أخبار المركز
  • أسماء الخولي تكتب: (حمائية ترامب: لماذا تتحول الصين نحو سياسة نقدية "متساهلة" في 2025؟)
  • بهاء محمود يكتب: (ضغوط ترامب: كيف يُعمق عدم استقرار حكومتي ألمانيا وفرنسا المأزق الأوروبي؟)
  • د. أحمد أمل يكتب: (تهدئة مؤقتة أم ممتدة؟ فرص وتحديات نجاح اتفاق إنهاء الخلاف الصومالي الإثيوبي برعاية تركيا)
  • سعيد عكاشة يكتب: (كوابح التصعيد: هل يصمد اتفاق وقف النار بين إسرائيل ولبنان بعد رحيل الأسد؟)
  • نشوى عبد النبي تكتب: (السفن التجارية "النووية": الجهود الصينية والكورية الجنوبية لتطوير سفن حاويات صديقة للبيئة)

خيارات التكيف:

هل تهدد شبكات الجيل الخامس صناعة الطيران العالمي؟

24 يناير، 2022


تسببت مساعي شركتي الاتصالات "إيه تي آند تي" AT&T، و"فيريزون" Verizon، لبدء تشغيل شبكة الجيل الخامس "5G" في عدد من المناطق الحضرية الكبرى بالولايات المتحدة الأمريكية، في اندلاع أزمة طيران عالمية؛ تجسدت في إلغاء مئات الرحلات الجوية التي كان مقرراً لها الإقلاع أو الهبوط في مطارات أمريكية. وعلى الرغم من الاستثمارات الضخمة التي تكبدتها الشركتان الأمريكيتان وتُقدر بنحو 67 مليار دولار من ناحية، وتأجيل إطلاق شبكة الجيل الخامس مرتين سلفاً في 5 ديسمبر الماضي ثم في 5 يناير الجاري من ناحية ثانية؛ طُلب من هاتين الشركتين تأجيل إطلاق الشبكة للمرة الثالثة، وسط مطالبات دولية واسعة بدراسات شارحة، وتأجيل الإطلاق مؤقتاً، وتعديل الخدمة جزئياً، وإن ظل القرار النهائي بيد الشركتين طبقاً لاتفاقية موقعة مع إدارة الطيران الفيدرالية؛ الأمر الذي يحتم الوقوف على تداعيات شبكات الجيل الخامس على صناعة الطيران، والخيارات المتاحة أمام شركات الطيران والاتصال في هذا الشأن.

مخاوف متزايدة:

بشكل عام، تعود شبكات الجيل الخامس بالنفع على صناعة الطيران، على نحو يعزز تطبيقات الطيران الحالية، وهو ما يعود بالنفع على الركاب، ويُحسن الاستجابة لطلباتهم وإدارة أمتعتهم، وغير ذلك. ولا شك أن توظيف الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء وغير ذلك من تكنولوجيا حديثة عمادها شبكات الجيل الخامس؛ يحسن استخدام الوقود، ويحدد مواطن الخلل بدقة، ويقلل تكلفة الصيانة الدورية، ويضبط أوقات الهبوط والإقلاع، ويسهل اتخاذ القرارات الحاسمة على متن الطائرات، ويطور الخدمات المقدمة للركاب، إلخ.

وفي المقابل، تتخوف بعض شركات الطيران الأمريكية والدولية من مخاطر تشغيل شبكة الجيل الخامس قرب المطارات الأمريكية، ومنها احتمالية وقوع حوادث وكوارث كبرى على صعيد عمليات السفر والشحن الدولي. ووجدت تلك المخاوف طريقها إلى البيت الأبيض، ليحذر كبار المسؤولين التنفيذيين في شركات الطيران الأمريكية الكبرى من "اضطراب كارثي"، مطالبين الإدارة الأمريكية بتطبيق شبكة الجيل الخامس في كل أرجاء الولايات المتحدة باستثناء نطاق 2 ميل (أي 3.2 كيلومتر تقريباً) من مدرجات المطارات الرئيسية. وهذا ما أرجعوه إلى التداخل المُحتمل مع الأجهزة اللاسلكية المخصصة لقياس الارتفاع والتي تستخدم الترددات نفسها، مع الأخذ في الاعتبار تزايد الاعتماد على الأجهزة الآلية للهبوط بشكل مكثف في حالات الطقس السيئ، وسط مخاوف من تداخل إرسال شبكات الجيل الخامس وما يتصل بها من أجهزة مع أخرى تستخدمها الطائرات في عمليات الهبوط وتقدير الارتفاع؛ ما يعني حدوث ما يشبه التشويش على الرادارات أثناء عمليات الهبوط، وهو ما يهدد سلامة الطائرات وركابها.

وبعبارة أخرى، تستخدم شبكات الجيل الخامس عالية السرعة بعض الترددات الراديوية التي تقترب من مثيلتها المُستخدمة بواسطة أجهزة قياس الارتفاع الراديوي (في نطاق 4.2 - 4.4 جيجا هرتز) التي تُستخدم في قياس المسافة بين الطائرة والأرض من خلال إرسال إشارة نحو الأرض، ثم تحديد الوقت الذي تستغرقه تلك الإشارة للانعكاس عنها والعودة إلى الطائرة، بل وتخطط للاعتماد على ما يُسمى (C Band) الذي سبق أن أكدت لجنة الاتصالات الفيدرالية إمكانية استخدامه بأمان في محيط المطارات (في نطاق 3.5 - 4 جيجا هرتز). بيد أن ذلك التأكيد لم يحل دون المخاوف العالمية التي تدور حول الحيلولة دون استخدام أجهزة قياس الارتفاع الراديوية في عشرات المطارات الأمريكية، وتعطيل 4% من الرحلات اليومية، والاعتماد على الطرق البصرية لهبوط الطائرات حتى في حالات سوء الأحوال الجوية والضباب الدخاني الكثيف، وتقويض عمليات الهبوط الآلي، وعرقلة رصد تيارات الرياح الخطيرة.

والجدير بالذكر أن شبكات الجيل الخامس لا تهدد سوى سلامة بعض المطارات الأمريكية وبعض الطائرات التي لم يُختبر بعد تأثير شبكات الجيل الخامس على أجهزة استشعارها على سبيل التحديد، وفي مقدمة هذه الطائرات تأتي طائرات "بوينغ" التي سبق أن عانت آثاراً كارثية على خلفية جائحة كورونا إلى حد انخفاض أسهمها وتوقف بعض خطوط إنتاجها. ولا ينصرف الأمر بطبيعة الحال إلى الدول الأوروبية التي تعمل أجهزتها على ترددات تتراوح بين 3.4 و3.8 جيجا هرتز، أي أنها بعيدة بشكل أو بآخر عن ترددات (C Band) المُستخدمة في الولايات المتحدة الأمريكية، لذا لم يتخذ أي منها إجراءات في تلك الأزمة، بيد أنها طالت بالضرورة شركة الطائرات الأوروبية "إيرباص" التي أرسلت إلى وزارة النقل الأمريكية تقريراً مشتركاً مع شركة "بوينج" الأمريكية، محذرتين من إمكانية تعطل أجهزتهما بفعل تقنية الجيل الخامس.

خيارات عديدة:

في هذه الخلفية، قررت الخطوط الجوية اليابانية بشكل عام، وشركتا "أنا" و"أول نيبون" بشكل خاص، إلغاء بعض رحلاتهما إلى الولايات المتحدة وتقليص رحلاتهما من طراز "بوينغ 777"؛ بسبب المخاوف سالفة الذكر. كما أعلنت شركة طيران الإمارات (أكبر مشغل لهذا الطراز من الطائرات) تعليق رحلاتها إلى 9 وجهات أمريكية (أبرزها بوسطن، وشيكاغو، ودالاس، وهيوستن، وميامي، ونيويورك، وسان فرانسيسكو، وغير ذلك) اعتباراً من 19 يناير 2022، قبل أن تعود وتقرر استئناف جميع رحلاتها إلى الولايات المتحدة منذ 22 يناير الجاري؛ وذلك بعد تأخير مشغلي الاتصالات موعد نشر شبكات 5G حول المطارات الأمريكية.

كما ألغت شركة الطيران الهندية بعض رحلاتها الجوية المتجهة إلى الولايات المتحدة، فيما أعلنت الخطوط الجوية التايوانية عن إعادة جدولة بعض الرحلات. وقررت "لوفتهانزا" الألمانية إلغاء بعض الرحلات من فرانكفورت إلى ميامي، بجانب تغيير بعض الطائرات من "بوينغ 747-8" إلى "747-400". كذلك فرضت شركة "بوينغ" قيوداً على الرحلات الجوية التابعة لكل شركات الطيران التي تشغل طائرات "بوينغ 777"، وغيرت طراز بعض الرحلات المُقررة من وإلى الولايات المتحدة.

وأمام تلك الضغوط وردود الأفعال الدولية، تبنت شركتا الاتصالات "إيه تي آند تي" AT&T، و"فيريزون" Verizon" في الولايات المتحدة، جملة من السياسات التي يمكن إجمالها في النقاط التالية:

1- إقامة مناطق عازلة حول المطارات: نُشرت شبكات الجيل الخامس بالفعل فيما يزيد على 40 دولة من دون مشكلة تداخل الطيران. ومن هذا المنطلق، يمكن إنشاء ما يشبه المناطق العازلة حول عدد من المطارات المعنية، بجانب التقيد بعدد من الإجراءات الاحترازية وفي مقدمتها إنشاء فلاتر على شبكات الإرسال القريبة من المطار للحد من وصولها إلى الطائرات، ومنع أصحاب الهواتف الذكية التي بها شبكات الجيل الخامس من استخدامها في الطائرات، وغير ذلك. وقد وافقت الشركتان بالفعل على إقامة تلك المنطقة في 50 مطاراً أمريكياً على غرار مناطق مماثلة في عدد من الدول الأوروبية وفي مقدمتها فرنسا؛ وذلك لمدة 6 أشهر بهدف تقليل مخاطر التداخل. 

2- التأجيل الطوعي لنشر شبكات 5G: قررت شركتا "إيه تي آند تي" و"فيريزون" طوعاً تعليق شبكة الجيل الخامس حول المطارات الأمريكية بشكل مؤقت؛ بهدف خفض معدلات المدى لتُناظر مثيلاتها في الدول الأخرى، وتوفير مزيد من المعلومات حول هذه الشبكة، وتجنب الاضطرابات المحتملة سواء في حركة السفر الدولي أو عمليات الشحن، ولكن مع تشغيل بعض محطات الإرسال، ونشر أكثر من 90% من الأبراج اللاسلكية المقررة لتصل خدمات الجيل الخامس بالفعل إلى 90 مليون أمريكي، مع تأمين 48 مطاراً من بين المطارات الأكثر تأثراً بالتداخل من أصل 88 مطاراً. ووافقت شركتا الاتصالات على تأخير نشر شبكات الجيل الخامس لعدة أسابيع، استعداداً للتداعيات المحتملة على قطاع الطيران، كما تعهدتا بعدم تثبيت أبراج الدعم على مسافة ميلين على الأقل من المطارات.

3- إجراء مباحثات مكثفة مع قطاع الطيران: أكدت الشركتان الأمريكيتان أن شبكات الجيل الخامس لا تعد واحدة من التحديات التي تواجه صناعة الطيران. وحتى 5 يوليو المقبل، ستتحدث شركات الاتصالات مع إدارة الطيران الفيدرالية وشركات الطيران حول الإجراءات المُحتمل اتخاذها على المدى الطويل تكيفاً مع حقيقة وجود شبكات الجيل الخامس بالقرب من المطارات الأمريكية. وفي المقابل، على إدارة الطيران الفيدرالية النظر في أسطول الطائرات التجارية الأمريكية ومدى قدرته على الاعتماد على أجهزة قياس الارتفاع في ظل قربها من شبكات الجيل الخامس.


دلالات الصدام:

يشير الصدام بين شركات الطيران الدولية وشركتي الاتصالات الأمريكيتين، إلى جملة من الدلالات التي يمكن الوقوف عليها في النقاط التالية:

1- تباين الرؤى بين قطاعي الاتصالات والطيران: يرى الاتحاد التجاري لقطاع الاتصالات اللاسلكية في الولايات المتحدة (المعروف باسم CTIA)، أن شبكات الجيل الخامس آمنة تماماً، متهماً شركات الطيران بإثارة الذعر وتشويه الحقائق، كما يعتقد أن تأجيل إطلاق خدمات الشبكة لمدة عام واحد من شأنه أن يتسبب في خسائر قدرها 50 مليار دولار. وفي المقابل، ترى شركات الطيران أن تشغيل شبكات الجيل الخامس سيؤدي بالضرورة إلى تخريب رحلاتها ودفع أساطيلها خارج الخدمة، تاركاً عشرات الآلاف من الأمريكيين من دون رحلات تقلهم، ومتسبباً في "مصيبة اقتصادية يمكن تفاديها"، وعلى نحو يطال المسافرين، وسلاسل الشحن، وإمدادات الأدوية، والمنتجات الطبية، وغيرها. وبين هاتين الرؤيتين، تظل سلامة الركاب هي الهدف الأسمى الذي يستلزم تحديد مواقع الأبراج الخاصة بتلك الشبكة لاسيما التي تقترب من المطارات ومدرجات الطيران من ناحية، والتواصل المستمر مع الشركات المُصنعة للطائرات للنظر في كيفية تجنب التأثير السلبي للشبكات عليها من ناحية ثانية.

2- عدم استعداد الطيران الأمريكي: تجادل شركات الاتصالات الأمريكية بأن صناعة الطيران كانت على علم بالنطاق (Band C) لعدة سنوات، لكنها لم تفعل شيئاً للاستعداد له، وهو ما نوهت إلى خطورته عدة تقارير حكومية على مدى الأعوام القليلة الماضية. كما تجادل هذه الشركات أيضاً بأن شبكات الجيل الخامس لا تتعارض مع مختلف الخطوط الجوية، وما يدلل على هذا تفعيل تلك الشبكة بالفعل فيما يقرب من 40 دولة من دون أي حوادث تذكر، لاسيما أن الخطوط الجوية الأمريكية تُسيّر رحلات جوية منتظمة إلى مختلف الدول الأوروبية، حيث تعمل تلك الشبكات بالفعل؛ ما يعني أن صناعة الطيران هي التي اختارت عدم ترقية أجهزة قياس الارتفاع المُعرضة للتداخل، بل وفشلت إدارة الطيران الفيدرالية (FAA) في إطلاق معدات المسح على الطائرات حتى الأسابيع القليلة الماضية. وهو ما يتفاقم أثره في ظل تضارب الآراء والإجراءات بين سلطة الطيران الأمريكية، وسلطة الطيران الأوروبية.

3- وجود تجارب ناجحة في دول أخرى: تستخدم الكثير من دول العالم، وفي مقدمتها كندا وفرنسا، تقنية (Band C) بالفعل، وهو ما يعني أن شبكات الجيل الخامس لها مردود إيجابي على صناعة الطيران عالمياً؛ بيد أن هذا لا يعني خلو الأمر من قيود مفروضة على إشارات تلك الشبكات في المناطق القريبة من المطارات. فعلى سبيل المثال، تفرض كندا قيوداً على شبكات الجيل الخامس بالقرب من 26 مطاراً، بجانب تدابير أخرى تضمن سلامة الطيران، وفي مقدمتها تجهيز الطائرات بالتكنولوجيا المتقدمة التي تمكنها من التصدي للتأثيرات السلبية للشبكة.


ختاماً، في الوقت الذي تكافح فيه شركات الطيران للتعافي من تداعيات جائحة كورونا، يحتدم الصراع بينها وبين شركات الاتصالات الأمريكية، وهو صراع قد تبلغ خسائره مليارات الدولارات، وبما يؤكد في جوهره على عظم تأثير شبكات الجيل الخامس في مختلف الصناعات والقطاعات الرائدة. وكلما انتشرت تلك الشبكات وتزايد الاعتماد عليها، برزت أزمات جديدة سواء تلك المتعلقة بخصوصية المستخدمين أو الانكشاف المعلوماتي أو التجسس أو سلامة التشغيل أو غير ذلك. وفي نهاية المطاف، يمكن القول إنه لا يمكن لأحد الوقوف أمام التطورات التكنولوجية التي بات لزاماً التكيف معها والتغلب على أزماتها ومجاراة تطوراتها.