أخبار المركز
  • أسماء الخولي تكتب: (حمائية ترامب: لماذا تتحول الصين نحو سياسة نقدية "متساهلة" في 2025؟)
  • بهاء محمود يكتب: (ضغوط ترامب: كيف يُعمق عدم استقرار حكومتي ألمانيا وفرنسا المأزق الأوروبي؟)
  • د. أحمد أمل يكتب: (تهدئة مؤقتة أم ممتدة؟ فرص وتحديات نجاح اتفاق إنهاء الخلاف الصومالي الإثيوبي برعاية تركيا)
  • سعيد عكاشة يكتب: (كوابح التصعيد: هل يصمد اتفاق وقف النار بين إسرائيل ولبنان بعد رحيل الأسد؟)
  • نشوى عبد النبي تكتب: (السفن التجارية "النووية": الجهود الصينية والكورية الجنوبية لتطوير سفن حاويات صديقة للبيئة)

هل يعطل صعود الجمهوريين المتشددين سياسات "بايدن"؟

27 يناير، 2023


تابع المراقبون باستغراب شديد عملية التصويت على اختيار النائب الجمهوري كيفين مكارثي رئيساً لمجلس النواب الأمريكي. ولعل سبب الاستغراب هو أنه على الرغم من فوز الحزب الجمهوري في انتخابات التجديد النصفي للكونجرس في نوفمبر 2022 بأغلبية مقاعد مجلس النواب أو ما يعادل 222 مقعداً من أصل 435 مقعداً، فإن التصويت لصالح مكارثي بدا متعسراً وبالتالي مخالفاً لتقاليد الحزب الفائز بالأغلبية في مجلس النواب، وتحول الأمر من إجراء روتيني يخلو من العراقيل، كما هو المُعتاد، إلى أزمة صعُب التكهن بنهايتها، في حادثة تُعد الأولى من نوعها التي يمر بها الكونجرس منذ مائة عام، حتى أن بعض المتابعين وصف ما حدث بـ "السيرك السياسي".

وكانت ملامح الأزمة قد بدأت في التفاقم عندما فشلت قيادات الحزب الجمهوري في المجلس المنتخب في حشد الأصوات اللازمة لانتخاب مكارثي، واستغرق الأمر على غير العادة خمسة أيام من المفاوضات الشاقة مع 20 نائباً من تكتل "الحرية" ذي الأيديولوجيا اليمينية المحافظة المتشددة داخل الحزب الجمهوري. وعلل هذا الفصيل اعتراضهم على مكارثي بحجة أنه لا يتوافق مع أجندتهم السياسية، وبناءً على ذلك فقد صمم هذا الفصيل على عدم التصويت لصالحه على مدار 15 محاولة تصويتية، حتى قدم إليهم مكارثي عدة تنازلات إجرائية تعظم نفوذهم داخل المجلس وتضعف مركزه كرئيس لمجلس النواب. ولذا فإن الصعوبة التي واجهها الحزب الجمهوري في تمرير اختيار رئيس مجلس النواب تدل على دخول الولايات المتحدة في طور جديد من الأزمات السياسية المتعلقة بالحكم وإدارة الدولة.

صعود اليمين المحافظ:

كانت النتائج غير المتوقعة في انتخابات التجديد النصفي للكونجرس هي العامل الرئيسي وراء زيادة نفوذ فصيل اليمين المتشدد المحافظ في الحزب الجمهوري، فقد فشل الحزب في الحصول على أغلبية مريحة داخل مجلس النواب تسمح لقياداته الأكثر اعتدالاً سياسياً والأكثر حرصاً على تحقيق إنجازات تشريعية، بتهميش دور هذا الفصيل، الذي تهدف أجندته السياسية إلى تصحيح الأوضاع المالية الخاصة بالحكومة الفيدرالية مثل الحد من سياسة الاستدانة، وتقليل الإنفاق الحكومي العام، وتقليص حجم البيروقراطية الفيدرالية، وتخفيض الضرائب، بالإضافة إلى مواقفهم المتشددة ضد المهاجرين وسعي بعضهم إلى عرقلة الحقوق السياسية للأقليات الأمريكية. كما يغلب على هذا الفصيل تأييدهم للرئيس السابق، دونالد ترامب، وقناعة بعضهم بتزوير الانتخابات الرئاسية في عام 2020، فضلاً عن رفضهم نتائج لجنة التحقيقات في أحداث التمرد والاضطرابات يوم 6 يناير 2021. 

وأصبحت قيادات الحزب الجمهوري في حاجة ماسة لكسب تأييد المتشددين المحافظين، من أجل ترتيب أوضاع مجلس النواب من الداخل وتمرير القوانين، وهو الأمر الذي حتّم فتح باب تقديم تنازلات في مقابل الحصول على الأصوات. ومما يُعقد هذا الموقف أن البديل عن التعاون مع هذا الفصيل هو التعاون مع نواب الحزب الديمقراطي، وهو الأمر الوارد مستقبلاً في بعض مشروعات القوانين، إلا أنه لم يكن وارداً عند اختيار رئيس المجلس. 

ولعل من أبرز التنازلات التي قدمها كيفين مكارثي لهذا الفصيل المتشدد، موافقته على عودة الإجراء الذي يسمح لأي نائب بالمجلس، من أي الحزبين، بتمرير تصويت يسمح بإزاحة رئيس المجلس من موقعه إذا حصل هذا التصويت على أغلبية بسيطة داخل المجلس أو ما يُعرف في النظم البرلمانية بـ "تصويت سحب الثقة"؛ مما يعنى أن منصب مكارثي الجديد قد أصبح أسير هذا الإجراء، وبالتالي يبقى مجلس النواب غير مستقر مدة العامين القادمين حتى الانتخابات القادمة.  

ومما يُزيد من نفوذ هذا الفصيل أيضاً أن مكارثي قدم لهم تنازلاً آخر يسمح بزيادة تمثيلهم في لجنة القواعد بمجلس النواب، وهي لجنة ذات أهمية شديدة، تتمتع باختصاصات واسعة مثل تحديد مشاريع القوانين التي يُسمح بالتصويت عليها، وتحديد الوقت المسموح به لمناقشتها، وأخيراً تعديل صياغة تلك المشاريع بالحذف أو الإضافة. ولذلك يفضل رئيس المجلس عادةً على إبقاء هذه اللجنة تحت سيطرته من خلال اختيار أعضاء لها يكونوا من النواب الحلفاء له شخصياً. كما قدم مكارثي للمتشددين أيضاً وعوداً تخدم أجندتهم السياسية، مثل الوعد بعدم رفع سقف الدين العام من دون التقليل من الإنفاق الحكومي. 


 

جمود تشريعي:
 

من المتوقع أن يعرقل اليمين المتشدد المحافظ الكثير من مشاريع القوانين ولا يسمح بالتصويت عليها من الأساس، وبالذات تلك القوانين التي تتطلب زيادة إنفاق عام أو رفع سقف الدين، الأمر الذي سيتسبب في تصاعد وتيرة الصراعات سواء بين الجمهوريين أو بين الجمهوريين والديمقراطيين. فالنواب الجمهوريون التقليديون الذين يتمتعون بقدر ما من الوسطية ويساندون انخراط الولايات المتحدة في السياسة الدولية، سيصطدمون بالفصيل المتشدد عندما يُطرح أمر زيادة الميزانية الدفاعية للولايات المتحدة هذا العام، فهم يرفضون بشكل قاطع تخفيض الميزانية الدفاعية أو حتى إبقائها على مستوى ميزانية 2022، وهو أمر يحتج عليه اليمين المتشدد الجمهوري، بل يصر على تخفيضها ويدعو لتقليص دور واشنطن في العالم بما فيها التزاماتها الدفاعية تجاه حلفائها في أوروبا وشرق آسيا والشرق الأوسط. كما أن هذا الصراع الجمهوري - الجمهوري سيتفاقم أمره عندما يتناوله الإعلام اليميني مثل قناة "فوكس" الإخبارية ويتدخل فيه الرئيس السابق ترامب، وكبار الممولين للحزب، ويحاولون التأثير على مساره خدمةً لمصالحهم المباشرة.

أما عن سعي الحزب الجمهوري بأغلبيته المتصارعة لعرقلة الأجندة التشريعية الخاصة بالرئيس جو بايدن وحزبه في مجلس النواب، فإن ذلك من شأنه تعطيل الكونجرس إلى حد كبير حتى تظهر نتائج انتخابات عام 2024، لأن الحزب الديمقراطي أيضاً سيستغل أغلبية مقاعده في مجلس الشيوخ لتعطيل الأجندة التشريعية للحزب الجمهوري. وسيشهد العام الجاري معركة سياسية طاحنة حول الموافقة على رفع سقف الدين العام وزيادة قدرة الحكومة على الاقتراض، حيث أعلنت وزارة الخزانة أن الحكومة الأمريكية وصلت بالفعل إلى سقف الدين المسموح به قانونياً الذي تخطى رسمياً 31 تريليون دولار، وأن الحكومة ستحتاج إلى رفع سقف هذا الدين أو إلغائه بحلول يونيو 2023، وهو الأمر الذي سيتطلب لا محالة اتفاقاً بين الحزبين، وإلا سيحدث إغلاق جزئي للحكومة الفيدرالية وستتعثر في الوفاء بالتزاماتها ودفع أقساط ديونها، مما قد يُعرض الاقتصاد الأمريكي لحالة من الركود والكساد، وسيكون لكل تلك التطورات آثار مباشرة على الانتخابات القادمة.

حرب مؤسسية:

بالإضافة إلى حالة الجمود التشريعي المتوقعة، فإن كلا الحزبين الجمهوري والديمقراطي سيستغل أدواته المؤسسية كأغلبية في مجلسي النواب والشيوخ ضد الآخر. فالحزب الجمهوري سيتوسع في استخدام سلطة مجلس النواب في إجراء تحقيقات تخص الأداء التنفيذي لإدارة الرئيس بايدن، وبالفعل فقد شكل المجلس الجديد لجنة للتحقيق في مدى استغلال وزارة العدل وأجهزة الأمن الفيدرالية لنفوذهم وسلطاتهم في تعقب القوى اليمينية المحافظة المؤيدة للحزب الجمهوري من دون سند قانوني. كما يتم حالياً تشكيل لجنة تحقيق أخرى للبت في صحة الادعاءات بأن إدارة بايدن تقاعست في إدارتها لعملية الانسحاب الأمريكي من أفغانستان في عام 2021، مما عرّض الجنود وبعض المواطنين الأمريكيين للخطر وأساء إلى سمعة الولايات المتحدة على مستوى العالم. وأخيراً، قد يتم تشكيل لجنة تحقيق ثالثة في التعاملات التجارية لهانتر بايدن، نجل الرئيس الحالي، مع بعض الدول الأخرى للكشف عن حقيقة استغلاله لمنصب والده عندما كان نائباً للرئيس الأسبق، باراك أوباما. 

وعلى الجانب الآخر، سيسعى الحزب الديمقراطي، صاحب الأغلبية في مجلس الشيوخ والبالغ عددهم 51 نائباً من أصل 100، للانتهاء من الموافقة على ترشيحات الرئيس بايدن لتعيين قضاة ليبراليين في مختلف مستويات السلك القضائي الفيدرالي. وبلغ عدد تلك الترشيحات حتى الآن 148 قاضياً فيدرالياً، تمت الموافقة على تعيين 97 قاضياً منهم، وهي أعلى نسبة تعينات قضاة يقوم بها رئيس أمريكي خلال العامين الأولين من انتخابه. كما سيعتمد الرئيس بايدن على قوة قرارته التنفيذية لإنجاز بعضٍ من أجندته السياسية، مثلما قرر في أغسطس 2022 إعفاء بعض الطلبة الأمريكيين من بعض ديونهم للحكومة الفيدرالية والخاصة بمصاريف تعليمهم الجامعي، الأمر الذي اعترضت عليه بعض الولايات والجمعيات المدنية ولجأت إلى المحاكم الفيدرالية لتعطيله؛ بحجة أن بايدن تخطى سلطاته، حيث إن سلطة الإعفاء من الديون تخضع للكونجرس وليس للرئيس. وعليه، فإن التوسع في استخدام تلك القرارات سيؤدي في كثير من الأحيان إلى خصومات قضائية تفصل فيها المحاكم الفيدرالية والمحكمة الدستورية العليا ذات التوجهات المحافظة.

ختاماً، فإنه على الرغم من أن الصراعات الداخلية سمة طبيعية للسياسة في الولايات المتحدة، حيث تتميز مؤسساتها بمرونة تجعلها قادرة على احتواء تلك الصراعات من خلال الفصل بين السلطات الثلاث مع تقاسم عملية صُنع القرار بين الكونجرس والبيت الأبيض؛ فإن وقوع تلك الصراعات في ظل مخاوف عامة من تراجع قيم الديمقراطية ومحاولات البعض من الفصائل المتشددة في الحزب الجمهوري الانقلاب عليها، يُنذر بدخول واشنطن في طور جديد من الأزمات الحادة خلال العامين القادمين، بما قد يوثر على أداء الحكومة الفيدرالية تنفيذياً ويضغط على أوضاع الاقتصاد الأمريكي. وسينعكس ذلك على فاعلية السياسة الأمريكية الخارجية ودعمها لأوكرانيا في حربها ضد روسيا، وكلها تطورات ذات تبعات دولية وستؤدي إلى قدرٍ لا بأس به من اهتزاز موقع الولايات المتحدة كدولة كبرى تهيمن على النظام الدولي.