أخبار المركز
  • أسماء الخولي تكتب: (حمائية ترامب: لماذا تتحول الصين نحو سياسة نقدية "متساهلة" في 2025؟)
  • بهاء محمود يكتب: (ضغوط ترامب: كيف يُعمق عدم استقرار حكومتي ألمانيا وفرنسا المأزق الأوروبي؟)
  • د. أحمد أمل يكتب: (تهدئة مؤقتة أم ممتدة؟ فرص وتحديات نجاح اتفاق إنهاء الخلاف الصومالي الإثيوبي برعاية تركيا)
  • سعيد عكاشة يكتب: (كوابح التصعيد: هل يصمد اتفاق وقف النار بين إسرائيل ولبنان بعد رحيل الأسد؟)
  • نشوى عبد النبي تكتب: (السفن التجارية "النووية": الجهود الصينية والكورية الجنوبية لتطوير سفن حاويات صديقة للبيئة)

دوافع استهداف تنظيم داعش لدور العبادة في تركيا

12 فبراير، 2024


تبنى تنظيم داعش الإرهابي الهجوم على الكنيسة الإيطالية، سانتا ماريا، بإسطنبول يوم 28 يناير 2024، خلال قداس ديني، وراح ضحيته مواطن تركي. وجاء هذا الهجوم عقب دعوة المتحدث باسم التنظيم، أبو حذيفة الأنصاري، في كلمة يوم 4 يناير الماضي، لمن سماهم "ليوث الإسلام" إلى مطاردة "فرائسهم من اليهود والنصارى وحلفائهم في شوارع وطرقات أمريكا وأوروبا والعالم"، على حد وصفه، وحثَّهم على اختيار "الأهداف السهلة قبل الصعبة، والمدنية قبل العسكرية، والأهداف الدينية كالكُنس والكنائس قبل غيرها، لأنها أشفى للصدر وأظهر لمعالم المعركة"، على حد تعبيره.

كما يأتي ذلك الهجوم في ظل ضربات متواصلة من الأمن التركي ضد تنظيم داعش، منها عمليات في يناير وفبراير 2023، تُوجت بإلقاء القبض على عناصر تابعة للتنظيم الإرهابي كانت تخطط لهجمات ضد البعثات الدبلوماسية ودور العبادة المسيحية واليهودية في البلاد. علاوة على تحذير وزارة الخارجية الأمريكية، أواخر يناير 2023، للمواطنين الأمريكيين المقيمين في تركيا من احتمال وقوع هجمات وشيكة ضد المؤسسات الدبلوماسية وأماكن تجمع الغربيين مع ذكر الكنائس والمعابد اليهودية تحديداً. بالإضافة إلى اعتقال ثمانية أشخاص، في ديسمبر 2023، من "كتيبة سلمان الفارسي" التابعة لداعش، كانوا يعدون لعمليات ضد المعابد اليهودية والكنائس المسيحية والسفارة العراقية في تركيا.

ويشير ذلك إلى تعديل في سلة أهداف داعش بالتركيز على مقدسات ورموز غير المسلمين، وبالتالي يبقى السؤال هو ما دوافع تنظيم داعش من استهداف دور العبادة في تركيا، والدلالات التي تحملها عملياته في هذا الشأن؟

دوافع عامة:

هناك دوافع "عامة" ربما تفسر استهداف تنظيم داعش لدور العبادة في تركيا خلال الفترة الأخيرة، ومنها الآتي:

1- الرؤية السياسية للدور التركي: ينظر تنظيم داعش إلى تركيا كعدو رئيسي بعد أن قررت محاربته بشكل مباشر، متجاوزة مرحلة "الحذر" وربما "غض الطرف" التي انتهجتها سابقاً، بالرغم من تصنيفها داعش كمنظمة إرهابية منذ 2014. إذ ربما استفادت تركيا من وجود التنظيم لتصعيد الضغط على النظام السوري، واعتبرته حاجزاً أمام تقدم القوات الكردية في سوريا نحو حدودها، الأمر الذي مكّن التنظيم من نقل أكثر من 25 ألف من مقاتليه إلى سوريا والعراق عبر الحدود التركية. 

لكن استهداف داعش لمصالح أنقرة بعد سيطرته على الموصل التي احتجز بها حوالي 30 سائق شاحنة تركي مع العاملين في القنصلية التركية بالمدينة في يونيو 2014، وضرباته ضد الأكراد في المدن التركية مثل: تفجير سروج في يوليو 2015، واشتباه تورطه في تفجير أنقرة في أكتوبر 2015، وقبل ذلك إصداره في يونيو 2015 العدد الأول من مجلة "القسطنطينية" الناطقة بالتركية بعنوان "فتح القسطنطينية"؛ كل ذلك قد دفع تركيا إلى تغيير قواعد اللعب مع تنظيم داعش بدعم التحالف الدولي وتسخير قاعدة "إنجرليك" لعملياته، ثم إطلاق عملية "درع الفرات" بين أغسطس 2016 ومارس 2017 ضد داعش والمسلحين الأكراد، والتي أسفرت عن تحرير حوالي ألفي كيلومتر مربع من سيطرته وإنشاء منطقة عازلة شمال سوريا. 

وبهذا، شكلت عملية "درع الفرات" لحظة فارقة في علاقات تركيا بتنظيم داعش، ودشنت مرحلة "المواجهة العسكرية المفتوحة" ضده، ما دفع بزعيم التنظيم حينها، أبو بكر البغدادي، إلى دعوة مقاتليه، يوم 3 نوفمبر 2016، إلى استهداف تركيا. ليتبنى داعش، في اليوم التالي (4 نوفمبر 2016)، هجوماً في ديار بكر، خلّف ثمانية قتلى وأكثر من مئة جريح، ثم الإعلان عن "ولاية تركيا" التي خصص لها، في يوليو 2019، الشريط الثامن من سلسلة "العاقبة للمتقين". 

أما رد تركيا فاستمر عبر عمليات نوعية داخل حدودها وخارجها، تركت جروحاً عميقة في جسد تنظيم داعش، وتمثلت عام 2023 في اعتقال 426 من عناصره، وتصفية زعيمه، أبو حسين القريشي، في سوريا في إبريل 2023، وكان آخر حلقاتها المهمة في ديسمبر الماضي باعتقال مسؤول "الشؤون الإدارية والمالية في الشام" بالتنظيم، حذيفة الموري، في مرسين جنوبي تركيا.

2- الرؤية الفقهية لغير المسلمين: يحدد تنظيم داعش موقفه من غير المسلمين انطلاقاً من مدونة فقهية تراثية تمت صياغتها تحت وطأة "محن دولة الخلافة" وحالات التفكك والدسائس الداخلية، والتي كان من تجلياتها مذهب ابن تيمية بشأن غير المسلمين الذي عبّر عنه كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم" وفتاويه بإلزام أهل الذمة بلباس أو علامة تميزهم عن المسلمين وتحريم تهنئتهم بأعيادهم. وهذه مواقف لم تكن خاصية إسلامية، إذ إنه في عام 1215، أصدر مجمع لاتيران الرابع برئاسة بابا الكاثوليك إنوسنت الثالث، مرسوماً يُلزم اليهود والمسلمين بوضع علامات أو ثياب تميزهم عن المسيحيين.

وتبنى داعش هذه الرؤية الفقهية، على خلاف الاتجاهات التجديدية في الفقه الإسلامي التي بوَّأت مفهوم التسامح مركزاً محورياً في تفكيرها، وعززها بكتابات لمنظري الفكر الجهادي من أمثال أبو المنذر الشنقيطي الذي ألف كتاب "إعلام الأمة بانقراض أهل الذمة"، في عام 2010، دفاعاً عن قرار ما يُسمى "دولة العراق الإسلامية" باستهداف المسيحيين.

وانخرط داعش في هذه الرؤية عملياً بعد السيطرة على مناطق واسعة من سوريا والعراق، إذ أصدر مرسوماً في مدينة الرقة في فبراير 2014 "يطالب المسيحيين بسداد الجزية ذهباً مقابل الحماية"، ووزع منشورات في الموصل، في يوليو 2014، تُليت في المساجد يوم الجمعة، تخير المسيحيين بين اعتناق الإسلام أو عقد الذمة وسداد الجزية وإلا يُواجهون بالسيف، بل طالت يد التمييز مساكنهم، وانتهت إجراءاته بتهجير الآلاف من المسيحيين وتشريدهم بين نازحين ولاجئين. ومع بداية عام 2016، بادر التنظيم ببيع ممتلكاتهم في الموصل بالمزاد العلني، لتأمين موارده التي شحَّت جراء اشتداد أزمته المالية.

دوافع خاصة:

ثمة دوافع أخرى "خاصة" لتفسير استهداف داعش لدور العبادة في تركيا، وهي كالتالي:

1- الصفة العقدية: يأتي استهداف دور العبادة في سياق تأكيد الصفة العقدية لمعارك تنظيم داعش ضد خصومه، والتي وسمت عملياته، خلال العقد الماضي، باستهداف المساجد الشيعية في أفغانستان وباكستان، وضرب معابد يهودية أو التخطيط لها في تونس وألمانيا والولايات المتحدة، وتفجير كنائس في إندونيسيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية والفلبين؛ وذلك عبر عمليات يُسهم تسليط الضوء الإعلامي عليها في زيادة رأس مال التنظيم وشهرته في الأوساط المتطرفة كمعبر عن محنة "مظلومية الإسلام"، من وجهة نظره.

2- النزعات الطائفية: تتفجر الصراعات الطائفية بضرب مقدسات ورموز المجتمعات غير الإسلامية لاستعدائها وجرها لإعلان عدائها للإسلام. إذ تحتضن تركيا أقليات دينية تُقدر بحوالي 320 ألف مسيحي، و23 ألف يهودي، وأقلية شيعية تتراوح بين 7 و10 ملايين شخص، خاصةً أن المتابعة الإعلامية في بلد محوري في حجم تركيا تكون أكثر إثارة ومن شأنها تحفيز مشاعر العداء الديني في الدول الأخرى. وينسجم ذلك مع استراتيجية تنظيم داعش التي أطلقها مؤسسه، أبو مصعب الزرقاوي، حين برَّر في فبراير 2004، استهداف الشيعة بمتطلبات "العمل الجهادي" ووصفهم بـ"مفتاح التغيير".

كما أن تنامي مشاعر العداء في الغرب ضد الإسلام والمسلمين من جانب عناصر اليمين المتطرف الأكثر التزاماً بالحفاظ على الثقافة المسيحية والدفاع عنها كخصوصية للأصالة الغربية، يمثل حافزاً إضافياً لمقاتلي داعش لإثارة التحريض الطائفي والتعصب الديني.

3- السهولة والمردودية: إن استهداف دور العبادة تمليه أيضاً "السهولة" و"المردودية"؛ أي "سهولة" اختراق التحصينات الأمنية حولها وبالتالي تفضيل استهدافها، في إطار عمليات مركزة، بدل العلميات العشوائية ضد عامة المدنيين، للدلالة على وجود مقصد نفعي وغاية شرعية منها. ولاسيما أن تركيا، بخلاف سوريا والعراق حيث تسود ملامح هشاشة الدولة، تتسم بوجود دولة مركزية قوية يصعب استهداف مواقعها الاستراتيجية الذي يتطلب كفاءات قيادية في الميدان وروافد لوجستية وموارد مالية لم تعد متوفرة لتنظيم داعش أمام توالي الاعتقالات والاغتيالات في صفوفه.

أما "المردودية" فتتمثل في كون دور العبادة تشهد حضوراً مكثفاً، ومن ثم يتيح استهدافها قتل أكبر عدد من الضحايا وجذب تغطية إعلامية أهم تُشعر السكان بعدم الأمان وتفرض على حكوماتهم التراجع عن مواقف جيوسياسية لصالح تنظيم داعش الذي سيستفيد من صرف الأنظار عن تراجعاته الميدانية وتعزيز حملاته الدعائية. فضلاً عن إبراز ما يسميه فشل السياسة الأمنية لتركيا واستغلال توتر علاقاتها مع الغرب، وهو ما اتضح خلال فبراير 2023 حين قررت دول غربية إغلاق قنصلياتها، على خلفية تحذير السفارة الأمريكية لرعاياها من هجمات محتملة في إسطنبول، الأمر الذي أثار حفيظة وزير الداخلية التركي آنذاك، سليمان صويلو، الذي اعتبر القرار "حرباً نفسية" جديدة ضد بلاده بالتزامن مع إعلان أهدافها السياحية لعام 2023، كما وصفه وزير الخارجية التركي السابق، مولود جاويش أوغلو، بـ"الأمر المتعمد".

ختاماً، إن استعداء دور العبادة في تركيا، فضلاً عن جملة الدوافع "العامة" و"الخاصة"؛ ينطوي على دلالات "خفية" تؤطر الصراع على الشرعية الدينية بين ما يُسمى "الإسلام الجهادي" و"الإسلام البراغماتي" الذي يستمد أدبياته من المرجعية الإخوانية، إذ يجلي اختلافهما في تدبير العلاقة مع الآخر، بمسوغات "عقدية" لدى الأول، و"انتخابوية" لدى الثاني، ويكشف عن تناقضات مرجعية بينهما.