أخبار المركز
  • أسماء الخولي تكتب: (حمائية ترامب: لماذا تتحول الصين نحو سياسة نقدية "متساهلة" في 2025؟)
  • بهاء محمود يكتب: (ضغوط ترامب: كيف يُعمق عدم استقرار حكومتي ألمانيا وفرنسا المأزق الأوروبي؟)
  • د. أحمد أمل يكتب: (تهدئة مؤقتة أم ممتدة؟ فرص وتحديات نجاح اتفاق إنهاء الخلاف الصومالي الإثيوبي برعاية تركيا)
  • سعيد عكاشة يكتب: (كوابح التصعيد: هل يصمد اتفاق وقف النار بين إسرائيل ولبنان بعد رحيل الأسد؟)
  • نشوى عبد النبي تكتب: (السفن التجارية "النووية": الجهود الصينية والكورية الجنوبية لتطوير سفن حاويات صديقة للبيئة)

المدركات الخاطئة:

رؤية غربية مغايرة لتفسير الصدام مع القوة الروسية

08 أغسطس، 2019


عرض: د. إسراء أحمد إسماعيل - باحثة في الشئون الدولية

أثار ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في أوائل عام 2014، ثم الأزمة التي تلت ذلك في علاقاتها مع دول الجوار الأوروبي والعالم الغربي، ثم التدخل الروسي في الأزمة السورية منذ نهاية سبتمبر 2015؛ تساؤلات حول طموحات السياسة الخارجية لموسكو على المدى البعيد، خاصة في ظل وصف بعض الكتابات الغربية ما يحدث بأنه "حرب باردة" جديدة. 

وفي هذا الإطار، صدر عن معهد "تشاثام هاوس" كتاب بعنوان: "قواعد موسكو: ما الذي يدفع روسيا إلى مواجهة الغرب؟"، من تأليف "كير جيلز"، وهو خبير بارز في الشأن الروسي.

يُناقش الكتاب المرجعيات والاتجاهات القيمية والأيديولوجية التي تحكم السياسة الخارجية الروسية، وتقييم رؤية موسكو لنفسها وعلاقتها بالعالم الخارجي، والتي إن وُضعت في الاعتبار قد تساعد في تجنب الأخطاء الباهظة والتصعيد غير المرغوب فيه في علاقات الغرب مع وريثة الاتحاد السوفيتي السابق، من وجهة نظر المؤلف. 

وقد ضم الكتاب أربعة أجزاء، استعرض المؤلف خلالها مكانة روسيا على الصعيد العالمي، ونظامها الداخلي، والخلفية التاريخية للسياسة الروسية، وآفاق التغيير المرتقبة، وأخيرًا مستقبل العلاقة مع موسكو.

مكانة روسيا عالميًّا

في البداية يوضّح "جيلز" أن روسيا والغرب مثل الجيران غير القادرين على فهم بعضهم بعضًا، ويرجع السبب الرئيسي لذلك في أن قادة الدول الغربية يميلون إلى الاعتقاد بأن على موسكو أن تتصرف كدولة غربية تتمتع بعقلانية، وذلك على الرغم من أنّ توجهات وقرارات القادة الروس لعدة قرون كانت تتم بناءً على تقاليد راسخة.

وفي هذا الإطار، يؤكد المؤلف أن محاولة الغرب التعامل مع روسيا دون محاولة فهم كيف ينظر الروس إلى العالم؛ هي السبب في الأزمات المتكررة بين الطرفين، حيث استخدم القادة الروس (ليس فقط الرئيس الحالي "فلاديمير بوتين"، بل وأسلافه أيضًا، وكذلك خلفاؤه مستقبلًا) أدوات استراتيجية متسقة مع بقية العالم، وهي وإن كانت تبدو غريبة من المنظور الغربي؛ إلا أن فهمها ضروري للنجاح في التعامل والتعايش مع موسكو، وتطوير علاقة أكثر إنتاجية وأقل عرضة للأزمات.

ويشير "جيلز" إلى أن الافتراض القائم على فكرة أن الروس ليسوا مختلفين تمامًا عن الولايات المتحدة والغرب، وأنهم يرون العالم ويتفاعلون مع الأحداث بنفس الطريقة التي يتعامل بها الغربيون؛ أعاق فهم المُثُل والقيم والآمال والمخاوف والدوافع المشتركة التي يتمتع بها غالبية الروس، وتلك التي تُميّز موسكو عن الدول الغربية وواشنطن.

ومن العناصر الأساسية التي تشملها رؤية روسيا لمكانتها والتي تساهم في تحديد كيفية تفاعلها مع العالم الخارجي؛ اعتقاد موسكو بحقها في أن تُعامَل كواحدة من أهم دولتين أو ثلاث دول في العالم. وقد يشير المحللون الغربيون إلى أن روسيا بعيدة كل البعد عن أن تكون دولة رائدة عالميًّا، خاصة عند النظر لبعض المؤشرات، مثل: الناتج المحلي الإجمالي الصغير نسبيًّا، واقتصادها غير المتطور، ومحدودية تأثير نفوذها في العالم. وإن كان هذا صحيحًا، لكنه ليس بالضرورة المعيار الذي يتم من خلاله النظر إلى الدولة من قبل القيادة الروسية، بما في ذلك الرئيس "بوتين".

من المنظور الغربي، اتّسمت قرارات السياسة الخارجية الأخيرة لروسيا بعدم العقلانية، حتى إن المستشارة الألمانية "أنجيلا ميركل" وصفت الرئيس "بوتين" بأنه يعيش في عالم مختلف، ومع ذلك يرى "جيلز" أن قرارات موسكو وردود أفعالها تتّبع منطقًا داخليًّا متسقًا، يرتكز على أساس متين يتمثل في استعادة قوة روسيا ومكانتها ونفوذها في العالم، وتطوير أدوات الدفاع لتأمين احتياجاتها الأمنية، بغض النظر عن مدى عدم إدراك ذلك التصور من الخارج. 

كما تجدر الإشارة إلى أن الاختلاف الهام الآخر في التصور بين روسيا والغرب، والذي يتردد صداه في السياسة الروسية اليوم؛ هو مسألة: كيف انتهت الحرب الباردة؟ وما إذا كانت تُعد هزيمة للاتحاد السوفيتي على يد الغرب أم إن موسكو انسحبت طواعيةً من تلقاء نفسها؟.

روسيا من الداخل

اتّسم شكل الحكم في روسيا بالثبات النسبي على امتداد تاريخها، ويوضح "جيلز" أنه فقط منذ نهاية الاتحاد السوفيتي بدأت بعض التعديلات في نمط الحكم "الاستبدادي" بطبقة عليا صغيرة مقيدة، وطبقة متوسطة لا تُذكر مدعومة بكتلة مجهولة ومضطهدة. ومنذ المراحل الأولى لوجودها، سخرت موسكو جميع مواردها الضئيلة في الدفاع والحرب والاستعمار.

وإحدى أكثر السمات الثابتة للنظام الروسي التي تميزه بشكل واضح عن الأوروبي هي العلاقة بين الدولة والرعايا. ففي أوروبا، ولا سيما في الأجزاء التي تتمتع بتقاليد طويلة من الحريات المدنية والديمقراطية، يستند توازن المصالح بين الدولة والرعايا إلى مبادئ مقبولة بشكل عام، وهي احترام الحقوق وتحمل المسئوليات؛ إلا أن روسيا لم تشهد مثل هذا التوازن أبدًا؛ إذ لم يتشكل المجتمع المدني كما هو مفهوم في الغرب، والمبدأ الرئيسي للتنظيم الاجتماعي هو الجماعية التي تأسست على فكرة خضوع الفرد لمصالح المجموعة. ومن هذا المنطلق، يشارك القادة الروس في مغامرات خارجية من أجل تعزيز الشرعية الداخلية، ومن أبرز الأمثلة الدالة على ذلك التدخل الروسي في سوريا.

وفيما يتعلق بمواقف المعارضة، يبالغ الغرب في تقدير مدى وأهمية الاحتجاجات الشعبية والمعارضة السياسية المنظمة في روسيا، حيث يرى "جيلز" أن معظم الاحتجاجات الواسعة التي وقعت في الدولة خلال القرن الحالي ليس لها علاقة بالدعوات المطالِبة بتغيير سياسي، بقدر ما يمكن اعتبارها أحداثًا فردية ترتبط بمشاكل معيشية، مثل احتجاجات سائقي الشاحنات التي بلغت ذروتها في عام 2016.

الميراث التاريخي لروسيا

يشير "جيلز" إلى أن دور الكنيسة والدين في المجتمع والسياسة الروسية معقد، وغالبًا ما يكون غير مفهوم من الخارج، ويستدل على ذلك من خلال بعض بيانات السياسة الخارجية المحيّرة. فعلى سبيل المثال، في أواخر أبريل 2016، صرّح وزير الخارجية الروسي "سيرجي لافروف" بـ"رفض العودة إلى العمل كالمعتاد مع أوروبا، لأن روسيا مسيحية للغاية، والتعاملات العادية مع الغرب من شأنها أن تعني أن موسكو أصبحت مثل أوروبا، وهذا يتعارض مع أسس ثقافتنا".

هناك توجه مستمر لرسم أوجه للتشابه التاريخي في العلاقات الروسية-الغربية اليوم وفترات من الماضي السوفيتي والإمبراطوري، وتعود هذه المقارنات ليس فقط إلى مرحلة الحرب الباردة، ولكن تشمل أيضًا بداية الحرب العالمية الأولى، وتبعات حرب القرم، والعديد من الحلقات التاريخية الأخرى. ويوضح المؤلف أن من الصعب التفكير في فترة من التاريخ الروسي منذ أواخر القرن الثامن عشر تقريبًا، لم تتم الإشارة إليها باعتبارها سابقة لما يحدث اليوم. ويؤكد وجود خطأ يتم ارتكابه على وجه التحديد مرارًا وتكرارًا في التعامل الغربي مع موسكو يتمثل في افتراض أن حالة المواجهة مع روسيا مؤقتة، وأن الأمور سوف تتحسن بالضرورة.

ويُضيف المؤلف أن التوسع المستمر من خلال الغزو المباشر أو الاستعمار كان الخيار الافتراضي لروسيا دائمًا على مدار التاريخ. وقد يتغير الأساس المنطقي الخاص بشرعية التوسع مع مرور الوقت، لكن طموح التوسع ظل ثابتًا.

آفاق التغيير

يجنح بعض المحللين الروس إلى افتراض تنبؤات مستقبلية تميل إلى التشاؤم. وعلى النقيض من ذلك فإن التوقعات المتعلقة بروسيا في المجتمعات الأكاديمية والصحفية تميل إلى أن تكون رهينة للتفاؤل. ويؤكد "جيلز" أن المواقف الروسية ليست غير متوقعة كما يُقال في كثير من الأحيان، ففي عام 2008، جمعت المراقِبة الفنلندية للشأن الروسي "هانا سميث" الدراسات الاستقصائية التي أُعدت حول التنمية في روسيا على مدار القرن الماضي، ووجدت خيوطًا مشتركة تربط الماضي بالحاضر، حتى إنها خَلُصَت إلى أنه "ربما سيكون من الآمن افتراض أنها ستكون صالحة أيضًا للمستقبل". 

لن تعيش روسيا في سلام تام، سواء مع جيرانها أو مع شركائها وخصومها، والفكرة المتفائلة بأن روسيا لن تسعى لإلحاق الأذى بالغرب دون سبب لا يدعمها العديد من المؤشرات الحالية من حملات تخريب ومحاولات لزعزعة الاستقرار في الولايات المتحدة وعدد من الدول الغربية. وإذا كانت هناك بعض الأعذار لسلوك موسكو العدائي، فإنه لا توجد أعذار لبعض الأنشطة الأخرى، مثل قيامها بدعم حركة مناهضة اللقاحات في جميع أنحاء العالم، مع ما يترتب على ذلك من آثار ضارة على الرعاية الصحية.

ومما قد يدعو للتفاؤل الحذر -من وجهة نظر "جيلز"- افتراض قيام المعارضة الليبرالية في روسيا بدور فعال وواقعي، مما قد يمهد الطريق لتغيير سياسي جاد؛ إلا أنه لا بد من الأخذ في الاعتبار أن الحكومة الروسية والهيكل الإداري برمته أكثر مرونة وقوة مما يعتقد الكثير من منتقديها. وهذا يقود إلى سؤال آخر: هل كان لدى الغرب مشكلة مع روسيا أم مع "بوتين"؟ 

ويزعم "جيلز" أن روسيا لا يمثلها رجل واحد، فالرئيس "بوتين" ليس مصدر كل المخاوف الأمنية، بل يعمل على تبني وجهات نظر روسية قديمة العهد حول كيفية التعامل مع العالم من حوله، وبالتأكيد مع نظامه الداخلي، وبالتالي فالتفاؤل خطير، ويؤدي إلى أخطاء سياسية متكررة.

مستقبل العلاقة مع روسيا

 يطرح "جيلز" تساؤلًا حول: ما الذي يمكن فعله؟ كيف يمكننا تحسين العلاقة مع روسيا إذا كانت هناك العديد من التحديات، مما يعني أنها لن تكون علاقة سلسة ومريحة؟ ويزعم أنه إلى جانب التخلي عن التفاؤل حيث لا مبرر له، لا بد من محاولة فهم الطريقة التي ترى بها روسيا العالم الخارجي والغرب بشكل خاص، مع إدراك أن هناك تعارضًا أساسيًّا ليس فقط من المنظور الأخلاقي والقيمي، ولكن أيضًا من منظور المصالح الجيوستراتيجية بين الطرفين. 

ولا يعتقد "جيلز" أن العالم في حالة حرب باردة جديدة في الوقت الحالي، لكنه يرى أن هناك العديد من السمات المشتركة مع المراحل الأخيرة من الحرب الباردة. على سبيل المثال، الاختلاف الأيديولوجي المتنامي، والعزلة المتزايدة للشعب الروسي عن الأفكار والآراء والأخبار الخارجية، التي يعتبرها النظام ضارة لمصلحته. 

وفي ضوء ذلك، يدعو المؤلف إلى العودة إلى المواقف العقلانية التي ميّزت الحرب الباردة في مراحلها المتأخرة، حيث توصل الطرفان إلى تفاهم وطريقة تعتمد على الاعتراف بوجود اختلافات.

وفي النهاية، يختتم "جيلز" كتابه بالقول إن احتمالات التغيير في روسيا ضئيلة، على الأقل على المدى القصير والمتوسط. مضيفًا أن رحيل الرئيس "بوتين" في النهاية عن المشهد لن يغير الأمور، لأن المشكلة تكمن فيما يصفه بالمزيج السام من جنون العظمة والخداع والعزلة وعدم القدرة على التكيف مع فكرة التعاون من أجل الصالح العام، فقد تنشأ فرص لتحسين العلاقات، لكن هذه الفرص نادرة وتعتمد كليًّا على الظروف الروسية الداخلية. ومن ناحية أخرى، يرثي "جيلز" إهمال الدراسات الروسية في الغرب، وما يترتب على ذلك من محدودية القدرة على فهم السلوك الروسي. 

بيانات الكتاب: 

Keir Giles, “Moscow Rules: What Drives Russia to Confront the West”, (London: Chatham House, 2019).