أخبار المركز
  • د. أيمن سمير يكتب: (بين التوحد والتفكك: المسارات المُحتملة للانتقال السوري في مرحلة ما بعد الأسد)
  • د. رشا مصطفى عوض تكتب: (صعود قياسي: التأثيرات الاقتصادية لأجندة ترامب للعملات المشفرة في آسيا)
  • إيمان الشعراوي تكتب: (الفجوة الرقمية: حدود استفادة إفريقيا من قمة فرنسا للذكاء الاصطناعي 2025)
  • حسين معلوم يكتب: (تفاؤل حذر: هل تشكل الانتخابات المحلية فرصة لحلحلة المسار الليبي؟)
  • أحمد عليبة يكتب: (هاجس الموصل: لماذا يخشى العراق من التصعيد الحالي في سوريا؟)

دوافع تهدئة واشنطن في أزمة المنطاد الصيني

18 فبراير، 2023


دخلت العلاقات الأمريكية الصينية في أزمة جديدة منذ إعلان وزارة الدفاع الأمريكية في بيان رسمي، في 3 فبراير 2023، عن اكتشاف منطاد صيني يحلق فوق الأجواء الأمريكية، واتهمت الصين باستخدامه لأغراض التجسس، بالرغم من أن بكين أعلنت أن هذا المنطاد يُستخدم في دراسات تتعلق بمجال الأرصاد الجوية وغيرها من الأبحاث، وأنه من الممكن أن يكون قد انحرف بسبب الرياح القوية ودخل المجال الجوي الأمريكي عن غير قصد، وأكدت الصين أنها "تلتزم دائماً بشكل صارم بالقانون الدولي.. ولا تنتهك أبداً الأراضي والمجال الجوي لدولة ذات سيادة". لكن واشنطن رفضت هذا الوصف، وأكد أحد مسؤوليها أن المنطاد "كان يراقب مواقع عسكرية حساسة داخل الولايات المتحدة".

وأسقطت الولايات المتحدة المنطاد الصيني بواسطة مقاتلاتها العسكرية، وهو ما دفع وزارة الخارجية الصينية إلى الإعلان عن "استيائها الشديد واحتجاجها على استخدام القوة من جانب الولايات المتحدة لإسقاط المنطاد"، وتأكيدها أنها "تحتفظ بحق اتخاذ المزيد من الردود الضرورية". كما أعلنت واشنطن عن تأجيل زيارة وزير خارجيتها، أنتوني بلينكن، إلى الصين والتي كانت مقررة في الفترة من 5 إلى 6 فبراير 2023، وكان يُفترض أن تتضمن لقاءً مع الرئيس الصيني، شي جين بينغ.

أبعاد التهدئة:

اتسمت إدارة الولايات المتحدة لأزمة المنطاد الصيني بقدر كبير من الهدوء وضبط النفس وعدم الرغبة في التصعيد مع بكين. ويمكن تفسير الإدارة الأمريكية المنضبطة لهذه الأزمة في ضوء عدد من الأسباب، أحدها عسكري، والآخر سياسي، والثالث استراتيجي، على النحو التالي:

1- البُعد العسكري: أدركت واشنطن أن القيمة المضافة التي يمكن أن يقدمها هذا المنطاد في مجال معلومات التجسس، تكاد تكون محدودة مقارنة بالأقمار الاصطناعية المتاحة للصين والتي تقوم بالتجسس بشكل دوري منتظم على الولايات المتحدة. وفي هذا الإطار، قررت السلطات الأمريكية عدم إسقاط المنطاد فور اكتشافه وسمحت له باستمرار التحليق في الأجواء الأمريكية حتى يتم إسقاطه بعيداً عن المناطق المأهولة بالسكان والتي قد تتضرر من بقايا الحطام، لكنها استفادت أيضاً من استمرار التحليق في دراسة إمكانات هذا المنطاد في مجال جمع المعلومات، وتأكدت أنها محدودة وبالتالي لا تستدعي التصعيد الكبير مع بكين.

2- السبب السياسي: يتعلق بأن الصين أصبحت قضية سياسية وانتخابية أمريكية، وخاصة مع تمكن الحزب الجمهوري من السيطرة على الأغلبية في مجلس النواب بعد الانتخابات الأخيرة، وإعلان الرئيس السابق دونالد ترامب عن نيته الترشح في الانتخابات الرئاسة الأمريكية المقبلة المقررة في عام 2024، واستعداد الرئيس جو بايدن للقيام بهذه الخطوة أيضاً. لذا قامت الإدارة الأمريكية بإسقاط المنطاد حتى تتجنب أي انتقادات من الحزب الجمهوري المنافس بأن إدارة بايدن ضعيفة في مواجهة التهديدات الصينية، كما أعلنت عن تأجيل زيارة وزير الخارجية بلينكن إلى بكين، لكن من ناحية أخرى لم تسع إلى المزيد من التصعيد بهدف الحد من الجدل السياسي والانتخابي حول الموضوع.

ولاحتواء أي هجوم من الجمهوريين، أعلن المتحدث باسم مجلس الأمن القومي، جون كيربي، أنه يعتقد أن منطاد التجسس الصيني الأخير هو خامس منطاد مراقبة صيني يتم اكتشافه فوق الولايات المتحدة منذ عام 2017، وأن ثلاثة من تلك المناطيد قد عبرت إلى الأراضي الأمريكية خلال إدارة الرئيس السابق ترامب، وكان هناك واحد سابق خلال رئاسة بايدن، لكن كلاً من تلك التوغلات "كانت لفترات قصيرة من الزمن" مقارنة بالمنطاد الأخير.

3- البُعد الاستراتيجي: يتصل هذا البعد بتبني الولايات المتحدة، وفي ضوء تطورات الأزمة الأوكرانية الحالية، لنمط جديد في العلاقة مع الصين، يستبعد التعامل معها طوال الوقت استناداً إلى الأفكار المتعلقة باستراتيجية "التنافس مع القوى الكبرى" ونشوب أجواء حرب باردة جديدة مع الصين؛ وذلك خوفاً من أن يؤدي ذلك إلى ظهور تحالف روسي صيني في مواجهة واشنطن، والذي اتضحت إرهاصاته في البيان الصادر عن القمة الصينية الروسية، التي جمعت الرئيس الصيني شي جين بينغ ونظيره الروسي فلاديمير بوتين في 4 فبراير 2022. 

فقد أشارت الفقرة الأولى، في بيان هذه القمة، إلى رؤية مشتركة بين بكين وموسكو، تؤكد رفضهما للقيادة الأمريكية المنفردة للعالم أو الأُحادية القطبية، وأن الولايات المتحدة لم يعد لديها القدرة على القيادة العالمية. ودعا البيان بشكل صريح للسعي إلى تعددية قطبية حقيقية. ومن أهم ما جاء فيه أيضاً ما يتعلق بمعارضة الصين وروسيا للمزيد من توسيع حلف شمال الأطلسي "الناتو"، ودعوتهما الحلف إلى التخلي عن المقاربة الأيديولوجية للحرب الباردة. علاوة على دعم الصين للمقترحات التي طرحتها روسيا لإنشاء ضمانات أمنية ملزمة طويلة الأجل في أوروبا. ومن ثم تسعى الولايات المتحدة للتهدئة مع الصين في عدد من القضايا لتجنب تحولها بشكل أكبر تجاه روسيا.


نهج متوازن:

بناءً على ذلك، تسعى إدارة بايدن إلى تبني نمط جديد في العلاقة مع الصين، يمثل "خليطاً من التعاون والتنافس"، أو مزيجاً بين "مباراة صفرية" يكون فيها مكسب أحد الأطراف خسارة للآخر، ومباراة أخرى "إيجابية" يسعى فيها الطرفان لتحقيق مكاسب مشتركة.

وفي هذا الإطار، تركز الولايات المتحدة على استمرار التنافس التكنولوجي مع الصين، والانفصال عنها في مجالات التكنولوجيا المتقدمة، حيث تتخوف واشنطن من أن الاستثمارات الصينية في التكنولوجيا المتقدمة قد تقضي على الميزة النسبية الأمريكية في المنتجات المرتبطة بهذه التكنولوجيا وعلى أسواق الصادرات لها، بالإضافة إلى التخوف من أن التقدم الصيني في مجال تكنولوجيا الجيل الخامس للاتصالات وسعي دول العالم للحصول على هذه التكنولوجيا سوف يعطي بكين ميزة استراتيجية كبرى في مجال الحصول على المعلومات، وكذلك التخوف من التقدم الصيني في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي وتطبيقاتها المدنية والعسكرية.  

وأصدرت الولايات المتحدة، في أكتوبر 2022، مجموعة من القواعد الجديدة، قالت إنها ستمنع الشركات الأمريكية من بيع رقائق إلكترونية معينة تسُتخدم في تطوير الحوسبة الفائقة والذكاء الاصطناعي للشركات الصينية، كما تستهدف القيود أيضاً حظر المبيعات من الشركات الأجنبية التي تستخدم معدات وتكنولوجيا أمريكية. 

لكن من ناحية أخرى، تتبنى الولايات المتحدة نهجاً تعاونياً مع الصين في عدد من القضايا، منها تلك المتعلقة بالتغيرات المناخية. فعندما قام الرئيس جو بايدن بتعيين وزير الخارجية الأسبق، جون كيري، مبعوثاً رئاسياً خاصاً للمناخ في 24 نوفمبر 2020، ذكر كيري أنه يتوقع العمل مع الصين بشأن تغير المناخ، وعندما سُئل عما إذا كان بإمكانه التعاون مع بكين بشأن قضايا المناخ حيث يتنافس البلدان في قضايا أخرى، تبنى كيري نهجاً واقعياً، وقال: "لقد كنا شركاء في المناخ فيما تنافسنا معها في أشياء أخرى". 

وجاءت الخطوة الأكبر للتوافق الأمريكي الصيني بشأن التعاون المناخي، أثناء قمة المناخ "كوب 26" في غلاسكو باسكتلندا في نوفمبر 2021، حيث صدر عن البلدين "إعلان مشترك" أثناء القمة، تعهدا فيه بتكثيف تعاونهما في قضايا التغير المناخي. وبينما أدت زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي السابقة، نانسي بيلوسي، لتايوان في أغسطس 2022، إلى إعلان وزارة الخارجية الصينية تعليق المحادثات مع واشنطن بشأن تغير المناخ؛ أعادت قمة المناخ "كوب 27" التي عُقدت بمدينة بشرم الشيخ في نوفمبر 2022، قضايا البيئة لساحة التعاون بين واشنطن وبكين، حيث أعلن البلدان عن عودة الحوار والتعاون بشأن قضايا التغير المناخي.

كما تمثل قضية تايوان، أيضاً، نموذجاً لنهج إدارة بايدن في عدم التصعيد مع الصين، حيث تعاملت الولايات المتحدة بشكل هادئ مع المناورات العسكرية التي قامت بها بكين في محيط تايوان عقب زيارة بيلوسي العام الماضي. وقال الرئيس بايدن للصحفيين، يوم 8 أغسطس 2022: "أشعر بالقلق من أنهم يتحركون بقدر ما يتحركون، لكنني لا أعتقد أنهم سيفعلون أي شيء أكثر مما يفعلون".

الخلاصة أن إدارة الولايات المتحدة لأزمة المنطاد الصيني تعد استمراراً للنهج القائم على التهدئة وعدم التصعيد والابتعاد عن سياسة حافة الهاوية مع بكين، كما تأتي في إطار الاقتناع الأمريكي بأهمية الحفاظ على مساحة من التعاون بين الولايات المتحدة والصين في عدد من القضايا في ظل استمرار تنافسهما في قضايا أخرى.