أخبار المركز
  • أسماء الخولي تكتب: (حمائية ترامب: لماذا تتحول الصين نحو سياسة نقدية "متساهلة" في 2025؟)
  • بهاء محمود يكتب: (ضغوط ترامب: كيف يُعمق عدم استقرار حكومتي ألمانيا وفرنسا المأزق الأوروبي؟)
  • د. أحمد أمل يكتب: (تهدئة مؤقتة أم ممتدة؟ فرص وتحديات نجاح اتفاق إنهاء الخلاف الصومالي الإثيوبي برعاية تركيا)
  • سعيد عكاشة يكتب: (كوابح التصعيد: هل يصمد اتفاق وقف النار بين إسرائيل ولبنان بعد رحيل الأسد؟)
  • نشوى عبد النبي تكتب: (السفن التجارية "النووية": الجهود الصينية والكورية الجنوبية لتطوير سفن حاويات صديقة للبيئة)

ملء الفراغ:

هل يوفر البديل الروسي الاستقرار في مالي ؟

27 يناير، 2022


في أغسطس 2020، قاد مجموعة من الجنود في جيش مالي انقلاباً عسكرياً أطاح بحكومة الرئيس الراحل، أبوبكر كيتا، المنتخبة ديمقراطياً والمدعومة من فرنسا. ونفذ العقيد عاصمي غويتا، من القوات الخاصة، والذي قاد الانقلاب الأول، انقلاباً ثانياً عام 2021 وتوج نفسه رئيساً انتقالياً للبلاد. ولم يقم المجلس العسكري الحاكم بالوفاء بالمواعيد النهائية المتفق عليها دولياً لإجراء الانتخابات الوطنية، وبدلاً من ذلك اقترح تمديد الفترة الانتقالية لمدة خمس سنوات. ترتب على هذه الخطوة التي تمثل تراجعاً للعملية الديمقراطية إثارة مخاوف دول هشة أخرى في غرب أفريقيا معرضة لعدوى الانقلابات.  ونتيجة لضغط فرنسا، التي باتت تشعر بتضاؤل نفوذها في مجالها الاستراتيجي الأفريقي التقليدي، حاولت دول الإقليم عزل المجلس العسكري في مالي. وبالفعل في يناير 2022 أعلنت الجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، عن عقوبات قاسية من بينها غلق الحدود وفرض حظر تجاري على دولة مالي غير الساحلية. وليس بخافٍ أن أزمة عدم الاستقرار السياسي والانتقال الديمقراطي المتعثر، بالإضافة إلى التحول الواضح نحو روسيا دفعت بفرنسا وحلفاءها إلى تبني خيارات المواجهة والتصعيد ضد حكام مالي. ومن المرجح أن يهدد الانقسام الدولي والإقليمي حول مستقبل مالي الجهود الخاصة بمحاربة الإرهاب وتوفير المساعدات الإنسانية في منطقة الساحل. ولعل ذلك كله يطرح سؤالاً عن المقدمات التي أسهمت في تصعيد تلك الأزمة ومخاطرها الأمنية في منطقة تمثل مركباً صراعياً معقداً من ناحية، وكيف استغلت روسيا الفراغ الأمني الناجم عن إعادة الانتشار الفرنسي من ناحية أخرى.

 سياقات الفراغ الأمني

(1) تغير المزاج العام الفرنسي: من الواضح أن توجهات الرأي العام الفرنسي باتت تعارض بشكل متزايد عملية برخان (51٪ غير مؤيد للتدخل في عام 2021، مقارنة بـ 42٪ في أواخر عام 2019). كما أن الانتخابات الفرنسية في العام الحالي (2022) من المتوقع أن تكون ذات صلة وثيقة بالوجود العسكري الفرنسي في مالي. وعليه يمكن تفسير قرار الانسحاب الفرنسي من المنطقة على أنه محاولة من قبل الرئيس إيمانويل ماكرون من أجل تعزيز فرصه في إعادة انتخابه. وفي ظل هذا السياق، يمكن أن يكون الانسحاب من مالي خطوة في هذا الاتجاه. كما أن المساعدات التي تدفقت إلى مالي منذ بداية التدخل لا يبدو أن كان لها الأثر المنشود، مع استمرار تفشي الفساد في أجهزة الدولة، وضعف تدريب وتجهيز الجيش المالي. ولعل ذلك هو ما يدفع كثيراً من الكتاب إلى تبني نوع من المشابهة بين الحالة الأفغانية وحالة مالي التي يُطلق عليها اسم "أفغانستان الساحل الأفريقي". 

ومن المحتمل أن يفكر الجانب الفرنسي ملياً من أجل متابعة الانسحاب العسكري في المنطقة. بيد أن الأسئلة المتبقية تظل تتمحور حول ما إذا كانت فرنسا ستكون مستعدة لمواجهة خطر تحول مالي إلى نقطة ارتكاز للمنظمات الإرهابية أو، بدلاً من ذلك، فقدان التأثير والدور الإقليمي لصالح روسيا.

(2) تصاعد الغضب الشعبي ضد الوجود الفرنسي: توجد مشاعر عميقة الجذور مناهضة للفرنسيين كما تجسدها احتجاجات الجماهير في شوارع باماكو، عاصمة مالي. ومن المعروف أن حوالي خمسة آلاف جندي فرنسي يتمركزون في جميع أنحاء منطقة الساحل منذ عام 2013، عندما شن الجنود الفرنسيون والتشاديون هجوماً لطرد الجماعات الجهادية العنيفة من شمال مالي. وعلى الرغم من النجاحات الفرنسية التي أسهمت في تحرير شمال مالي، فإن طول أمد الصراع ضد الجماعات المسلحة والعنيفة أدى إلى سقوط البلاد في مستنقع الفوضى التي تشبه الحالة الأفغانية، والذي امتد نطاقه الجغرافي ليشمل النيجر وبوركينا فاسو. يرى العديد من سكان الساحل أن فرنسا غير قادرة على حل الأزمة، كما يجادل البعض الآخر بأن الصراع له علاقة بالتخلف والركود الناتج عن هيمنة فرنسا السياسية والاقتصادية على المنطقة منذ قرن من الزمان. وقد تفاقم الغضب الشعبي الكامن في جميع أنحاء الساحل مع احتجاجات ضخمة ضد قافلة من الجنود الفرنسيين في نوفمبر 2021. إذ تعرضت القافلة الفرنسية لمطاردة وحصار عبر الحدود بين بوركينا فاسو والنيجر من قبل مجموعات من المحتجين. 

ثمة مبررات لتصاعد غضب شعب مالي تجاه فرنسا. فكان التدخل الفرنسي منذ البداية، وكما أعلن الرئيس فرانسوا هولاند آنذاك، يهدف إلى مساعدة مالي في مكافحة الإرهاب، بيد أن الأزمة في المنطقة تحولت لاحقاً إلى صراع عرقي داخلي. يوجد في منطقة موبتي صراع بين الفولاني والدوجون، وكذلك بين البامبارا والفولاني. وفي تمبكتو وغاو، يوجد صراع بين الطوارق والعرب من جهة، وبين الطوارق والصونغاي من جهة أخرى. وهو ما يعني أن القوات الفرنسية التي ركزت وجودها على وسط البلاد والمناطق الحضرية عجزت عن حماية المدنيين والقضاء على الجماعات الإرهابية التي تجسد ظاهرة عابرة للحدود. بالإضافة إلى ذلك، فإن فرنسا متهمة من وجهة نظر العديد من أبناء مالي بحماية ودعم الجماعات الانفصالية المسلحة في كيدال، الواقعة في شمال البلاد.   

(3) روسيا وملء الفراغ الأمني، من المرجح أن يؤدي تقليص الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل إلى تغيير هيكل التحالفات مع الجماعات العنيفة والإرهابية وفيما بينها. وعليه فقد دفعت خطة فرنسا لخفض عدد القوات في منطقة الساحل اعتباراً من فبراير 2022 حكام مالي العسكريين إلى اللجوء إلى روسيا لملء هذا الفراغ الأمني. وبالفعل تم توقيع اتفاقية مع شركة فاغنر الروسية للسيطرة على معسكر باماكو، وقد يؤدي ذلك إلى مواجهات مع القوات الفرنسية وعملية حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في المنطقة، الأمر الذي قد يدفع الفرنسيين للانسحاب من المنطقة بأكملها. ويبدو أن الدعم الروسي المناسب شجع حكام مالي على محاولة تأجيل الانتخابات الرئاسية التي كان من المقرر إجراؤها في 27 فبراير2022، الأمر الذي استدعى فرض عقوبات كما ذكرنا من المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا على مالي. لقد كان المجلس العسكري بقيادة العقيد غويتا منذ توليه السلطة يغازل موسكو كبديل للمقاربات العسكرية الغربية والدولية الفاشلة. وتشير بعض التقارير إلى وجود عناصر روسية في مالي منذ عام 2019. اليوم تم نشر مئات الجنود الروس في تمبكتو لتدريب القوات المالية في قاعدة عسكرية تركها الفرنسيون مؤخراً.

مجموعة فاغنر

على الرغم من أن البعض يصف مجموعة فاغنر الروسية بأنها شركة عسكرية خاصة، فإنها ليست كذلك بالمعنى الحرفي للمفهوم. تمتلك الشركة علاقة وثيقة للغاية مع الدولة الروسية، وتقوم بتدريباتها بجوار مركز تدريب العمليات الخاصة التابع لوكالة المخابرات العسكرية الروسية. وعادة ما تُردد وسائل الإعلام الغربية وصف مجموعة فاغنر بالمرتزقة، لكن أعضاءها ليسوا مثل سائر المرتزقة المأجورين. صحيح أنهم يقاتلون من أجل الربح بموجب عقود، لكن لديهم أيضاً مشاعر وطنية تجاه الدولة الروسية (على الرغم من أن بعض أفرادها ليسوا مواطنين روس، وإنما ينحدرون من مولدوفا وأوكرانيا وبيلاروسيا وصربيا). في الواقع، تغيرت مجموعة فاغنر كثيراً بمرور الوقت لدرجة أنها قد لا تكون أكثر من اسم فضفاض، وليست كياناً متميزاً له مخطط تنظيمي. قد يكون المصطلح الأفضل لها، بدلاً من شركة عسكرية خاصة أو جماعة مرتزقة، مجموعة أمنية شبه رسمية. 

بالإضافة إلى تدخلها في ليبيا، أبرمت روسيا صفقة مع الرئيس المنتخب لجمهورية أفريقيا الوسطى، فوستين أرشانج تواديرا في عام 2018، للمساعدة في درء تهديد ميليشيات سيليكا الإسلامية المتطرفة. وتم نشر ما يقدر بنحو 400 من مقاتلي فاغنر في شمال جمهورية أفريقيا الوسطى. كما أصبح الروسي، فاليري زاخاروف، مستشار الأمن القومي للرئيس تواديرا، وتم بعد ذلك إقالة وزير الخارجية شارل أرميل دوبان بسبب عدم موافقته على النفوذ الروسي المتزايد والذي لا داعي له من وجهة نظره.  وعلى الرغم من انتشار مقاتلي فاغنر في السودان زمن البشير، وموزمبيق فإنه ليس من قبيل الصدفة أن تكون هذه المناطق موطناً لعمليات تعدين الذهب والأحجار الكريمة بمليارات الدولارات واحتياطيات الغاز الوطني المسال.

في كل حالة، نفت روسيا رسمياً أي دور أو حتى وجود مرتزقة روس في هذه السياقات. وعادة ما تشمل عمليات الانتشار بضع مئات من القوات، وهي عمليات منخفضة التكلفة نسبياً، والتي من المحتمل أن يتم تعويضها وبشكل مربح من خلال الرسوم المدفوعة وعائدات المعادن المكتسبة. في هذه العملية، تكتسب روسيا نفوذاً أكبر في منطقة لم يكن لها وجود سابق يذكر.

تداعيات استراتيجية

لقد عملت فاغنر في جميع أنحاء القارة الأفريقية في دول مثل ليبيا والسودان وجمهورية أفريقيا الوسطى ومدغشقر وموزمبيق وحالياً في مالي. ويوفر الاتفاق مع السلطة العسكرية الانتقالية في مالي نوع الشراكة والحماية الذي يبحث عنه نظام العقيد غويتا، مستغلاً في ذلك النزعة الوطنية المتنامية ضد الوجود الفرنسي والغربي بشكل عام. مع وجود المجلس العسكري المحاصر والذي يتعرض لضغوط إقليمية ودولية في دولة تعاني وضع الهشاشة السياسية وعدم اليقين بالرغم من وفرة الموارد الطبيعية المربحة، تبدو مالي وكأنها بمنزلة الجائزة الكبرى في لعبة الأمم حول أفريقيا. وفي هذا السياق يبدو أن روسيا تستخدم فاغنر من أجل سد وملء الفراغ الأمني في المنطقة. ولا يعني ذلك بالضرورة أن شركة فاغنر سوف تحسم المعركة ضد الجماعات الإرهابية والميليشيات العنيفة، فلقد عانت الشركة الروسية بعض الانتكاسات كما حدث في أواخر عام 2019 عندما سحبت أفرادها من موزمبيق بعد أن تكبدت العديد من الضحايا في القتال ضد مقاتلي جماعة أهل السنة والجماعة، في مقاطعة كابو ديلجادو الغنية بالغاز الطبيعي.

بينما لا يزال مستقبل الانتقال السياسي في مالي غير واضح، فإن وجود فاغنر لن يؤدي إلا إلى مزيد من تعقيد الأمور. بالنسبة لفاغنر وروسيا بشكل عام، تعد مالي أداة أخرى من أدوات التوترات الاستراتيجية المتنامية مع الغرب والتي تبلغ ذروتها اليوم في الصراع من أجل الفوز بأوكرانيا. ومن المفارقات التي يشير إليها عدد من الكتاب أنه في الحالات التي نشرت فيها شركة فاغنر قوات لقمع قوات المعارضة وجماعات العنف ضد الدولة، يصبح من المرجح استمرار حالة عدم الاستقرار. نظراً لكونها كياناً يسعى للربح، فإن لدى فاغنر حافزاً قوياً للحفاظ على مستوى يمكن التحكم فيه من عدم الاستقرار، بما يبرر استمرار التعاقد معها. ونظراً لأن هذه الترتيبات غالباً ما تستلزم أيضاً وصول روسيا إلى الموارد، ومبيعات الأسلحة، وزيادة النفوذ السياسي، فإن المصالح الروسية في أفريقيا، تتوسع  بسبب عدم الاستقرار المستمر. إن وصول روسيا إلى مالي يعني أن لديها القدرة على إثارة أزمات إنسانية وسياسية لأوروبا في الوقت نفسه الذي تتحدى فيه مجالات النفوذ الأوروبي، الفرنسي في المقام الأول، في أفريقيا.

وختاماً، فإن التحدي الأكبر المترتب على التغلغل الروسي في أفريقيا كما تعكسه خبرة مالي يتمثل في تراجع عمليات الانتقال الديمقراطي في القارة. ويُعزى ذلك إلى نمط "الزبائنية السياسية "الذي تتبناه روسيا في علاقتها مع القادة الأفارقة من خلال اتفاقيات أمنية وتجارية غامضة غير مواتية للبلدان الأفريقية. في هذه العملية، التي تستفيد من خلالها النخبة الحاكمة من شبكات المحسوبية وتعزز من قبضتها على السلطة في ظل دعم راع دولي رئيسي مثل روسيا، يتم تهميش المشاركة الشعبية ودعم القادة الذين يتخطون حدود ولايتهم الدستورية؛ وذلك بحجة ضمان الاستقرار في هذه الدول. لم يكن مستغرباً أن توفر روسيا السند والدعم الدولي للدول المنبوذة غربياً. وعليه فإن الارتماء في أحضان روسيا كنوع من الانتقام ضد الهيمنة الغربية إنما يعني في جوهره استبدال قوة تسعى للهيمنة والنفوذ بأخرى وتظل أفريقيا أشبه بطاولة الشطرنج التي تحركها قوى فاعلة طامحة من الشرق والغرب وكأننا نعيش حالة حرب باردة ثانية.