أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

شرعنة الاحتلال:

لماذا تتمسك إسرائيل بنقل السفارة الأمريكية للقدس؟

07 ديسمبر، 2017


على الرغم من أن الحسابات الأولية للمصالح الإسرائيلية الراهنة لا تدعم تأجيج التوترات مع الدول العربية والإسلامية؛ إلا أن الضغوط الإسرائيلية لم تنقطع خلال الآونة الأخيرة لدفع القوى الدولية للاعتراف بمدينة القدس المُحتلة عاصمة لها. ويرجع هذا التعجل الإسرائيلي إلى عدة عوامل، من بينها: هيمنة التيارات اليمينية على السياسة الإسرائيلية، واتباع حكومة نتنياهو سياسة "الحسم السريع" للقضايا، وانشغال الدول العربية بمواجهة التهديدات الإقليمية المتصاعدة، ووجود "فرصة تاريخية" ينبغي استغلالها على حد تعبير بعض المحللين الإسرائيليين، بالإضافة إلى اقتصار أهمية القرار الأمريكي -وفقًا للنخب الإسرائيلية- على الدلالات الرمزية والقانونية في ظل الهيمنة الواقعية لتل أبيب على المدينة.

حسابات متعارضة:

تكشف مراجعة المشهد الإقليمي الراهن عن أن قرار نقل السفارة الأمريكية إلى القدس المُحتلة لن يكون في صالح إسرائيل، حيث سيؤدي القرار لتعزيز مواقف القوى الإقليمية المعادية لها وفي صدارتها إيران والميليشيات الشيعية التابعة لها و"حزب الله"، بالإضافة إلى دعم ادعاءات بعض الفصائل المُسلحة والتنظيمات الإرهابية بحماية المقدسات الدينية، والتصدي للاحتلال والقوى الدولية الداعمة له.

ويؤدي القرار أيضًا لتقويض المساعي الإسرائيلية للتقارب مع الدول العربية بهدف دمجها في نظام الأمن الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط في ظل ما تعتبره تل أبيب تطابقًا في الرؤى والمصالح فيما يتعلق بتهديدات إيران للأمن الإقليمي وضرورة التصدي للميليشيات الشيعية المُسلحة التابعة لها في سوريا والعراق واليمن، بالإضافة إلى التنسيق في مواجهة تهديدات التنظيمات الإرهابية في الشرق الأوسط.

ولن تسلم حالة التهدئة الهشة بين إسرائيل والقوى الفلسطينية في قطاع غزة والضفة الغربية من تداعيات القرار الأمريكي؛ إذ من المرجح أن تتفجر انتفاضة جديدة احتجاجًا على قرار ترامب، بالإضافة إلى تهديدات الجماعات اليهودية المتطرفة التي قامت قبل صدور القرار بساعات باقتحام ساحة المسجد الأقصى، وهو ما سيترتب عليه تفجر مواجهات عنيفة مع الطرف الفلسطيني، كما أن استخدام قوات الأمن الإسرائيلية للعنف في مواجهة الاحتجاجات الفلسطينية سيضر بمحاولات تل أبيب الحثيثة تحسين صورتها الدولية.

وقد يكون الرد الفلسطيني على قرار ترامب هو إعلان الدولة الفلسطينية من طرف واحد وعاصمتها مدينة القدس استغلالًا لحالة التوافق الداخلي الفلسطيني، ورأب الصدع بين حركتي فتح وحماس. وفي حالة اعتراف الدول العربية والإسلامية والدول النامية بالدولة الناشئة؛ فإن إسرائيل ستواجه أوضاعًا إقليمية ودولية شديدة التعقيد مع تجدد المقاطعة الإقليمية والدولية والتعامل معها كقوة احتلال.

 وفي المجمل، لا تبدو الأوضاع في الشرق الأوسط مهيأة لاستيعاب المزيد من التوترات في ظل تتابع الأزمات الإقليمية التي لم تعد قابلة للاحتواء السريع، كما أن تداعياتها باتت تنتقل بسرعة شديدة عبر الحدود لتؤثر على كافة دول الإقليم التي باتت تواجه تهديدات أمنية وعسكرية غير مسبوقة، ولا تعد إسرائيل استثناء من هذا الوضع الإقليمي المعقد، وهو ما يعني أن توقيت قرار نقل السفارة قد لا يكون مناسبًا.

مؤشرات التصعيد:

على نقيض كافة الحسابات التقليدية للمصالح، ضغطت إسرائيل بقوة لتمرير قرار نقل السفارة الأمريكية إلى القدس المُحتلة، كما تطابقت مواقف قيادات مختلف التيارات السياسية الإسرائيلية وقادة الرأي العام في تأييد القرار بقوة، واعتباره "نقطة تحول تاريخية" وفق تعبير المشاركين في المؤتمر الدبلوماسي الذي نظمته صحيفة "جيروزاليم بوست" في 6 ديسمبر 2017.

ولا يُعد الموقف المتشدد تجاه القدس المُحتلة تطورًا مفاجئًا للمتابعين للشأن الإسرائيلي، إذ يعتبر امتدادًا لسياسة التصعيد وفرض الأمر الواقع في مدينة القدس المُحتلة التي وصلت أوجها خلال الآونة الأخيرة. وتمثلت أهم مؤشرات هذا التصعيد فيما يلي:

1- الانسحاب من اليونسكو: قامت تل أبيب بالانسحاب من عضوية منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) عقب قرار مماثل من جانب الولايات المتحدة في أكتوبر 2017 احتجاجًا على ما اعتبرته تحيزًا من جانب المنظمة ضد إسرائيل، ويرتبط ذلك بقرار اليونسكو في مايو 2017 الذي اعتبر كافة الإجراءات الإسرائيلية في القدس الشرقية لتغيير معالم المدينة باطلة وغير شرعية.

2- نشر الحواجز الأمنية: قامت إسرائيل في يوليو 2017 بنشر حواجز وجسور حديدية وبوابات لكشف المعادن وكاميرات حول مداخل المسجد الأقصى لتعزيز سيطرتها الأمنية، وهو ما تسبب في اعتصام عدد كبير من المُصلين داخل المسجد بالتوازي مع الضغوط العربية والدولية التي دفعت إسرائيل لتفكيك هذه الحواجز، والاكتفاء بالانتشار الأمني المُكثف في محيط المسجد الأقصى.

3- تكثيف عمليات الاستيطان: عززت إسرائيل من عمليات الاستيطان في كافة أرجاء مدينة القدس ومحيطها، حيث خططت تل أبيب لإنشاء 12 ألف وحدة سكنية استيطانية في عام 2017 في القدس والضفة الغربية، وهو ما يمثل حوالي أربعة أضعاف عدد الوحدات السكنية الاستيطانية التي تم إنشاؤها في عام 2016، كما قامت إسرائيل بتوسيع نطاق المستوطنات القائمة في القدس الشرقية بهدف استكمال عملية التغيير المنهجي للواقع الديمغرافي للمدينة.

4- مشروع "القدس الكبرى": أثار مشروع القانون الذي قدمه حزب البيت اليهودي في الكنيست في أكتوبر 2017 احتجاجات واسعة النطاق من جانب القوى الفلسطينية والدول العربية، حيث ينص مشروع "القدس الكبرى" على ضم المستوطنات المحيطة بالقدس المحتلة إلى حدود المدينة، ومن بين هذه المستوطنات التي كان من المقرر ضمها: "معاليه أدوميم" و"بيتار عليت" و"بسجات زئيف" و"أفرات" وسائر مستوطنات "جوش عتسيون"، ويصل عدد السكان بهذه المستوطنات إلى حوالي 150 ألف مستوطن. وعلى الرغم من سحب مشروع القانون بعد ضغوط عربية ودولية؛ إلا أنه يخضع لإعادة صياغة حاليًّا تمهيدًا لإعادة طرحه للتصويت في الكنيست.

5- حظر تسمية "القدس الغربية": حظرت السلطات الإسرائيلية منذ فترة استخدام تسمية "القدس الغربية" لوصف ما تعتبره عاصمتها، وفرص تسمية "القدس" لإثبات سيطرتها على شطري المدينة، حيث أجبرت السلطات الإسرائيلية منظمي سباق "جيرو دي إيطاليا" للدراجات في ديسمبر 2017 على استبدال تسمية "القدس الغربية" بمدينة "القدس" في إعلان السباق، وهددت بإلغاء الفاعلية، وهو ما دفع المنظمين للرضوخ للمطالب الإسرائيلية.

لماذا الآن؟

لم تتخلَّ إسرائيل في أي مرحلة عن ادعاءاتها السيادة على مدينة القدس، فمنذ احتلالها لكامل أرجاء المدينة عام 1967 عكفت إسرائيل على تعزيز هيمنتها الأمنية والعسكرية على المدينة، ووصلت المحاولات الإسرائيلية أوجها في عام 1980 بإصدار "قانون أساس: القدس عاصمة إسرائيل"، وعلى الرغم من عدم الاعتراف الدولي بهذه الإجراءات، واعتبار سيطرة إسرائيل على المدينة احتلالًا يفتقد الشرعية إلا أنها عمدت تدريجيًّا إلى تشديد قبضتها على المدينة. وفي هذا الإطار، تتمثل دوافع الضغوط الإسرائيلية لنقل السفارة الأمريكية لمدينة القدس المُحتلة فيما يلي: 

1- اندثار خيارات التسوية: لا تقتصر هيمنة التيارات والأحزاب اليمينية المتشددة على الكنيست والحكومة الإسرائيلية فحسب، وإنما امتدت إلى رؤى قادة الفكر والرأي والباحثين المنتمين لليمين واليسار على السواء وتوجهات الرأي العام الإسرائيلي، بحيث اندثرت التسوية من قائمة خياراتهم، ولم تعد تحظى بالدعم الجماهيري، كما أن الانسحاب من الأراضي الخاضعة لسيطرة إسرائيل لم يعد مقبولًا من جانب الرأي العام في ضوء التقييمات السلبية لنتائج الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان، وتداعيات الانفصال أحادي الجانب مع قطاع غزة، ولا ينفصل ذلك عن ترويج مراكز التفكير الإسرائيلية على مدار سنوات في منشوراتها لاعتبار السلام "غير مجدٍ"، وأن الأطراف العربية لم يعد لديها أوراق تفاوضية جيدة أو تنازلات يمكنها أن تحقق مكاسب لإسرائيل في مقابل الانسحاب.

2- سياسات "الحسم السريع": لم تعد الحسابات المعقدة للمصالح والتكلفة تحظى بأهمية في السياسات الإسرائيلية، حيث باتت اتجاهات "الحسم السريع" للقضايا الخلافية والامتناع عن تقديم تنازلات والسعي لتحقيق المكاسب المُطلقة هي المهيمنة على عقلية النخب السياسية الإسرائيلية، وهو ما تجلى في الدعم الإسرائيلي لانفصال كردستان العراق، وترديد مقولات حول عدم جدوى تأجيل اتخاذ إجراءات حاسمة خشية التداعيات، وأن الأوضاع الإقليمية لن تكون مواتية في أي لحظة لاتخاذ مثل هذه الإجراءات، وبنفس المنطق ضغطت إسرائيل لتنفيذ قرار نقل السفارة الأمريكية إلى القدس المُحتلة بصورة فورية ودون تأجيل لحسم هذه القضية، وفرض أمر واقع جديد مع الاستعداد لمواجهة التداعيات الأمنية لهذا القرار.

3- فرصة "الأزمات الإقليمية": على نقيض كافة دول الإقليم، تعتبر إسرائيل الأزمات المعقدة والتوترات في منطقة الشرق الأوسط فرصة تاريخية، إذ أسهمت هذه الأزمات -وفقًا للتقديرات الإسرائيلية- في تراجع أولوية القضية الفلسطينية في السياسات الإقليمية، وتحييد التهديدات الأمنية في ظل انخراط "حزب الله" اللبناني في الحرب الأهلية السورية، وتفضيله استمرار الهدنة طويلة الأمد مع إسرائيل، وهو ذات النهج الذي اتبعته حركة حماس، كما أن تصاعد تهديدات إيران والإرهاب أدى إلى حدوث تقارب نسبي بين إسرائيل والقوى الإقليمية لمواجهة هذه التهديدات في إطار سعي تل أبيب لتأسيس نظام للأمن الإقليمي في الشرق الأوسط.

وتسعى إسرائيل لاستغلال هذه الأوضاع وتمرير هذا القرار في خضم الأزمات الإقليمية لحسم الجدل حول احتلالها مدينة القدس في ظل حالة الانهاك التي تعاني منها النخب والجماهير العربية، وتردي الأوضاع الإقليمية.

4- ضعف توقعات التصعيد: لا تتوقع إسرائيل حدوث ردود فعل لا يمكن السيطرة عليها من جانب الطرف الفلسطيني، فعلى الرغم من الاستعدادات العسكرية المُكثفة، أشارت بعض التقييمات الإسرائيلية إلى محدودية ردود الفعل المتوقعة، وهو ما عبر عنه رئيس الوزراء الإسرائيلي خلال جلسة لجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست في 4 ديسمبر 2017، بقوله إن "قوات الأمن تعرف جيدًا ما الذي يجب فعله"، وإنه "لا توجد أية معلومات تشير إلى تصعيد محتمل".

ولقد عبر عن ذات المعنى رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلي السابق "عاموس يادلين"، بقوله إن الفلسطينيين والعرب والأتراك "يهدّدون بمسدس فارغ"، وبرر ذلك بانشغال الرأي العام العربي في قضايا الصراعات الإقليمية والتوترات في اليمن ولبنان. 

5- فرض الأمر الواقع: ترى إسرائيل أن القرار الأمريكي لا يحمل سوى دلالة رمزية فقط بالنظر إلى سيطرة إسرائيل واقعيًّا على المدينة والتشريع الأمريكي الصادر من الكونجرس في عام 1995 بعنوان "تشريع السفارة الأمريكية في القدس"، وعلى مدار 22 عامًا قام الرؤساء الأمريكيون بتأجيل تنفيذ القانون بصورة روتينية كل ستة أشهر، كما أن القنصلية الأمريكية في القدس الغربية تؤدي بالفعل ذات الدور الذي يفترض أن تقوم به السفارة.

ولقد عبر عن ذلك رئيس بلدية القدس المُحتلة "نير بركات" بقوله: "إن نقل السفارة الأمريكية لدى إسرائيل من تل أبيب إلى المدينة المقدسة يمكن أن يتم في دقيقتين"، ويقصد بذلك أن تصبح القنصلية الأمريكية في القدس الغربية مقرًّا مؤقتًا للسفارة الأمريكية إلى أن يتم تأسيس المقر الجديد.

وعلى مستوى آخر، أشار الصحفي الإسرائيلي "إيال زيسر" في مقاله المنشور بصحيفة "إسرائيل اليوم" في 4 ديسمبر 2017 إلى أن الاعتراف الأمريكي بالقدس المُحتلة كعاصمة للدولة الإسرائيلية لا يعد تطورًا غير مسبوق، إذ سبق وأن أعلنت روسيا في أبريل 2017 اعترافها بالقدس الغربية عاصمة لإسرائيل دون أن يثير ذلك احتجاجات من جانب القوى الإقليمية وخاصة إيران وتركيا.

وفي المُجمل، يُعد الموقف الإسرائيلي من قضية نقل السفارة الأمريكية للقدس المُحتلة امتدادًا للسياسة الثابتة لدى إسرائيل لشرعنة وتثبيت سيطرتها على المدينة المحتلة استنادًا لادعاءات تاريخية ودينية بزغت منذ بدايات المشروع الصهيوني ذاته، وترسخت على مدار عقود في الوعي الجمعي للنخب الإسرائيلية، وهو ما يعزز من رهانات تل أبيب على قدرتها على احتواء تداعيات القرار، خاصة في ظل تمكنها من فرض سيطرتها واقعيًّا على المدينة، وتراجع الاحتجاجات الإقليمية على سياساتها لفرض هيمنتها على المدينة وتغيير واقعها الديمغرافي.