أخبار المركز
  • د. إبراهيم فوزي يكتب: (المعضلة الروسية: المسارات المُحتملة لأزمات الانتخابات في جورجيا ورومانيا)
  • إسلام المنسي يكتب: (جدل الوساطة: هل تخلت سويسرا عن حيادها في قضايا الشرق الأوسط؟)
  • صدور العدد 38 من دورية "اتجاهات الأحداث"
  • د. إيهاب خليفة يكتب: (الروبوتات البشرية.. عندما تتجاوز الآلة حدود البرمجة)
  • د. فاطمة الزهراء عبدالفتاح تكتب: (اختراق الهزلية: كيف يحدّ المحتوى الإبداعي من "تعفن الدماغ" في "السوشيال ميديا"؟)

ما بعد "كورونا":

هل تصبح المكسيك بديلاً للصين في التصنيع العالمي؟

22 مارس، 2020


كان انتشار فيروس كورونا المستجد، في نظر الكثيرين، بمثابة لحظة كاشفة عن مخاطر المبالغة في الاعتماد على الصين كمركز للتصنيع العالمي، خاصة مع عظم التحديات التي تواجهها الشركات الدولية العاملة هناك، من إغلاق المصانع إلى توقف خطوط الإنتاج، الأمر الذي دفع بعض الشركات الدولية إلى التفكير في تحويل بعض أو كل أنشطتها من الصين إلى بلدانها الأصلية أو بعض الدول الأخرى.

وكانت المكسيك في مقدمة بلدان العالم المرشحة لأن تكون بديلًا للصين، أو ما يُعرف بـ"الصين الجديدة" New China، الأمر الذي يُثير العديد من التساؤلات حول الفرص والمزايا التي تؤهلها للعب هذا الدور، وكذلك أبرز العقبات والقيود التي ربما تحول دون أن تصبح المكسيك مركزًا صناعيًّا عالميًّا بديلًا للصين.

فرص  اقتصادية:

طُرحت المكسيك باعتبارها مركزًا محتملًا للتصنيع العالمي في أكثر من مناسبة؛ فمع تصاعد وتيرة الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، وفرض الولايات المتحدة تعريفات جمركية كبيرة على الصادرات الصينية، طالب الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" في 23 أغسطس 2019، الشركات الأمريكية بـ"البدء فورًا في البحث عن بديل للصين"، وبناء المزيد من المصانع في الولايات المتحدة.

وقد أعلنت بعض الشركات الأمريكية بالفعل عن وجود خطط لديها لتنويع سلاسل التوريد الخاصة بها، والبحث عن بدائل للصين "China Alternatives"، وكان من بينها المكسيك. ووفقًا لإحصاءات منظمة الأمم المتحدة، صدرت المكسيك بضائع إضافية بقيمة 3.5 مليارات دولار أمريكي منذ بدء الحرب التجارية في صيف عام 2018، خاصة مع شحن المكسيك للمزيد من الصادرات إلى جارتها في أمريكا الشمالية، لتكون بذلك من أكبر المستفيدين من الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين. 

ومع تفشي فيروس كورونا، صرح "ويلبور روس"، وزير التجارة الأمريكي: "أعتقد أن الفيروس سيساعد في الإسراع بعودة الوظائف إلى أمريكا الشمالية، البعض إلى الولايات المتحدة والبعض الآخر إلى المكسيك أيضًا"، وأضاف: "الفيروس يضع أمام الشركات عاملًا آخر يتعين أخذه في الاعتبار عند مراجعتهم لسلاسل الإمداد الخاصة بهم". 

ويعود ذلك لما تسبب فيه الفيروس من اضطراب هائل وربما طويل الأمد لسلاسل الإمداد العالمية، الأمر الذي ساهم في توجيه نظر المستثمرين الأجانب مرة أخرى للمكسيك، باعتبارها بديلًا محتملًا للصين، نظرًا لما لديها من مزايا عديدة كمنصة عالمية للتصنيع والتصدير، مقارنة بخيارات العمالة الرخيصة في منطقة جنوب شرق آسيا، ومن بين تلك المزايا:

1- القرب من الولايات المتحدة: المكسيك هي الجارة الجنوبية للولايات المتحدة، وتمتد الحدود بين البلدين 1954 ميلًا (3145 كيلومترًا) من سان دييغو إلى خليج المكسيك. وموقع المكسيك هو أقرب بنحو 46 مرة إلى لوس أنجلوس مقارنة بالصين.

ويُتيح القرب الجغرافي من جارتها الشمالية، للشركات العاملة في المكسيك، إمكانية الوصول المباشر إلى سوق الولايات المتحدة، أكبر سوق استهلاكي في العالم، وذلك عبر 65 مطارًا دوليًّا، وعدة آلاف من الأميال من الطرق السريعة والسكك الحديدية والعديد من موانئ المياه العميقة المستخدمة في نقل المواد الخام والمنتجات النهائية لجميع أنحاء أمريكا اللاتينية والأسواق الرئيسية في أمريكا الشمالية.

وجميعها عوامل تُسهم في تقليل الوقت المستغرق في نقل البضائع، حيث يستغرق شحن حاوية من المكسيك إلى نيويورك 5 أيام، مقارنة بـ40 يومًا من شنغهاي. وكذلك تخفيض تكاليف الشحن، حيث إن شحن حاوية تبلغ 40 قدمًا من الصين قد يكلف حوالي 7000 دولار، بينما سيتكلف 2800 دولار فقط من المكسيك. وهو ما أدى إلى زيادة حجم التبادل التجاري في السلع والخدمات بين الولايات المتحدة والمكسيك إلى 614.5 مليار دولار أمريكي في عام 2019.

2- اتفاقات للتجارة الحرة: تُعتبر اتفاقيات التجارة الحرة التي تسمح للمصنعين في المكسيك بالوصول بحرية إلى العديد من دول العالم، سببًا مهمًّا لتدفق المستثمرين الأجانب والمصنعين إليها، حيث بإمكان الشركات العاملة في المكسيك الاستفادة بشكل كامل من الصادرات المعفاة من الرسوم الجمركية إلى الولايات المتحدة.

والمكسيك لديها 12 اتفاقية تجارة حرة مع ما يقُرب من 50 دولة حول العالم، كان أحدثها: اتفاقية الولايات المتحدة والمكسيك وكندا (USMCA)، وكذلك الاتفاق الشامل والتقدمي للشراكة عبر المحيط الهادئ (CPTPP) الذي يُتيح للمصنعين والموردين الوصول بدون تعريفة جمركية إلى 11 دولة في جميع أنحاء آسيا والمحيط الهادئ (كندا، أستراليا، بروناي، تشيلي، اليابان، ماليزيا، المكسيك، نيوزيلندا، بيرو، سنغافورة، فيتنام)، مما يجعل المكسيك واحدة من أكثر دول العالم انفتاحًا أمام حركة التجارة الدولية.

3-  قاعدة صناعية قوية: على مدار السنوات الأربعين الماضية، تحولت المكسيك من اقتصاد يُهيمن عليه النفط والسلع الأخرى إلى آخر أكثر تنوعًا، وأضحت قوة تصنيع رئيسية، حيث تتجاوز قيمة صادراتها من المنتجات الإلكترونية 80 مليار دولار سنويًا، والتي تتركز في قطع غيار السيارات والآلات وأجهزة التلفزيون والكمبيوتر والهواتف المحمولة، التي يتجه معظمها إلى الولايات المتحدة، إلى جانب البرازيل وكندا وألمانيا.

وحظيت المكسيك باهتمام خاص من قبل شركات الطيران والأجهزة الطبية وتلك العاملة في مجال تصنيع قطع غيار السيارات والتكنولوجيا، حيث تحتل المركز السابع كأكبر منتج للسيارات في العالم، كما تجاوزت اليابان مؤخرًا باعتبارها ثاني أكبر مصدر لقطع غيار السيارات إلى الولايات المتحدة.

4- عمالة منخفضة الأجر: ضاعفت المكسيك من المزايا التي تمتلكها، من خلال ما يتوافر لديها من قوة عاملة ماهرة، حيث يتخرج من جامعاتها سنويًّا عشرات الآلاف من الفنيين والمهندسين، لتكون الدولة الثامنة عالميًا من حيث شهادات الهندسة, المتخصصة في قطاعات الطيران والفضاء والإلكترونيات والأجهزة الطبية والسيارات وقطع الغيار والتكنولوجيا النظيفة.

ومع توافر القوة العاملة الماهرة، ظلت الأجور منخفضة نسبيًّا، حيث تقل بشكل كبير عن مثيلاتها في الولايات المتحدة وأقل بنسبة 14.6% عن الصين. ويبلغ متوسط الأجور في المكسيك 2.50 دولار / الساعة. ومع الأخذ في الاعتبار التكاليف اللوجستية المنخفضة، وانخفاض تكاليف الطاقة والإيجارات، فإن المكسيك تتفوق على الصين في انخفاض التكاليف الإجمالية للتصنيع.

ورغم ظهور فيتنام والهند كخيارين بديلين للصين؛ إلا أن فيتنام تعاني من نقصٍ كبير في الأيدي العاملة، مما يتسبب في تأخير عملية الإنتاج. أما الهند، التي تمتلك القوة البشرية، فإنها تفتقر إلى المهارات المطلوبة للتصنيع.

5- امتيازات متنوعة للمستثمرين: منذ الأول من يناير 2019، تم تخفيض الضرائب في 43 مدينة  مكسيكية، حيث خُفضت ضريبة القيمة المضافة من 16% إلى 8%، وكذلك ضريبة الشركات من 30% إلى 20%، مما ساهم في تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى البلاد، والتي بلغت 31.6 مليار دولار.

وبالإضافة إلى الامتيازات الضريبية التي تتمتع بها الشركات العاملة في المكسيك، هناك نظام قوي لحماية حقوق الملكية الفكرية وإنفاذها، حيث تمت صياغة قوانين الملكية الفكرية وفقًا للمعايير الدولية التي وضعتها المنظمة العالمية للملكية الفكرية (WIPO)، مما جعل لدى البلاد أحكامًا قانونية مماثلة لحماية حقوق الملكية الفكرية في الولايات المتحدة.

قيود وتحديات:

في حين يتوافر لدى المكسيك العديد من المزايا التي تؤهلها لأن تكون بديلًا للصين كمركز للتصنيع العالمي، إلا أنها لا تزال تواجه بعض القيود التي ربما تعرقل قيامها بهذا الدور على الوجه الأمثل، ومنها:

1- الاعتماد الكبير على الصين: من الصعب أن تتمكن المكسيك من تعويض غياب التنين الصيني عن سوق سلاسل الإمداد، نظرًا لارتفاع نسبة وارداتها من الصين من المواد الخام والمنتجات التي تدخل في الصناعة، والتي بلغت 66 مليار دولار عام 2019، وهو ما تسبب في تعطل أنشطة العديد من الشركات المكسيكية التي تعتمد على مصانع صينية في تصنيع أجزاء من منتجاتها، وأصبحت مهددة بعدم القدرة على الإنتاج إن لم تواصل المصانع الصينية إمدادها بالمكونات التي تحتاجها.

وفي هذا الإطار، توقع مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) في 6 مارس 2020، أن تكون المكسيك ثامن أكثر الاقتصادات تضررًا بعد الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية وفيتنام وسنغافورة والمملكة المتحدة، مع تعطل عمليات التصنيع والتوريد من الصين جراء تفشي فيروس كورونا المستجد. ومن المرجح -وفقًا للتقرير- أن يكون قطاع السيارات المكسيكي الأكثر تضررًا مع انخفاض متوقع في صادرات هذا القطاع بمقدار 493 مليون دولار، يليه قطاع الآلات الكهربائية، مع انخفاض متوقع في الصادرات قدره 341 مليون دولار. 

وبافتراض قيام بعض الشركات الأمريكية بنقل عملياتها إلى المكسيك، فإنها ستظل تعتمد على الواردات المكسيكية من الصين، كما أنه من غير المرجّح أن تتخذ الشركات الدولية الكبرى قرارات استثمارية طويلة المدى بسبب انتشار فيروس كورونا فحسب، خاصة مع مخاوف تلك الشركات من أن يؤدي تخليها عن حصتها في السوق الصينية إلى استحواذ الشركات المنافسة على هذه الحصة، مما يعني أن الأمر برمته يتوقف على قدرة الصين على احتواء الفيروس خلال مدى زمني قصير.

2- انتشار العنف: تعاني المكسيك من انتشار العنف وعصابات الجريمة المنظمة، لا سيما حول المدن الحدودية. ومما يزيد من خطورة هذه المشكلة ما تظهره الميزانية الجديدة للبلاد من أن التعامل مع انعدام الأمن ليس أولوية حقيقية. فالإنفاق على حفظ الأمن لا يزال أقل من 1% من الناتج المحلي الإجمالي، أي أقل بكثير مما تنفقه دول أمريكا اللاتينية الأخرى. ويرتبط بمشكلة العنف تفشي الفساد، حيث احتلت البلاد المركز 130 من بين 180 دولة في مؤشر مدركات الفساد الصادر عن منظمة الشفافية الدولية لعام 2019.

3- نقابات عمالية قوية: تتميز المكسيك بوجود نقابات عمالية نشطة للغاية، تقوم من حين لآخر بتنظيم الإضرابات التي تهدد بإغلاق الطرق السريعة والسكك الحديدية لعدة شهور، مما يؤدي إلى تعطيل حركة نقل المواد الخام والبضائع من بعض الموانئ إلى التجمعات الصناعية في وسط وشمال المكسيك. 

4- بنية تحتية أقل تطورًا: تكشف مجموعة من السياسات التي قامت بها مؤخرًا حكومة الرئيس "أندريس مانويل لوبيز أوبرادور" أن بيئة المكسيك أصبحت أقل صداقة للأعمال مقارنة بفترات سابقة، حيث قلصت الحكومة الاستثمار في البنية التحتية التي يحتاجها المصنعون (والتي كانت الصين استثنائية للغاية في توفيرها)، وخفضت الميزانية المقترحة للطرق بنحو 45% مقارنة بسابقتها. كما ألغى الرئيس المكسيكي خطط إنشاء مطار عالمي كان يمكن أن ينقل ملايين البضائع والأشخاص.

5- خدمات أساسية غير كافية: لا تضمن سياسات الطاقة التي تنتهجها الحكومة حصول الشركات على ما يكفي من الكهرباء بتكلفة مناسبة، في ظل تكرار حالات انقطاع التيار الكهربائي عبر الولايات على طول الساحل الشرقي، وقيام الحكومة بإلغاء مزادات الطاقة المتجددة والتقليدية. إلى جانب المخاوف المتعلقة بملكية الأراضي والمرافق الأخرى في ظل قانون مصادرة الأصول الذي تم تمريره مؤخرًا، والذي يسمح للحكومة بمصادرة الممتلكات أثناء التعامل مع قضايا خطيرة تتعلق بالفساد والابتزاز والجريمة المنظمة، مما جعل من مسألة امتلاك وتشغيل شركة في المكسيك تحديًا خطيرًا.

6- ظروف عدم اليقين: تواجه المكسيك حالة من عدم اليقين، نظرًا لأن اتفاقية التجارة الحرة الجديدة مع الولايات المتحدة وكندا تتضمن العديد من البنود الصارمة بشأن حماية البيئة والأيدي العاملة، ومنها التزام المكسيك بزيادة أجور العمال في قطاع السيارات، مما يزيد من تكلفة العمالة فيها. إلى جانب وجود مخاوف قوية من الآثار السلبية لفيروس كورونا على اقتصاد المكسيك، التي سجلت 16 حالة إصابة مؤكدة حتى الآن، وهو ما دفع بنك المكسيك المركزي إلى التدخل مؤخرًا في سوق الصرف الأجنبي لدعم البيزو بعد أن انخفض إلى أدنى مستوياته على الإطلاق مدفوعًا بتراجع أسعار النفط العالمية والمخاوف بشأن فيروس كورونا.

ختاماً، يمكن القول إنه برغم تدني نسبة الشركات التي تخطط لنقل عملياتها إلى خارج الصين (13%)، وفقًا للاستطلاع السنوي الذي أجراه مجلس الأعمال الأمريكي الصيني في يونيو 2019، إلا أن هذه النسبة زادت بشكل ثابت من 10% عام 2018 و8% عام 2017، مما يعني أن الشركات في معظم الحالات لا تغلق مصانعها في الصين بالكامل، بل تنقل تدريجيًّا نسبة معينة من الإنتاج إلى خارج الصين.  وفي هذا السياق، تُعتبر المكسيك، كوجهة للاستثمار والتصنيع العالمي، خيارًا مثيرًا للاهتمام، ولم يعد بإمكان الشركات الكبرى تجاهلها، لكنها ليست بديلًا عن الصين على الأقل في الوقت الراهن. ومن أجل الاستفادة حقًّا من إمكاناتها، يتعين على الشركات الكبرى فهم تعقيدات البلد والفرص التي تتوافر لديها.