أخبار المركز
  • أسماء الخولي تكتب: (حمائية ترامب: لماذا تتحول الصين نحو سياسة نقدية "متساهلة" في 2025؟)
  • بهاء محمود يكتب: (ضغوط ترامب: كيف يُعمق عدم استقرار حكومتي ألمانيا وفرنسا المأزق الأوروبي؟)
  • د. أحمد أمل يكتب: (تهدئة مؤقتة أم ممتدة؟ فرص وتحديات نجاح اتفاق إنهاء الخلاف الصومالي الإثيوبي برعاية تركيا)
  • سعيد عكاشة يكتب: (كوابح التصعيد: هل يصمد اتفاق وقف النار بين إسرائيل ولبنان بعد رحيل الأسد؟)
  • نشوى عبد النبي تكتب: (السفن التجارية "النووية": الجهود الصينية والكورية الجنوبية لتطوير سفن حاويات صديقة للبيئة)

"تكنولوجيا الخلود".. هل يمكن حقاً "هزيمة الموت"؟!

15 نوفمبر، 2022


لا يوجد في الحياة البشرية حقيقة مطلقة مثل الموت، ولا توجد "مصيبة" أعظم منه، فهو الكارثة التي يقف أمامها البشر عاجزين، ليس فقط غير قادرين على إرجاع الميت للحياة، بل حتى غير قادرين على فهم ماهية الموت وطريقه نحو العالم الآخر. ومع ذلك استطاعت البشرية خلال العقود القليلة الماضية أن تحتوي "الموت" بصورة أو بأخرى، فتطورت علوم الطب وقضت على الأوبئة التي كانت تسبب الموت لا محالة، مثل الملاريا والطاعون والسل والكوليرا، وحتى الأمراض التي لم يتوفر لها علاج ولم تُقهر حتى الآن مثل السرطان والإيدز والزهايمر، نجح الطب في إبطائها، واستطاع مريض الإيدز أو السرطان أن يتكيف معهما بدرجة ما. كما نجحت السياسات البشرية في احتواء فيروس كوفيد-19 في وقت قياسي، وبدأ بعض العلماء والمفكرين ينظرون إلى الموت على أنه مجرد تحدٍ يمكن التعامل معه وليس كارثة، وغالى البعض في تصوراتهم حتى رأوا أنهم بإمكانهم "هزيمة الموت".

مشكلة تقنية!

في كتابه "الإنسان الإله"، يقول الفيلسوف يوفال نوح هراري: "لا يموت البشر في الواقع لأن الإله قضى الأمر، أو لأن الفناء جزء أساسي من خطة كونية عظمى. يموت البشر بسبب خلل تقني ما؛ يتوقف القلب عن ضخ الدم أو ينسد الشريان الرئيسي أو تنتشر الخلايا السرطانية أو تتكاثر الجراثيم في الرئتين.. الأمر برمته مشاكل تقنية، وكل مشكلة تقنية لها حل تقني. لسنا بحاجة لانتظار الظهور الثاني للمسيح للتغلب على الموت، باستطاعة اثنين من المهووسين في مختبر القيام بذلك. وإذا كان الموت فيما مضى تخصصاً لرجال الدين واللاهوتيين، فإن المهندسين هم من يتولى أمره حالياً. يمكننا قتل الخلايا السرطانية بالعلاج الكيميائي أو الروبوتات النانوية، ويمكننا إبادة الجراثيم في الرئتين بالمضادات الحيوية، ويمكننا تنشيط القلب إذا توقف عن الضخ بالأدوية والصدمات الكهربائية، وإذا لم ينجح الأمر، فيمكننا زرع قلب جديد".

وإذا كان الأمر بهذه البساطة والسهولة في التعامل مع الموت كأنه مشكلة فنية، لماذا لا يعود الميت الذي توقف قلبه للحياة إذا استبدلنا قلبه المتوقف بآخر ينبض؟ لا أجادل هنا جدلاً غيبياً يحتوي قيماً دينية ومعتقدات فكرية، بل بالمنطق المادي نفسه الذي يتبناه بعض العلماء حالياً في تعاملهم مع قضايا الموت باعتبارها خللاً فنياً مادياً يمكن حله بأداة هندسية.

إكسير الحياة:

إن الرغبة في الحياة الأبدية ليست جديدة على الفكر الإنساني، فدائماً ما كان يظهر عبر التاريخ ملوك وأباطرة يسعون إلى الخلود في الدنيا، ويبحثون عن ينبوع الحياة الأبدي أو "إكسير الحياة"، ويستعينون بالأطباء والسحرة ورجال الدين لتحقيق الخلود والحفاظ على الشباب الدائم أو على الأقل "تأجيل الموت" لأكبر فترة ممكنة. لا ألوم عليهم رغبتهم في تحقيق الحياة الأبدية لهم، فهم بالفعل امتلكوا من القوة والثروة والنفوذ ما يجعلهم يمتلكون الدنيا بكل ما فيها، وبالطبع لا يرغب إنسان تحكمه قيمه المادية في أن يترك جنته الدنيوية التي يحيا فيها مقابل وعود بدخول جنة لا يراها أو وعيد بدخول نار لا يقدر عليها، فهو متمسك بلحظته الحالية ويرغب في أن تستمر الحياة حولها. ولأن كل من يمتلك مصدراً كبيراً للقوة والمال والنفوذ يسعى للخلود، فإن من يمتلكها في عصرنا هذا هم شركات التكنولوجيا العملاقة التي أصبحت "إمبراطور" هذا العصر، فلم تكن استثناءً من هذه القاعدة؛ تلك الرغبة الملحة في تحقيق الحياة الأبدية، فأخذت على عاتقها مهمة "هزيمة الموت".

هذا تماماً ما قاله "بيل ماريس"، رئيس "صندوق استثمار جوجل" Google Venture، حيث كشف خلال مقابلة في يناير 2015 أن جوجل تستثمر 36% من صندوقها في المشاريع الناشئة في علوم الحياة، بما في ذلك العديد من المشاريع الطموحة لتمديد الحياة، مضيفاً أنه "في الحرب ضد الموت، نحن لا نحاول كسب بضعة ياردات، بل نحاول الفوز في المباراة". 

قد يكون الهدف نبيلاً إذا استطاعت جوجل بالفعل أن "تؤخر الموت" أو حتى "تهزمه" كما يقول "ماريس"، لكن أليس بالأولى أن تعجل بذلك، وأن تسرع في عملياتها وتحيي الموتى اليوم بدلاً من الغد، خاصة إذا كانت تستطيع ذلك اليوم؟ نعم يمكن ذلك من خلال توجيه جزء من نسبة 36% من "صندوق استثمار جوجل" البالغ ملياري دولار إلى الدول الفقيرة التي يموت فيها الأطفال جوعاً وفقراً قبل سن الخامسة بسبب مشكلات نقص وسوء التغذية، في الوقت الذي يكثر فيه الموت في الدول المتقدمة بسبب السمنة المفرطة، وأن تقدم لهم بهذا المبلغ نفسه الغذاء والدواء. أليس هذا أيضاً "تأجيلاً للموت"؟ أم أن الحق في الحياة الأبدية أصبح ملكاً حصرياً للغرب فقط في استمرار لمعايير الازدواجية التي تحكم النظام العالمي؟

تكنولوجيا الخلود:

بات حلم الخلود يراود الكثير من رواد وادي السيلكون مثل "ريموند كرزويل"، مدير الهندسة في جوجل، صاحب نظرية حتمية اندماج الدماغ البشري في التكنولوجيا المتطورة، والذي لُقب بـ "الوريث الشرعي لتوماس إديسون"، و"العبقري الذي لا يهدأ له بال"، و"آلة التفكير المطلقة"؛ نظراً لمسيرته الطويلة والناجحة في مجال التكنولوجيا والمستقبليات.

فـ "ريموند كرزويل" أو كما يُطلق عليه "راي كرزويل"، ليس مخترعاً عادياً، أو "عبقرياً مجنوناً"، بل يمتلك خطة تنفيذية لتحقيق الخلود عبر التكنولوجيا ونظم الذكاء الاصطناعي؛ فيتم زرع شرائح إلكترونية في الأدمغة البشرية لتطوير "الإنسان الخارق"، أو أخذ نسخ احتياطية من أدمغة البشر ومعالجتها لكي تستمر في التفاعل بعد موت صاحبها عبر زراعتها في روبوتات معدنية، فتستمر الشخصية نفسها ولكن في جسد آخر غير الجسد الفاني، ويصبح الدماغ داخل آلة لا تموت، كما يمكن تعديل الشفرات الوراثية للبشر لتوفير مناعة لا تهزمها الأمراض.

كل ذلك ممكن بالفعل، وقد تقدم التكنولوجيا فرصاً واعدة أكثر من ذلك، لكن هل هذا حقاً نوع من أنواع الخلود؟ فالشرائح الإلكترونية قد تطور "إنساناً خارقاً" ذا قدرات ذهنية وبدنية عالية، لكن هل تتحمل طاقة الإنسان النفسية هذا الكم الرهيب من الذكريات والأفكار والنظريات والإدراكات المختلفة من دون أن يبدأ في الانهيار؟ وما هي الحدود التي يمكن تحميلها على هذا الدماغ قبل أن يفكر في التمرد أو الانتحار؟ وماذا يحدث إذا استطاعت مجموعة من البشر امتلاك هذه التقنية الثورية، هل سيتركون الباقي يتمتعون بالحق باقتنائها؟ أم سيتم حرمانهم منها بدواعٍ أخلاقية مزعومة كي يستأثروا منفردين بالسلطة؟

بل قد يكون السؤال، هل هذه هي الحياة الأبدية التي نرغب فيها حقاً؟ أي بعد أن يموت الإنسان وينتهي ويتحلل وتخرج روحه إلى بارئها، تظل ذكرياته المبرمجة عبر جهاز كمبيوتر هي التي تحيا وتتفاعل مع الآخرين؟ بالطبع هذا ليس خلوداً، بل تجربة على ذكريات إنسان قد انتهى ومات، لا يشعر بما تشعر به نسخته الافتراضية ولا يتأثر مثلما تتأثر، لن يحب مثلما تحب ولن يكره مثلما تكره، هذا ليس خلوداً للإنسان بل خلود للذكريات. 

إحياء النفس:

إذا كُنت أختلف مع بعض هؤلاء المفكرين في فكرة الخلود، إلا أنني اتفق معهم في فكرة "تأجيل الموت"، أو إن أردت فقُل "تأجيل أسباب الموت" أو حتى "إحياء النفس". فالأسباب التي تؤدي إلى تسريع الموت تتمثل في انتشار الأمراض والأوبئة والمجاعات والحروب والصراعات والحوادث بسبب الأخطاء البشرية، وهي جميعها مُسرعات للموت، وبالتالي إذا استطعنا أن نقضي عليها سوف نؤجل كثيراً من "أسباب الموت"، ويزيد متوسط العمر ليتخطى حتى سن الـ 90؛ أي نقضي على هذه المُسرعات من خلال تعظيم الاستثمار في البحث العلمي والطب، وترشيد السلوك البشري، وإنشاء نظام عالمي متضامن قادر على التعامل مع الأوبئة والمجاعات بقدر كبير من الإنسانية، ويستطيع أن يتجنب ويلات الحروب ومصارع الموت. 

قيمة الموت:

قد يرى الفريق الآخر أن الساعين للخلود مخطؤون في ظنهم، لكن هناك جانباً إيجابياً آخر للقضية يجب على كلا الفريقين، الذي يؤمن بالخلود والذي يؤمن بالفناء، أن يهتم به ويسعى لتحقيقه؛ وهو السعي للحياة، فهو الهدف الأسمى والحق الذي تترتب عليه الحقوق الأخرى كافة، ولكن مع الإيمان بوجود الموت كحقيقة مطلقة يجب الاستعداد لها. فهدف الحياة الإنسانية في الأديان السماوية كافة هو الاستعداد للموت وللحساب ولدخول الجنة أو النار، وهي قيم تشكل ميزان التعامل البشري، وإذا أغفلناها هلكت البشرية كلها وذهبت مسرعة إلى الموت لا محالة. فإذا أدرك القوي أنه لا يوجد رادع له في الدنيا أو الآخرة، وأنه خالد ولن يموت، سوف يستمر في تظلمه وجبروته حتى يُفني الجميع بعضهم. وإذا لم يؤمن الجميع بوجود الموت، سوف يهلكون به.

وفي النهاية، هناك توازن وسُنن تحكم هذا الكون، ومثلما تغيب الشمس فإنها تشرق من جديد، ومثلما يُولد إنسان يموت آخر، ومثلما يؤثر البشر في الطبيعة فإنها تؤثر فيهم، وكما استطاع البشر بفضل التقدم العلمي والإدارة الجيدة، احتواء انتشار وباء كورونا، هم قادرون أيضاً على إحياء ملايين الأنفس التي تموت يومياً بسبب أمراض تنتشر نتيجة لسوء التغذية أو سوء البنية التحتية أو عدم توافر الرعاية الصحية أو المياه النظيفة، وهي أولى بإحيائها، مثلما أولى بالتقدم العلمي أن يوفر آليات لتحسين صحة البشر ومستوى معيشتهم.