أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

"تسييس الرياضة":

توتر العلاقات الفرنسية – الروسية في يورو 2016

25 يونيو، 2016


شهدت منافسات كأس الأمم الأوروبية لكرة القدم (يورو 2016)، التي تستضيفها فرنسا في الفترة من 10 يونيو إلى 10 يوليو 2016، أحداث عنف وشغب مؤسفة من جانب جماهير ومشجعي بعض المنتخبات المشاركة في البطولة، وبصفة خاصة الروس والإنجليز والكرواتيين والأتراك.

بل والأدهى أن أحدث الشغب هذه فجرت أزمات سياسية بين بعض الدول المشاركة، وتحديداً بين روسيا وفرنسا الدولة المستضيفة، وذلك على خلفية الصدامات التي نشبت بين الجماهير الروسية والإنجليزية في مدينة مارسيليا على هامش المباراة التي جمعت المنتخبين يوم 11 يونيو الجاري.

وكانت هذه الأزمة قد سبقها ما يمكن اعتباره خطوة أخرى مماثلة للتصعيد بين روسيا والغرب، حيث صدَّق الاتحاد الدولي لألعاب القوى على قرار إيقاف المنتخب الروسي لألعاب القوى بسبب اتهامات له بانتهاك قواعد مكافحة المنشطات، وذلك قبل أسابيع قليلة على انطلاق فعاليات دورة الألعاب الأولمبية في ريو دي جانيرو. وقد لاقي هذا القرار غضباً روسياً، حيث أكد الرئيس "فلاديمير بوتين" أن المنشطات الرياضية هي مشكلة عالم الرياضة، وأنه من الخطأ تسييس هذه المشكلة واستغلالها لأهداف سياسية ضد روسيا أو غيرها من الدول.

وهكذا بدا واضحاً مدى تأثير الخلافات السياسية بين روسيا وأوروبا، حيث عكست كل هذه الأزمات "تسييس الرياضة" من خلال تحويل المنافسات الرياضية إلى حلبة صراع سياسي بين القوى الكبرى.

تطورات الأزمة بين روسيا وفرنسا في اليورو

في 11 يونيو 2016، شهدت مدرجات ملعب "فيلودروم" في مدينة مارسيليا الفرنسية مشاهد مخزية بعد نهاية مباراة إنجلترا وروسيا، وذلك بعد اشتباك جماهير المنتخبين في المدرجات بطريقة هيستيرية، وسط غياب تام لقوات الأمن. وخلفت هذه الاشتباكات أكثر من 35 مصاباً، ونقل سبعة أشخاص إلى المستشفى، ثلاثة منهم كانوا في حالة خطيرة.

وألقت الشرطة الفرنسية القبض على عدد كبير من المشجعين الروس، وطالبت فرنسا الاتحاد الأوروبي لكرة القدم (يويفا) باتخاذ إجراءات صارمة ضد روسيا وجماهيرها. وعلى الفور وجه "يويفا" تحذيراً للمنتخبين الروسي والإنجليزي من احتمال استبعادهما من البطولة، إضافة إلى تغريم الاتحاد الروسي 150 ألف يورو. وتم تعليق مشاركة روسيا مع وقف التنفيذ في كأس أوروبا بسبب أعمال العنف.

كما وجه الادعاء العام الفرنسي في مدينة مرسيليا أصابع الاتهام إلى 150 روسياً، واعتبرهم السبب الرئيسي في أعمال الشغب، وأكد المدعي العام "برايس روبن" أن مجموعة من مثيري الشغب المدربين ممن تلقوا تدريباً عالياً جاءوا إلى مدينة مارسيليا من أجل افتعال المشاكل، مشيراً إلى أنهم مستعدين لعمليات فائقة السرعة وشديدة العنف.

وطالب المسؤولون الفرنسيون بضرورة اتخاذ إجراءات خاصة مع المشجعين الروس، إذ قال رئيس الوزراء الفرنسي "مانويل فالس" إنه لا يحق للمشجعين الذين تورطوا في العنف أن يبقوا على أراضي بلاده.

وفي 15 يونيو الجاري، ألقت الشرطة الفرنسية القبض على 43 روسياً كانوا في حافلة متجهة إلى مدينة ليل، وتم الإفراج عن 11 منهم، بينما تحفظت على الباقين في مارسيليا. وفي اليوم التالي، أصدرت محكمة فرنسية أحكاماً بالسجن تتراوح بين 12 و24 شهراً بحق ثلاثة مشجعين روس، بعد إدانتهم بالمشاركة في أعمال العنف، ومنْعتهم من دخول الأراضي الفرنسية لعامين بعد انتهاء مدة محكوميتهم.

ورحلّت فرنسا، في 18 يونيو الجاري، 20 مشجعاً روسياً، من بينهم "ألكسندر شبريجين"، الزعيم اليميني المتطرف لجمعية مشجعي الكرة الروس، والشهير باسم "كامانشا"، الذي ظهر في السابق في صور مع "فلاديمير بوتين"، وأكدت وسائل الإعلام أنه يعتبر صديقاً للرئيس الروسي. وفي 20 يونيو، أعادت الشرطة الفرنسية اعتقال "شبريجين"، ولم يتضح بعد كيف دخل فرنسا مجدداً بعد ترحيله؟

غضب روسي

أثارت هذه الإجراءات الفرنسية غضب الجانب الروسي، ففي 15 يونيو الجاري اعتبر وزير الخارجية الروسي "سيرغي لافروف" أنه من غير المقبول على الإطلاق توقيف الشرطة الفرنسية نحو أربعين مشجعاً روسياً، وبالرغم من إقراره بأن بعض المشجعين الروس تصرفوا بطريقة "غير مقبولة" في مرسيليا، لكنه ألقى باللوم على الفريق المنافس، مشيراً إلى "الدوس على العلم الروسي وتوجيه الشتائم للقادة والرياضيين الروس".

وفي نفس اليوم، أعلنت الخارجية الروسية أنها استدعت السفير الفرنسي لدى روسيا "جان موريس ريبير"، لتسليمه مذكرة بشأن توقيف مجموعة من المشجعين الروس الذين كانوا في طريقهم من مرسيليا إلى ليل على متن حافلة، محذرةً من الأجواء المعادية للروس وتفاقم العلاقات بين البلدين، وداعيةً السلطات الفرنسية إلى إبداء أكبر قدر من الاهتمام الجدّي بهذا الوضع، وتسوية مسألة الروس الموقوفين في أقرب وقت ممكن طبقاً للقانون وبطريقة متحضرة.

وخلال المنتدى الاقتصادي السنوي، الذي عُقد في 17 يونيو الجاري في مدينة سان بطرسبورغ الروسية، أعرب الرئيس "بوتين" عن أسفه لما حدث من مواجهات عنيفة بين مشجعين روس وإنجليز أسفرت عن نحو 35 جريحاً على هامش مباراة البلدين في مرسيليا. لكن بوتين سخر من طرد العديد من المشجعين الروس واحتجازهم عدد منهم، متسائلاً: كيف تمكن 200 مشجع روسي من الاعتداء على الآلاف من المشجعين الإنجليز؟

ومن جانبها، عملت فرنسا على احتواء الأزمة قبل أن تتفاقم، حيث أوضحت باريس أن سفيرها في موسكو كشف كافة الوقائع للخارجية الروسية، وأن ظروف الاعتقالات متوافقة تماماً مع القانون في ظل شفافية كاملة، مع التأكيد على أن قنصل روسيا العام في مرسيليا توجه إلى مكان الاعتقالات بعد أن أبلغته السلطات الفرنسية في بداية العملية. كما شدد السفير الفرنسي على أن مشجعين من عدة دول شاركوا في أعمال العنف سيُلاحقون وفقاً للقانون ودون أي تمييز.

خلافات سياسية أوسع

هذه الأزمة الكروية وإن كانت الأولى من نوعها في تاريخ العلاقات الفرنسية - الروسية، إلا أنها لم تكن الأولى على الصعيد السياسي بين البلدين، حيث تأتي في سياق أوسع من الخلافات السياسية بين باريس وموسكو بشأن العديد من الأزمات الإقليمية والدولية، ومنها الأزمتين السورية والأوكرانية، كالتالي:

1- الأزمة السورية:

تعد روسيا داعماً أساسياً لنظام الرئيس "بشار الأسد"، لاسيما منذ التدخل العسكري الروسي المباشر في سوريا خريف العام الماضي، فيما كانت فرنسا، منذ بداية الأزمة السورية في مارس 2011، سباقة ومبادرة في دعم المعارضة السورية، وبذلت الدبلوماسية الفرنسية جهوداً جبارة من أجل التوصل إلى قرار دولي للتحرك ضد نظام "الأسد".

وكان وزير الخارجية الفرنسي السابق "آلان جوبيه" هو أول وزير أوروبي يعلن رأيه في الحكومة السورية على خلفية تعاملها مع المعارضين، مؤكداً في مايو 2011 أنها "فقدت شرعيتها"، بل وذهب بعد ذلك إلى اعتراف بلاده بالمجلس الوطني السوري كممثل رسمي للمعارضة. وفي ديسمبر 2012، استضافت فرنسا مؤتمراً دولياً لجمع الأموال لصالح المعارضة السورية، كما كانت باريس ناشطة جداً في حث الفصائل المختلفة للمعارضة السورية على التوحد وخلق حكومة بديلة لنظام الرئيس "الأسد"، علاوة على أن فرنسا كانت أول دولة غربية تعترف بالحكومة المؤقتة التي تم تشكيلها في عام 2013.

وعرقلت فرنسا، بالتعاون مع حلفائها في مجلس الأمن، العديد من الاقتراحات الروسية بشأن الصراع السوري، والتي كان أبرزها ذلك الاقتراح الذي تمت مناقشته في مجلس الأمن خلال فبراير 2016، وطلبت روسيا حينها عقد مشاورات لمطالبة تركيا بوقف قصفها للقوات الكردية في شمال سوريا، وكي تتخلى عن مشروع عملية عسكرية برية في سوريا، لكن فرنسا و4 دول أخرى أعضاء على الأقل، رفضت نص مشروع القرار الروسي.

2- الأزمة الأوكرانية:

رفضت فرنسا التدخل الروسي في الأزمة الأوكرانية بعد الإطاحة بالرئيس الأوكراني السابق "فيكتور يانوكوفيتش"، الموالي لها، وتولي حكومة موالية للغرب السلطة في أوائل عام 2014. وأيدت باريس العقوبات الاقتصادية التي فرضتها دول الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو على موسكو بسبب هذه الأزمة، لاسيما بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في مارس 2014. 

ومع تشديد العقوبات الغربية على روسيا بسبب تفاقم الأوضاع في أوكرانيا، أوقفت فرنسا، في سبتمبر 2014، صفقة عسكرية وقعتها مع روسيا في عام 2011، لبيع حاملتي مروحيات من طراز "ميسترال" بقيمة 1.2 مليار يورو، ونص العقد حينها على أن تتسلم موسكو في نوفمبر 2015 الحاملة الأولى باسمها الروسي "فلاديفوستوك".

وفي 20 يونيو الجاري، دعت فرنسا قادة دول الاتحاد الأوروبي إلى مناقشة كاملة لمستقبل العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا بسبب الأزمة الأوكرانية، حيث يُتوقع تمديد هذه العقوبات قريباً. وقال وزير الخارجية الفرنسي "جان مارك ايرولت" إنه من غير الممكن رفع العقوبات عن روسيا إذا لم تساعد في تطبيق وقف إطلاق النار في أوكرانيا، والمبرم في مينسك في فبراير 2015.

ومنذ أسابيع، وقبل انطلاق مباريات كأس الأمم الأوروبية في فرنسا، صدر كتاب مهم ومثير عنوانه "فرنسا الروسية"، للصحفي "نيكولا هينان" الذي كان "داعش" قد اختطفه عشرة أشهر، يستعرض فيه شبكات التأثير الروسية في فرنسا بأنواعها، عبر الاستثمارات الهائلة، البشرية والمادية، التي تخصصها روسيا بهدف زعزعة الحياة السياسية الداخلية في فرنسا، واستقطاب بعض الإعلاميين والسياسيين الفرنسيين.

باختصار، يمكن القول إنه بالرغم أن الأزمة الكروية الأخيرة بين روسيا وفرنسا هي الأولى من نوعها بينهما على هذا الصعيد، لكن من الواضح تماماً أن الخلافات السياسية بين الدولتين قد ألقت بظلالها على هذه الأزمة المستجدة والطارئة، ما يعكس "تسييس الرياضة"، وينذر بمزيد من توتر العلاقات بين موسكو من ناحية وباريس والغرب عموماً من ناحية أخرى.