثر في توقف انتشار الفيروس وتقلص حالات الإصابة بعد 10 أيام فقط من تطبيق إجراءات الإغلاق. وفي السياق ذاته، أظهرت استطلاعات الرأي ثقة النيوزلنديين بخطة الاستجابة الحكومية؛ فوفقًا لاستطلاع تم إجراؤه في أوائل أبريل تبين أن (84٪) من النيوزيلنديين يوافقون على استجابة الحكومة للوباء، وهو أعلى بنسبة تقترب من (30%) من المتوسط في مجموعة السبع. 

وعلى الرغم من أن وسائل التواصل الاجتماعي قد نشرت بعض الإشاعات المضللة حول معدلات الوفيات، وحاولت إيصال رسائل متضاربة حول نمط انتشار الفيروس وأعداد الإصابات، فإن تلك الإشاعات لم يتم التعاطي معها من جانب المواطنين نتيجة لثقتهم المرتفعة بالحكومة، وارتفاع درجة الشفافية المستندة إلى الدلائل والبيانات العلمية.

خطة إدارة الأزمة:

بعيدًا عن الطرح التقليدي لنماذج التعامل مع الأوبئة، التي تركز على محاولة تأخير انتشار الفيروس، ثم احتوائه من خلال مجموعة من التدابير لتسوية منحنى الحالات وتقليص حالات الوفاة؛ فقد عمدت نيوزيلندا إلى اتباع نهج مختلف تمامًا من خلال التدخل المبكر لمواجهة انتشار الفيروس، وطرح منظومة متكاملة من الإجراءات الصارمة التي شملت إغلاق الحدود، وفرض سياسة انعزالية للإغلاق الشامل، بالإضافة إلى التوسع في إجراء الاختبارات، وتعقب وعزل الحالات المصابة، ومتابعة الحالات المخالطة. إلا أن عنصر تميز التجربة النيوزلندية تمثل بالأساس في الاتصال الفعال الذي أحدثته القيادة السياسية مع جمهور المواطنين؛ الأمر الذي رفع وعي المواطن والتزامه بالقواعد وثقته بخطة الحكومة، ومن ثم عُد كل ما سبق من مفاتيح النجاح الأساسية للنموذج النيوزيلندي في مواجهة الفيروس. ويمكن استعراض أهم ملامح تلك الإجراءات وما تم تحقيقه على النحو التالي:

1- الإغلاق الشامل: بدأت نيوزيلندا في فرض القيود على السفر ابتداءً من 3 فبراير؛ وذلك على الرغم من عدم تسجيل أي حالات إصابة بالفيروس في ذلك الوقت، ثم تم التصعيد لإغلاق جميع الحدود ومنافذ الدخول لغير المقيمين في 19 مارس مع السماح بعودة المواطنين والمقيمين وعزل أنفسهم للدخول في أسبوعين من الحجر الصحي الخاضع للإشراف. أما على الصعيد الداخلي، فقد اتبعت نيوزيلندا سياسة إغلاق أشد صرامةً؛ حيث قسمت مراحل الإغلاق في البلاد إلى أربعة مستويات وفقًا لتقييم المخاطر والإجراءات المتبعة، وتتدرج من الأقوى (الرابع) إلى الأقل (الأول). وبدأت في تنفيذ تلك السياسة بالمستوى الثالث في 23 مارس، ثم سرعان ما صعدت إلى المستوى الرابع بعد يومين؛ وذلك بعد تسجيل 102 حالة مؤكدة في الداخل. 

وقد شملت إجراءات المستوى الرابع إعلان حالة الطوارئ، وتنفيذ تدابير احتواء قوية، بما في ذلك إغلاق جميع الأعمال غير الضرورية، وإلغاء جميع الأحداث والتجمعات، وإغلاق المدارس، وإلغاء السفر الجوي الداخلي. كما طٌلب من السكان البقاء في منازلهم، إلا في حالات الضرورة؛ الأمر الذي استمر لأكثر من 4 أسابيع، قبل أن يتم التخفيف والانتقال إلى المستوى الثالث في 28 أبريل؛ حينما تم السماح لتجار التجزئة والمطاعم بإعادة الفتح على نطاق أقل، وإعادة فتح المدارس بسعة محدودة، كما تم السماح للعديد من الشركات بمواصلة نشاطها، ومن ثم عودة مليون نيوزيلندي إلى أعمالهم، واستئناف العمل في المواقع، مع وضع شروط الالتزام بتدابير الصحة والسلامة والتباعد الاجتماعي.

وقد حدا عدم تسجيل الحالات الجديدة، الحكومة إلى الانتقال إلى المستوى الثاني في 14 مايو؛ حينما تم رفع قيود الإغلاق والمحافظة على التباعد الاجتماعي في التجمعات العامة، كما أعيد فتح المدارس بالكامل في 18 مايو، وكذلك السماح بفتح الأعمال التجارية واستئناف السفر الداخلي، مع إبقاء الحدود مغلقة لغير النيوزلنديين، ثم من المتوقع النظر في إمكانية الانتقال إلى المستوى الأول في موعد أقصاه 22 يونيو.

2- الاختبارات الشاملة: تبنت نيوزيلندا منهج التوسع في إجراء الاختبارات وتعقب الحالات المخالطة؛ فمنذ 22 يناير تم اختبار أكثر من (150) ألف شخص في بلد لا يتجاوز عدد سكانه 5 ملايين نسمة. وقد ركزت الاختبارات على الذين يعانون من بعض الأعراض التي تتشابه مع كورونا، مع تتبع الحالات المخالطة. ثم تم التوسع في إجراء الاختبارات من خلال إنشاء مراكز الاختبارات المجتمعية (Covid-19 community-based testing centers)، مع إجراء الاختبارات لمجموعات محددة من السكان تعد أكثر عرضةً لخطر الإصابة بالفيروس، مثل دور رعاية المسنين، والعاملين في مجال الرعاية الصحية، كما تم إجراء عينات اختبار لمياه الصرف الصحي لرصد المناطق التي قد تشهد انتشارًا للفيروس والتركيز عليها. وقد أسفرت تلك الجهود عن إجراء نحو (281) ألف اختبار.

كما أن عدم اكتشاف حالات جديدة لمدة تجاوزت عشرة أيام، دفع العشرات من مراكز الاختبار المجتمعية إلى الإغلاق بنهاية مايو الماضي ( ) مع تفويض المجالس الصحية في المقاطعات لتحديد طريقة إجراء الاختبارات للمواطنين فيما بعد، التي يمكن أن تتم من خلال مراكز الاختبار المجتمعية أو التنسيق من خلال خدمات الهاتف المحمول أو وحدات الرعاية الصحية الأولية. 

3- توظيف التطبيقات التكنولوجية: طرحت نيوزيلندا في 20 مايو تطبيقًا إلكترونيًّا باسم (NZ Covid Tracer)؛ وذلك بهدف تحديد مواقع الحالات المصابة، وتعقُّب الحالات المخالطة لها، كما يمكنه تحديد مواعيد وأماكن إجراء الاختبارات، ومتابعة الحالات المصابة أثناء فترات العزل. وعلى الرغم من التأخر في طرحه، فقد شهد رواجًا بين المواطنين؛ حيث تم التسجيل من قبل (468) ألف مواطن، كما أن من المتوقع أن يسهم التطبيق في ضمان عدم تعرض البلاد لطفرة في الحالات مستقبلاً؛ حيث تقوم آلية عمل التطبيق على السماح للمستخدمين بمسح رمز الاستجابة السريعة في نقاط الدخول للأماكن المختلفة، ومن خلال ذلك الرمز يمكن تنبيه الحالات المخالطة إذا جاءت نتائج اختبار الشخص إيجابية في وقت لاحق. 

4- التواصل مع المواطنين: حيث بلورت رئيسة الوزراء النيوزيلندية "جاسيندا أرديرن" نموذجًا يعكس تضافر العلم مع القيادة، وتبني اللغة الحذرة والمطمئنة في الوقت ذاته في مخاطبة المواطنين؛ حيث استرشد الخطاب الرسمي بمبدأ عدم الوصم والاتحاد في مواجهة الفيروس. كما بدا منذ اللحظة الأولى لاتباع سياسة الإغلاق التي جاءت بناءً على توصيات عالم الأوبئة والصحة العامة "مايكل بيكر"، أنه سيتم اتخاذ الإجراءات المدعومة بنماذج السياسات القائمة على الأدلة للتغلب على الوباء. 

ومن ثم، قدمت نيوزيلندا دليلًا واقعيًّا على ميزة وجود مستويات عالية جدًّا من مساهمة الخبراء العلميين في عملية صنع السياسات، وهو الأمر الذي اعتمدت عليه رئيسة الوزراء في مخاطبة المواطنين؛ ما أكسبها ثقتهم. كما تم الإشادة بأرديرن أيضًا لقيامها بخفض أجرها بنسبة (20%)، بجانب كبار المسؤولين الحكوميين الآخرين.

5- الإجراءات المالية والاقتصادية: حيث أعلنت الحكومة عن حزم تدابير مالية تصل إلى ما مجموعه (62.1) مليار دولار نيوزيلندي، وهو ما يمثل (20.7% من الناتج المحلي الإجمالي)؛ وذلك حتى السنة المالية 2023-24، منها (20.5) مليار دولار نيوزيلندي سيتم صرفها بحلول نهاية يونيو. كما تم إنشاء صندوق الاستجابة والإنعاش الذي تبلغ قيمته (50) مليار دولار نيوزيلندي. وبالإضافة إلى ما سبق، تم توجيه تدابير مالية لأهداف محددة مثل تعزيز قدرات الرعاية الصحية مع إلغاء مؤقت للتعريفات الجمركية على جميع الواردات الطبية ومستلزمات النظافة اللازمة للاستجابة لفيروس كوفيد–19، والإنفاق الاجتماعي لحماية الفئات الأكثر احتياجًا، ودعم قطاع الطيران، ودعم أرباب العمل المتضررين لمدة محددة مع إحداث تغيير دائم في ضرائب الأعمال للمساعدة في المحافظة على التدفق النقدي داخل السوق.

 كما قدمت الحكومة النيوزيلندية قروضًا تصل إلى (100) ألف دولار نيوزيلندي للشركات الصغيرة، بالإضافة إلى مجموعة من التدابير الأخرى التي اتخذتها الحكومة بهدف تحقيق الاستقرار المالي.

إجراءات ما بعد "الجائحة": 

تستعد الحكومة النيوزيلندية بعد تمكنها من احتواء فيروس "كورونا" للقيام بعدد من الإجراءات التي تتمثل فيما يلي:

1- إعادة فتح الاقتصاد: تأثر الاقتصاد النيوزيلندي نتيجة جائحة "كوفيد–"19، وتدابير الإغلاق الشامل؛ حيث تضررت العديد من الصناعات الكبرى في نيوزيلندا، ومن أهمها السياحة، وذلك بصفة خاصة بسبب انخفاض عدد السياح الصينيين في الربع الأول من عام 2020 الذي عادة ما يكون موسم الذروة تزامنًا مع السنة الصينية الجديدة. فتوقف السياحة الدولية، أثر على نحو (5%) من الناتج المحلي الإجمالي لنيوزلندا، كما تضرر نحو (100) ألف شخص يعملون في ذلك المجال. وفي الوقت ذاته، أثر إغلاق الحدود على المزارعين ( )؛ حيث تأثرت حركة التصدير بينما كافح المصدرون لإيجاد مساحة على الطائرات القليلة التي ظلت تغادر البلاد؛ علمًا بأنه قبل الأزمة، كان يتم نقل نحو (80٪) من الشحن الجوي لنيوزيلندا على طائرات الركاب، كما أوضحت البيانات الأولية انخفاض الصادرات السلعية إلى الصين في الربع الأول من العام الحالي، التي تعد أكبر مستورد للأغذية من نيوزلندا.

إلا أن المنظومة المتكاملة لنجاح التجربة النيوزيلندية من خلال فاعلية احتواء الفيروس واستمرار جهود الحفاظ على الأرقام عند أدنى مستوى؛ أهَّلتها للاستعداد لإعادة فتح الاقتصاد شيئًا فشيئًا؛ حيث عززت نيوزيلندا مخزون اللوازم الطبية، وتجرى الاستعدادات لاستئناف السفر عبر بحر تاسمان دون الحجر الصحي الإلزامي؛ الأمر الذي من المتوقع أن يكتمل مع الانتقال إلى تدابير المستوى الأول في 22 يونيو.

2- عودة النشاط السياحي: في حين تبحث العديد من دول العالم كيفية استئناف نشاط السفر والسياحة؛ تستمر المباحثات الجارية بين كل من نيوزيلندا وأستراليا بخصوص إنشاء ممر للسفر بين البلدين بعد نجاحهما في احتواء المرض. وتُعرف "منطقة السفر الآمنة" باسم "فقاعة عابرة تاسمان". وتأتي أهمية تلك الخطوة نتيجة لحجم المساهمة في الدخل الأجنبي لنيوزيلندا؛ حيث يساهم بنحو الخُمس، كما شكل نحو (1.5) مليون أسترالي سافروا عبر الممر العام الماضي، ما يقرب من نصف السياح الذين زاروا نيوزيلندا، كما أن من المتوقع أن يتوصل عدد محدود من دول المحيط الهادئ التي لديها مخاطر متكافئة أو منخفضة إلى اتفاق لتمكين السفر بينها بتدابير تحكم محددة.

3- خطة "الموجة الثانية": في حين تخفف نيوزيلندا الآن قيود الإغلاق وتعيد فتح اقتصادها ببطء؛ تجري المناقشات حول كيفية فتح حدودها مع ضمان الحماية من موجة ثانية من انتشار الفيروس، خاصةً في ظل التحذيرات من أن موجة ثانية من الفيروس قد تصيب نيوزيلندا في الشتاء. وقد أسفرت المناقشات الأولية عن وضع مجموعة من المحددات للدول التي يمكن فتح الحدود معها؛ حيث تضمَّنت معدل انتشار الحالات النشطة في تلك الدول، ودرجة الثقة بالاختبارات والبيانات التي تجريها وتٌصدرها تلك الدول حول أعداد الإصابة ومعدلات التعافي، وكذلك معدل الانتشار، وأخيرًا معدل الثقة بتدابير الرقابة المتبعة. وأيضًا، من المقترحات التي يتم مناقشتها إمكانية تطبيق توليفة من الاختبارات على القادمين للدولة للتأكد من عدم إصابتهم بالفيروس؛ الأمر الذي من شأنه أن يؤدي إلى تقليل مخاطر استيراد الحالات، إلا أنه لا يوفر ضمانًا كاملاً، فضلاً عن التكلفة العالية.

تقييم النموذج النيوزيلندي:

قامت إحدى المجموعات الخاصة (Deep Knowledge Group)، التي تضم مجموعة من المنظمات التجارية وغير الربحية النشطة على العديد من الجبهات في المجتمع العلمي والطبي من خلال التخصص بعالم التكنولوجيا والتقاطعات التكنولوجية الصحية؛ بإعداد مؤشرات لتقييم الجهود التي قامت بها نحو (20) دولة حول العالم في مواجهة فيروس كوفيد–19. وتتمثل أهمية ذلك التقييم فيما يقدمه من تحليل شامل وكمي لاستراتيجيات التعامل مع الوباء العالمي من أجل استنباط أفضل التدابير الاستراتيجية للحد من الفيروس، وتحييد الآثار السلبية للجائحة حتى يتم القضاء عليها نهائيًّا. وقد تم تحليل أكثر من 130 متغيرًا نوعيًّا وكميًّا داخل تلك الدول، تم تطويرها وتجميعها في 6 مؤشرات، بما يمكن من خلاله وصف الوضع الصحي والاقتصادي لكل دولة بشكل شامل من حيث الاستقرار والمخاطر المطلقة والنسبية وهو ما يمكن استعراضه فيما يلي:

1- مؤشر الأمان (Safety Score): ويعد المؤشر الرئيسي الذي تنبثق منه 6 مؤشرات فرعية أخرى. وقد جاءت نيوزلندا في الترتيب التاسع وفقًا لذلك المؤشر؛ سبقتها كل من إسرائيل وألمانيا وسويسرا وسنغافورا واليابان والنمسا والصين وأستراليا. وهو ما يعني أن نيوزيلندا نجحت في تحسين النتائج الصحية والوضع الصحي عامةً لسكانها وسط انتشار جائحة كوفيد–19، وكذلك من حيث الإدارة الحالية والمستمرة للوباء، ورصده وتحييد آثاره السلبية عبر فترات زمنية أطول. أما فيما يخص المؤشرات الفرعية فيمكن تناولها على النحو التالي:

2- مؤشر كفاءة الحجر الصحي (Quarantine Efficiency): حيث يقيس المؤشر قدرة الدول على فرض تدابير الحجر الصحي في التوقيت المناسب وتقييم درجة فاعليتها، ووضع وإنفاذ معايير التباعد الاجتماعي، بما يسمح باحتواء أو تقييد انتشار الفيروس، وتجنب تشبع وانهيار النظم الصحية، لا سيما وحدات العناية الفائقة (ICUs)؛ هذا بالإضافة إلى إجراءات الدولة لدعم النشاط الاقتصادي. وقد تصدرت نيوزلندا ذلك المؤشر محتلة المرتبة الأولى من بين الـ(20) دولة التي يتم تحليل بياناتها.

3- مؤشر الكفاءة الحكومية في إدارة المخاطر (Government Efficiency of Risk Management): حيث يقيس المؤشر القدرة التنفيذية للمؤسسات السياسية وقادتها على وضع خطط طوارئ وطنية ملائمة، مع سرعة معالجة أوجه القصور والمخاطر التي تظهر لاحقًا. وتشمل العناصر الفرعية التي يعتمد عليها المؤشر، مستوى الاستقرار الاقتصادي والاستدامة والأمن العسكري وقدرات الدفاع، والمستوى العام للتأهب لمواجهة الوباء. ووفقًا لذلك المؤشر جاءت نيوزيلندا في الترتيب الخامس عشر.

4- مؤشر الرصد والكشف (Monitoring and Detection): جاءت نيوزيلندا في الترتيب الثاني عشر من حيث تقدير استخدامها للموارد التكنولوجية والإجرائية المتاحة لعمليات الرصد والترقب الوبائية ومستوى تنوع تلك التقنيات، ودرجة التركيز على استخدام التكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي لتحليل المخاطر أو رصد الحالات المصابة أو التشخيص.

5- مؤشر استعداد الرعاية الصحية (Healthcare Readiness): حيث يعكس المؤشر قدرة النظام الصحي على تحمل حالات الطوارئ الحرجة المتعلقة بفيروس كوفيد–19. وقد جاءت نيوزيلندا في الترتيب الثالث عشر بما يعني أن النظام الصحي لا يزال يحتاج المزيد من الجهد ليصبح أكثر تقدمًا من حيث الكفاءة والجودة ولتحقيق قوة الاستجابة في حالات الأوبئة.

6- مؤشر مرونة مقاومة الوباء (Regional Resiliency): وهنا جاءت نيوزيلندا في مرتبة متقدمة؛ حيث احتلت المرتبة السابعة نتيجة لسياسة الإغلاق الشامل التي اتبعتها في بداية انتشار الوباء، وهو ما رفع قدرتها على مقاومة الآثار الاقتصادية والصحية والإنسانية المتعددة للفيروس والاستجابة لها ومكافحتها، بل عزز أيضًا من قدرتها على التعافي بعد الوباء.

7- مؤشر درجة التأهب لحالات الطوارئ (Emergency Preparedness): جاءت نيوزيلندا في الترتيب الحادي عشر، وفقًا للمؤشر الذي يتناول مرونة المجتمع في التعامل مع الحالات الطارئة، وكذلك قدرات التعبئة لقوات الأمن والدفاع في الاستجابة لحالات الطوارئ المتعلقة بالأوبئة، مع أخذ تعرضهم السابق لمختلف تجارب الطوارئ المماثلة بعين الاعتبار، وكذلك ما إذا كان لديهم بالفعل خطط للطوارئ يمكن تطبيقها في سيناريوهات مماثلة.

وختامًا، يمكن القول إن نيوزيلندا قدمت تجربة في مواجهة الفيروس يتم الاستناد فيها إلى الدلائل والبيانات العلمية؛ حيث تضافرت عوامل العلم مع القيادة، وتبنى الخطاب الرسمي لغة التواصل المباشر مع المواطنين؛ ما خلق مناخًا من الطمأنينة وعزز الثقة المجتمعية بقدرة الحكومة على مواجهة الفيروس. وفي الوقت ذاته، يلفت العلماء الانتباه إلى أن الأمور تتغير أسرع من اللازم، وهو ما يستدعي توخي الحذر في إعادة فتح الحدود.