أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية
  • مُتاح عدد جديد من سلسلة "ملفات المستقبل" بعنوان: (هاريس أم ترامب؟ الانتخابات الأمريكية 2024.. القضايا والمسارات المُحتملة)
  • إبراهيم الغيطاني يكتب: (النموذج النمساوي: خيارات أوروبا بعد الانقطاع الوشيك للغاز الروسي عبر أوكرانيا)

العرب:

اختبار الردع: دوافع التهدئة بين إيران وباكستان بعد التصعيد العسكري المتبادل

28 يناير، 2024


شنت إيران هجوماً غير مسبوق بالصواريخ والطائرات المُسيّرة على منطقة سبزكوه بإقليم بلوشستان في باكستان، يوم 16 يناير 2024، بذريعة ملاحقة إرهابيين من “جيش العدل”، وذلك ضمن سلسلة هجمات وجهتها قبلها بيوم واحد لأهداف في كردستان العراق، وإدلب بسوريا، موضحة أن هذه الأهداف مرتبطة بجهاز الموساد الإسرائيلي.

وأثار الهجوم الإيراني على الأراضي الباكستانية تساؤلات عدة بشأن توقيته، وتداعياته على إسلام آباد التي لم تنتظر كثيراً للرد عليه، إذ سرعان ما صعدت الأمر دبلوماسياً باستدعاء سفيرها لدى إيران، وعدم السماح بعودة السفير الإيراني لديها، والذي تصادف وجوده في طهران، وإلغاء اجتماعات بين مسؤولين كبار من البلدين كان من المزمع عقدها خلال الأيام الماضية. وأعقبت ذلك برد عسكري طال قرية نائية في إقليم بلوشستان إيران، بذات الذريعة التي استخدمتها طهران وهي ملاحقة إرهابيين، ومهاجمة مقرات لـ”جيش تحرير بلوشستان”، و”جبهة تحرير بلوشستان” في إيران.

وجاءت هذه التطورات السريعة للأزمة في خضم واقع معقد تعيشه إيران وباكستان، وتشهده منطقة الشرق الأوسط ككل، في ضوء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وتوسع نطاقها ليشمل أذرع إيران الإقليمية المتمثلة في حزب الله اللبناني، والحوثيين في اليمن، فضلاً عن التوتر الذي يشهده البحر الأحمر، وهو ما آثار بدوره تخوفات من تصاعد الأزمة بين الدولتين الجارتين، وبالتالي فتح جبهات جديدة للصراع في منطقة الشرق الأوسط المأزومة بالأساس. وربما تراجعت مخاوف تصاعد تلك الأزمة بين إيران وباكستان بعد اتفاقهما، يوم 22 يناير الجاري، على عودة سفيري البلدين إلى مهامهما.

تصعيد مفاجئ

جاء قصف الحرس الثوري الإيراني، في 16 يناير الجاري، لأهداف اعتبرها معاقل لجماعة “جيش العدل” المعارضة المُصنفة في إيران بالإرهابية في الأراضي الباكستانية، على نحو مفاجئ ودون تنسيق مسبق مع الجانب الباكستاني، إذ تزامن القصف مع لقاء رئيس وزراء الباكستاني المؤقت أنوار الحق كاكر مع وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان على هامش اجتماع منتدى دافوس الأسبوع الماضي.

هذا الأمر الذي أدانته إسلام آباد وتحركت تجاهه دبلوماسياً على الفور، من خلال سحب سفيرها لدى طهران، ومنع عودة سفير إيران إلى إسلام آباد، والتحضير لرد عسكري وتنفيذه بعد يومين من الهجوم الإيراني، على ستة مواقع بإقليم بلوشستان في الداخل الإيراني بثلاث طائرات من دون طيار؛ وهي مواقع تتبع، حسب الرواية الباكستانية، عناصر من جماعتين تصنفهما إسلام آباد بالإرهابيتين، هما “جيش تحرير بلوشستان” و”جبهة تحرير بلوشستان”.

وعلى الرغم من اضطراب الحدود بين إيران وباكستان والممتدة لحوالي 900 كيلومتر نظراً لتجاورهما في إقليم سيستان بلوشستان المضطرب، حيث يقطن السكان البلوش وتنشط الحركات الانفصالية المسلحة الداعية لاستقلال الإقليم بحكم ذاتي؛ فإن هذا الهجوم المتبادل ربما لم يحدث بين البلدين من قبل، في ظل علمهما أن جماعات معارضة مسلحة لكليهما تتخذ من جبال سيستان بلوشستان مخبأً لها وتنطلق منها إلى حدود البلدين لتنفيذ عمليات ضد الحرس الثوري الإيراني وقوات الشرطة الباكستانية. وسبق أن تبادلت طهران وإسلام آباد التهم بشأن “التخاذل” في مواجهة هذه الجماعات المسلحة، في ظل غياب جهود أمنية مشتركة لمواجهة “جيش تحرير بلوشستان” و”جبهة تحرير بلوشستان” المعارضة الباكستانية، وجماعة “جيش العدل” المعارضة الإيرانية.

رسائل إيرانية

بالنظر إلى الهجمات الأخيرة المتبادلة بين إيران وباكستان، فإن هناك العديد من العوامل التي ربما دفعت طهران إلى اتخاذ هذه الخطوة التصعيدية في ذلك التوقيت، والتي أجبرت إسلام آباد على الرد بهجوم مماثل في القوة والمباغتة، قبل التهدئة لاحقاً بين الجانبين.

إذ تتمثل دوافع إيران في الآتي:

• استعراض القوة الإيرانية: اتهمت إيران خصمها إسرائيل بالوقوف وراء التفجيرات التي شهدتها البلاد مؤخراً، واستهداف مقرات للحرس الثوري في سوريا، التي أدت إلى مقتل القيادي بالحرس الثوري الإيراني رضي موسوي في 25 ديسمبر الماضي، فضلاً عن استمرار الغارات التي تشنها إسرائيل وكان أحدثها يوم 20 يناير الجاري على منزل بالعاصمة دمشق، وأدت إلى مقتل 5 مستشارين عسكريين تابعين للحرس الثوري، بينهم قائد استخبارات فيلق القدس صادق أوميد زاده، ناهيك عن دعم الحركات الكردية المعارضة في إقليم كردستان العراق، ومقتل اثنين من قادة ميليشيات “النجباء” التابعة للحشد الشعبي بالعراق من خلال ضربات أميركية لأهداف إيرانية.

وفي هذا الإطار، من المُرجح أن القيادة الإيرانية أرادت إرسال رسائل مزدوجة إلى الداخل الإيراني والخارج، مفادها أنها قادرة على الرد على الاستهدافات الإسرائيلية والأميركية المتكررة من خلال قصف مواقع تابعة لإسرائيل أو لجماعات متعاونة معها بالتزامن في سوريا وكردستان العراق وباكستان. أيضاً، في ظل اتهام طهران “جيش العدل” بالتعاون مع تل أبيب لشن هجمات في الداخل الإيراني، وهو الاتهام الذي سبق أن كشفت عنه إيران عقب اعتقالها زعيم حركة “جند الله”، عبدالمالك ريغي، وإعدامه عام 2010، إذ تُعد هذه الحركة النواة الأولى لحركة “جيش العدل” الحالية.

كما أرادت طهران من الهجوم على باكستان تحديداً إثبات قدرتها على فتح جبهات جديدة للمواجهة سواء مع حركات مسلحة مُعادية أو مع جارة بحجم باكستان التي تتهمها إيران بالتخاذل في قمع الحركات المسلحة المُعادية لطهران على حدودها.

فيما عزز تزامن الهجمات الإيرانية الثلاث على إدلب في سوريا وكردستان العراق وسيستان باكستان، فكرة أن يكون الدافع من ورائها هو استعراض القوة الإيرانية والقدرة على التحرك على أكثر من جبهة بنفسها بعيداً عن وكلائها في المنطقة.

• الرد على حادث كرمان: لا يمكن فصل الهجمات التي شنتها إيران على دول جوارها خلال الأيام الماضية عن التفجيرات التي شهدتها مدينة كرمان يوم 3 يناير الجاري في الذكري الرابعة لمقتل قائد فيلق القدس الجنرال قاسم سليماني؛ وهي الهجمات التي تبناها تنظيم داعش، واتهمت إيران إسرائيل بالوقوف وراءها، ولاسيما وأن مدينة كرمان تُعد ملاصقة لإقليم سيستان بلوشستان، الأمر الذي قد يعني تسلل بعض عناصر داعش من الحدود الباكستانية أو الأفغانية إلى داخل الأراضي الإيرانية ومن ثم القيام بالتفجيرات بالقرب من مرقد سليماني. وهذه كانت من أكثر الهجمات دموية في إيران، إذ نتج عنها مقتل ما يقرب من 100 شخص وإصابة العشرات.

ويمكن ترجيح أن هذا الدافع هو الذي حرك إيران نحو توجيه ضربة للحدود الباكستانية، استناداً إلى ما أشار إليه القائد السابق لتنظيم داعش خراسان عبدالرحيم مسلم دوست، في تغريده له على موقع إكس، من أن العناصر التي قامت بتنفيذ التفجيرات في كرمان قد تسللت إلى إيران عبر باكستان في 13 ديسمبر الماضي.

• الحد من هجمات “جيش العدل”: بالنظر إلى الطبيعة الجغرافية الوعرة لإقليم سيستان بلوشستان في إيران، فإنه يُعد أكثر الأقاليم اضطراباً بسبب احتماء الجماعات المعارضة المسلحة بجباله الحدودية. ومن بين هذه الجماعات، جماعة “جيش العدل” التي تستهدف بهجماتها قوات الحرس الثوري والقوات النظامية في الإقليم، ومنها الهجوم على مقر قيادة الشرطة في مدينة راسك، الذي أدى إلى مقتل 12 شرطياً في 15 ديسمبر الماضي، وبالتالي قد تمثل هذه الضربات الإيرانية في عمق الأراضي الباكستانية نوعاً من الردع للجماعات المسلحة في سيستان بلوشستان.

تتمثل دوافع باكستان في التصعيد الأسبوع الماضي مع إيران، في الآتي:

• قطع الطريق أمام إيران وضمان عدم تكرارها هجماتها: تدرك باكستان مدى حرص إيران على تأكيد نفوذها الإقليمي، وقدرتها على إدارة أكثر من ملف. ويبدو أن إسلام آباد قد قرأت ما أرادته طهران من استعراض قدرتها بضرب أهداف في الداخل الباكستاني، الأمر الذي وضع باكستان في حرج من أن يتم إدراجها ضمن الدول التي تتعرض لضربات إيرانية متتالية كما هو الحال مع العراق وسوريا، فكان الخيار الأقرب لها هو تنفيذ ضربة عسكرية نوعية لرد الاعتبار وإيصال رسالة إلى طهران تؤكد فيها إسلام آباد أن أي انتهاك لسيادتها سيُواجه بحسم.

كما ترى باكستان أن التغافل عما فعلته طهران سيؤدي إلى المزيد من التوغل الإيراني على حسابها. ويعتقد البعض أن تأخر رد باكستان العسكري ليومين جاء على خلفية رغبتها في التأكد من حساباتها للعملية التي باغتت بها الجانب الإيراني.

• تأكيد أن عدم الاستقرار في باكستان لم يؤثر في قدرتها العسكرية: في ظل ما تعانيه باكستان من أزمات سياسية واقتصادية متتالية ومتصاعدة قبيل الانتخابات العامة المقرر إجراؤها في الأسبوع الأخير من شهر يناير الجاري، وجدت إسلام آباد نفسها أمام خيار صعب عقب استهداف أراضيها من قِبل إيران، فإما أن تنتهج نهجاً عسكرياً للتعامل مع الأزمة، وبالتالي المخاطرة بفتح جبهة نزاع جديدة في ظل أوضاع داخلية صعبة، أو أن تكتفي بالتعامل الدبلوماسي مع الأزمة وهو خيار لا يتناسب مع قدرات باكستان العسكرية، ليس لأنها دولة نووية فقط، وإنما أيضاً لتصنيف جيشها في المرتبة التاسعة عالمياً عام 2024، وفقاً لموقع “غلوبال فاير باور”.

• توجيه رسالة تحذيرية للتنظيمات المُعادية: تدرك باكستان أن خطوة إيران المتمثلة في استهداف أراضيها دون رد كانت ستؤدي إلى تجرؤ الحركات المسلحة المعارضة عليها، ولاسيما مع تصاعد عمليات هذه الحركات في الداخل الباكستاني، مستفيدة من حالة السيولة الأمنية والسياسية في البلاد.

تهدئة سريعة

أعقبت الهجمات العسكرية المتبادلة بين إيران وباكستان تصريحات سياسية تؤكد احترام كل منهما لسيادة الآخر على أراضيه، وهو تصريح لا يتوافق مع تدخل عسكري من دون تنسيق، قام به طرفا الأزمة، لكنه في الوقت ذاته حمل تلميحات بعدم وجود رغبة في التصعيد، إذ وصفت وزارة الخارجية الباكستانية في بيانها إيران بأنها “دولة شقيقة”، وشددت على ضرورة “إيجاد حلول مشتركة”. كما وصف وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان باكستان بأنها “دولة صديقة”.

وبالرغم من أن بيان الجيش الباكستاني جاء أكثر مواكبة لحجم الخطوة الإيرانية بإعلانه يوم 18 يناير الجاري “أنه في حالة تأهب قصوى، وأن أيّ مغامرة غير محسوبة من جانب إيران سيتم التصدي لها بقوة”، تضمن بيان الخارجية الباكستانية عقب الرد العسكري الباكستاني عبارة تُعد مفتاحاً لحل الأزمة من جانب إيران، وهي “نريد علاقات ودية مع إيران لكن لا تنازل عن حماية أمننا القومي”.

ومن المُرجح أن إيران التقطت طرف خيط حل الأزمة ودياً من نبرة الخطاب الباكستاني الساعي للتهدئة، إذ أقدمت طهران على التوصل لتفاهم مع إسلام آباد من خلال اتصال هاتفي بين وزيري خارجية البلدين، أعلنت باكستان عقبه يوم 19 يناير الجاري أنها اتفقت مع إيران على تهدئة التوترات، وتعزيز التعاون على مستوى العمل والتنسيق بشأن مكافحة الإرهاب، مع تأكيد قدرة البلدين على التغلب سوياً على الخلافات البسيطة عبر الحوار والدبلوماسية.

ثم صدر عن الخارجية الباكستانية، يوم 22 يناير الجاري، بيان أوضحت خلاله أن وزيرها جليل عباس جيلاني أجرى مباحثات هاتفية مع نظيره الإيراني، عبداللهيان، اتفقت بعده إسلام آباد وطهران على إمكانية عودة سفيري البلدين إلى مهامهما في 26 يناير الجاري. ولفت البيان إلى أن عبداللهيان سيزور باكستان يوم 29 يناير تلبية لدعوة نظيره الباكستاني.

وبالرغم من أن عامل المباغتة الذي استخدمته باكستان قد وضع القدرات الردعية الإيرانية في حرج شديد في الداخل والخارج، مع نجاح الطائرات المُسيّرة الباكستانية في قصف أهدافها والعودة مرة أخرى إلى نقطة انطلاقها في باكستان دون اعتراض مضادات الطائرات الإيرانية لها، فإن ثمة تقليلاً من خطورة الخطوة الباكستانية قد ساد وسائل الإعلام الإيرانية الرسمية، والذي اتضح أنه في نهاية الأمر كان تمهيداً لمصالحة أقدمت عليها إيران مع الجانب الباكستاني، في أعقاب تخوفات إقليمية ودولية عدة من تطور الأزمة وتصاعدها بين الجانبين، ودعوة العديد من دول الجوار الطرفين لضبط النفس، وعرض التوسط بينهما لحل هذه الأزمة، جاء في مقدمتها عرض الصين السريع للتوسط، أعقبه عرض تركي مماثل.

وقد جاءت خطوة التهدئة من الجانبين الإيراني والباكستاني، مدفوعة بثلاثة عوامل أساسية، هي كالتالي:

• إدراك طهران وإسلام آباد خطورة الانزلاق في نزاع عسكري غير محسوب، في ظل ما يعتري داخل البلدين من أزمات اقتصادية وسياسية، لا تحتمل عواقب الانخراط في صراع مسلح جديد.

• تحقيق كلا الطرفين مراده من الهجوم العسكري الذي استهدف به الآخر، وأن كلاً منهما أوصل من خلال هجومه ما يريد من رسائل.

• وجود مصالح بين البلدين يجب الحرص عليها وتجنب الخلافات التاريخية بينهما، وعلى رأس تلك المصالح أمن الحدود، ولاسيما أن الطرفين لم يبذلا جهداً ملحوظاً في تنسيق الجهود بينهما للتوصل إلى صيغة يمكن تنفيذها لضمان حدود آمنة بينهما وإخلائها من العناصر الانفصالية والمعارضة المسلحة المُعادية لهما.

إن إيران بخطوتها التصعيدية تجاه باكستان الأسبوع الماضي قد وضعت نفسها أمام اختبار سياسي وعسكري كبير، ربما فاق توقعاتها وحساباتها، مما دفع البعض للاعتقاد بأن طهران قد ارتكبت خطأً إستراتيجياً حاولت تلافي عواقبه بجنوحها بعد ذلك إلى التهدئة، والاكتفاء بالتنديد بالرد الباكستاني العسكري داخل أراضيها، وهو ما يُستبعد معه إلى حد كبير أن تتجدد الأزمة عسكرياً، وإن كان من المُرجح أن تلقي بظلالها على عدم الثقة بين البلدين.

*رانيا مكرم

*خبيرة بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

*لينك المقال في العرب*