يُخبرنا المستكشف وعالم البيئة الفرنسي جاك إيف كوستو (Jacques-Yves Cousteau) بأن "البحر، بمجرد أن يُلقي تعويذته؛ فإنه يأسِر المرء في شبكة عجائبه إلى الأبد". بيد أن ذلك قد لا ينطبق على حالة شبه الجزيرة الماليزية؛ حيث أضحى البحر بمثابة قوة مخيفة تُهدِّد صمود سواحلها واستدامة مدنها ذات الكثافة السكانية المرتفعة والنابضة بالحياة، ونظامها الإيكولوجي بوجه عام. ففي ظل ارتفاع سطحه لمستويات غير مسبوقة، والمُتوقَّع أن تزيد بمعدلات أكثر تسارعاً، أصبح التغيُر المناخي تحدياً ملموساً لهذه الدولة التي تقع في جنوب شرق آسيا، بعد أن كان كثير يعتبرونه خطراً بعيد المدى.
بالفعل، تعرضت منطقتا سيلانجور وباتو باهات على الساحل الغربي لشبه جزيرة ماليزيا إلى تآكل ساحلي كبير، تضرَّر بموجبه نحو 1800 و415.5 هكتار من مساحتهما على التوالي؛ الأمر الذي كبدهما خسائر اقتصادية بقيمة 504 ملايين دولار أمريكي، و73.5 مليون خسائر في البنية التحتية. وتشير نماذج التنبؤ بالمناخ إلى أن المياه سوف تغمر كل غابات المانغروف الماليزية بحلول عام 2040، وسوف تتأثر المناطق الصناعية بحلول عام 2060؛ إذا ارتفع مستوى سطح البحر في عام 2100 بمقدار متر واحد.
هكذا، تجد ماليزيا نفسها عند مفترق طرق، ومن دون تكيُف استباقي لمواجهة هذا الخطر الجامح، فإن التكاليف البشرية والاقتصادية والاجتماعية سوف تؤثر في الجيل الحالي والأجيال القادمة... فما حجم المخاطر التي تتعرض لها ماليزيا نتيجة ارتفاع سطح البحر، وما العواقب الناجمة عنه، وما الجهود التي يمكن أن تسهم في تعزيز مرونة وصمود سواحلها في المستقبل؟
الهشاشة الساحلية.. الضعف الجغرافي لماليزيا:
يمتد خط ساحل شبه الجزيرة الماليزية بطول 4800 كيلومتر؛ مما يشكل إطاراً لجغرافيتها واقتصادها، وفي الوقت نفسه يفرض تهديدات متزايدة لها؛ فنظراً لموقعها على طول خط الاستواء (وهو الخط الافتراضي الذي يلتف حول كوكب الأرض أفقياً في منتصف المسافة بين قطبيه الشمالي والجنوبي)، تشهد ماليزيا ارتفاعاً في درجة حرارة المياه؛ ما يؤدي إلى حدوث التمدد الحراري، الذي يُعد السبب الرئيسي لارتفاع مستوى سطح البحر. واللافت للانتباه أن هذا الخطر المحدق بماليزيا لا يعزى فقط لجغرافيتها؛ بل لتفاعل عوامل عدة تزيد من درجة هشاشة سواحلها، يأتي في مقدمتها الآتي:
1 - المناطق الساحلية المنخفضة: تقع المناطق الساحلية في ماليزيا، مثل: كوالالمبور وبينانغ وجوهور، على ارتفاعات منخفضة وتواجه مخاطر الفيضانات. ولما كانت التوقعات تشير إلى ارتفاع مستوى سطح البحر بين 0.5 و1 متر بحلول عام 2100؛ فإن المياه قد تغمر أجزاءً عدة من هذه المناطق؛ مما يؤدي إلى إتلاف البنية التحتية ونزوح قاطنيها. ويزداد هذا الخطر أثناء العواصف، التي تسبب بالفعل فيضانات منتظمة خلال مواسم الرياح الموسمية.
للدلالة على ذلك، بلغت الأضرار التي لحقت بالأصول العامة والبنية التحتية بسبب الفيضانات في ماليزيا في عام 2023 أكثر من 380 مليون رنجيت ماليزي (نحو 79.8 مليون دولار أمريكي). وفي الوقت نفسه، تأثر قطاع الزراعة؛ إذ بلغت خسائره أكثر من 120 مليون رنجيت ماليزي (نحو 25.2 مليون دولار أمريكي).
2 - السواحل ذات الكثافة السكانية المرتفعة: يعيش ما يقرب من 70% من سكان ماليزيا على بُعْد 10 كيلومترات من الساحل؛ مما يزيد من تعرضهم لمخاطر الفيضانات؛ فمثلاً أدت الفيضانات الناجمة عن سقوط الأمطار الغزيرة في مارس 2023 إلى نزوح ما يزيد على 40 ألف شخص في ولاية جوهور جنوب البلاد. كذلك فإن ارتفاع درجة تركُز النشاط البشري والموارد الاقتصادية في هذه المناطق يعني أنه حتى الزيادات الطفيفة في مستوى سطح البحر يمكن أن تُعطِّل حياة ملايين البشر وسبل عيشهم والوصول إلى الموارد.
3 - النظم البيئية الهشَّة: تُعد المناطق الساحلية في ماليزيا موطناً لغابات المانغروف الحيوية والشعاب المرجانية والأعشاب البحرية التي تحمي الحياة البحرية والقرى القريبة من السواحل وضفاف الأنهار من المخاطر البيئية، خاصة مخاطر الفيضانات والتسونامي. ولما كانت النظم البيئية ذات مستوى حساسية مرتفعة لتغيرات درجات الحرارة، وتحمُض المحيطات، وتحولات الملوحة؛ فإن درجة تأثرها تزداد سوءاً مع ارتفاع مستوى سطح البحر. جدير بالذكر أن تقريراً للأمم المتحدة بشأن التغير المناخي صدر في عام 2023 قد أشار إلى أن هذه العوامل مجتمعة –مع القطع غير القانوني للأشجار- قد أدت إلى فقدان 50% من غطاء أشجار المانغروف خلال السنوات العشر الماضية.
4 - ضغوط التحضر السريع: يعيش نحو 77% من سكان ماليزيا في المدن والمناطق الحضرية؛ لتصبح بذلك من أكثر المراكز الحضرية في إقليم جنوب شرق آسيا. ورغم المزايا التي يجلبها هذا التحضر المتنامي على طول سواحلها لأغراض السياحة والصناعة والسكن؛ فإنه يحد في الوقت نفسه من الدفاعات الطبيعية مثل: أشجار المانغروف والأراضي الرطبة. وغالباً ما يتفوق معدل التحضر في تطوير هذه المناطق على نتائج تقييم الأثر البيئي؛ مما يؤدي إلى مزيد من تدهور حالة سواحلها وصمودها.
عواقب اجتماعية واقتصادية وتكاليف متزايدة:
تتخطى عواقب ارتفاع مستوى سطح البحر التأثير البيئي؛ لأنها تعيد تشكيل اقتصاد ماليزيا ونسيجها المجتمعي ومشهد الصحة العامة، وغير ذلك من القضايا الحياتية الملحة. ولا شك في أن التداعيات السلبية تتفاقم حدتها في الدول التي تُعد مناطقها الساحلية جوهر حيويتها الاقتصادية وثقافتها. يأتي في مقدمة هذه التداعيات الآتي:
1 - ضغوط البنية التحتية: يُهدِّد ارتفاع مستوى سطح البحر الطرق والجسور والمطارات وأنظمة الصرف الصحي، وغير ذلك من مقومات البنية التحتية والتكنولوجية. ففي عام 2022، أفادت إدارة الري والصرف الماليزية بأن 40% من سدود البلاد تُعد عالية الخطورة. كذلك، قد تواجه المدن الساحلية أضراراً تراكمية تصل إلى مليارات الدولارات الأمريكية سنوياً بحلول عام 2050؛ إذا لم يتم تكثيف تدابير التخفيف من الأضرار المناخية.
2 - خسائر سبل العيش: تتأثر قطاعات اقتصادية مثل: الزراعة ومصايد الأسماك بشدة نتيجة تسرُب مياه البحر وتغيُر النظم البيئية؛ ذلك أن تسرُب المياه المالحة إلى الأراضي الزراعية يؤدي إلى تدهور جودة التربة، في حين تؤدي درجات الحرارة المرتفعة إلى تعطيل تجمعات الأسماك؛ مما يؤثر بشكل مباشر في الاقتصادات الريفية والساحلية التي تعتمد على هذه الموارد.
ومن الأمثلة على ذلك، في ديسمبر 2022، تعرَّض قطاعا الزراعة والأغذية لأضرار وخسائر بلغت قيمتها نحو 111.9 مليون رنجيت ماليزي (نحو 23.5 مليون دولار أمريكي) بسبب موسم الرياح والأمطار الغزيرة غير المسبوقة، وذلك وفقاً لتقرير صادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي.
3 - الهجرة القسرية: من المُتوقَّع أن يؤدي ارتفاع منسوب المياه إلى نزوح سكان المناطق الساحلية؛ مما يجبرهم على الهجرة إلى مناطق أعلى. ويفرض هذا التحول ضغوطاً إضافية على المدن الداخلية؛ مما يؤدي إلى تفاقم الطلب على مواردها، وربما يؤدي إلى تأجيج التوترات الاجتماعية بسبب محدودية فرص الإسكان والعمل.
4 - المخاطر الصحية: يمكن أن تؤدي الفيضانات الناجمة عن ارتفاع مستوى سطح البحر إلى أزمات في الصرف الصحي وتلوُث إمدادات المياه وتفاقُم الأمراض المعدية التي تنقلها المياه. ولا غرو أن هذه المخاطر الصحية تفرض عبئاً على البنية التحتية للرعاية الصحية في ماليزيا، خاصة في المناطق التي تعاني بالفعل من صعوبة توفرها.
سياسات وإجراءات بيئية راهنة:
استجابةً للتهديدات المناخية المتزايدة، نفذَّت ماليزيا مبادرات سياسية وبرامج بيئية مختلفة، إدراكاً منها أن التكيف مع المناخ يتطلب اتخاذ إجراءات فورية وتخطيطاً طويل الأجل، حيث تسعى حكومة ماليزيا إلى تنفيذ استراتيجيات متعددة المستويات لتعزيز القدرة على الصمود. وتعكس هذه الجهود فهماً للتحديات المحلية والالتزامات المناخية العالمية، على الرغم من الحاجة إلى مزيد من تكثيف هذه التدابير للتخفيف من حجم المخاطر. ومن أبرز هذه الإجراءات والمبادرات ما يلي:
1 - ضريبة الكربون: تَستهدِف ماليزيا تحقيق خفض في كثافة الكربون الناتج عن النشاط الاقتصادي بالنسبة للناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2030 بواقع 45%، مقارنة بما كانت عليه النسبة في عام 2005. يأتي ذلك في سياق هدف طموح لتحقيق صافي انبعاثات صفرية بحلول عام 2050، وذلك وفقاً لتقرير صادر عن مؤسسة "ستاندرد آند بورز" في أكتوبر 2024. أيضاً، من المرجح أن تفرض الحكومة الماليزية ضريبة الكربون في القطاعات كثيفة الانبعاثات في عام 2025؛ لتحفيز الشركات على خفض انبعاثات الكربون وتبنِي تقنيات الطاقة النظيفة.
2 - مشروع قانون التغيُر المُناخي: تسعى ماليزيا لتطوير إطار تشريعي شامل لتنظيم وتنفيذ وإنفاذ التدخلات المعنية بتعزيز الاقتصاد منخفض الكربون. وتقود وزارة الموارد الطبيعية والاستدامة البيئية الماليزية مبادرة إقرار قانون التغيُر المناخي، والمتوقع أن يَصدُر قبل نهاية عام 2024. وتصبو هذه الجهود إلى تعزيز إطار سياسة المناخ في ماليزيا، وتبسيط جهود التكيف والتخفيف. ويؤكد مشروع القانون التعاون بين مختلف الفئات أصحاب المصلحة ودمج رؤى القطاع الخاص؛ مما يشكل سابقة للحوكمة المناخية المتكاملة.
3 - مشروعات استعادة أشجار المانغروف: تعمل أشجار المانغروف كحواجز طبيعية ضد التآكل والعواصف، وتمتص طاقة الأمواج وتثبت خطوط الشواطئ؛ وتهدف جهود الاستعادة إلى إعادة زراعة مناطق أشجار المانغروف المفقودة، مع التركيز على إعادة تأهيل السواحل الحرجة. هذا وتستهدف إدارة الغابات الماليزية استعادة أكثر من 1000 هكتار على طول السواحل الحرجة.
وفي هذا السياق، يُمكن الإشارة إلى مشروع "المانغروف المتصل" (Connected Mangroves) الذي أطلقته شركة "إريكسون" لمساعدة المجتمع المحلي في سيلانجور الماليزية على إدارة نمو شتلات المانغروف الجديدة وفق نهج أكثر كفاءة وفعالية، والذي يُعد الأول من نوعه في العالم؛ حيث تم تجهيز هذه الشتلات التي يزرعها المتطوعون بأجهزة استشعار يمكنها مراقبة المعلومات الخاصة بظروف التربة والطقس والحرائق ومستويات المياه في الوقت الفعلي. هذا ويتم تجميع البيانات وإرسالها مباشرة إلى نظام سحابي يُمكِّن مستخدميه –من المزارعين والمنظمات غير الحكومية والسلطات المحلية– من فهم أفضل للوضع الراهن للشتلات.
4 - مبادرات المشاركة المجتمعية: تهدف حملات التوعية العامة إلى تثقيف المجتمعات الساحلية حول حقائق تغيُر المناخ، وتعزيز ممارسات التكيف الشعبية؛ لأنه من خلال تمكين المجتمعات، تُمكِّن هذه المبادرات من اتباع نهج من القاعدة إلى القمة للمرونة بما يكمل السياسات من أعلى إلى أسفل.
المسارات المستقبلية.. بناء الصمود الماليزي:
مع تصاعُد مخاطر المناخ، يرى المتخصصون الماليزيون أنه يتعيَّن على دولتهم أن تتطلع إلى استراتيجيات مبتكرة وسياسات مستقبلية لحماية سواحلها ومجتمعاتها؛ حيث يعتمد الصمود المستقبلي على تبني استراتيجيات التكيف التي تتضمن التكنولوجيا والممارسات المستدامة والتعاون الدولي. ويكمن الجوهر دائماً في إعادة ابتكار ماليزيا لتعزيز إمكانات بقائها على قيد الحياة؛ بل والازدهار في وجه تحديات المناخ، وإظهار القدرة على القيادة الناجعة داخل إقليم جنوب شرق آسيا وخارجه. يتطلب ذلك تكاتف عوامل عدة، من بينها ما يلي:
1 - التكيف القائم على التكنولوجيا: إن الاستفادة من التكنولوجيا للنمذجة التنبؤية، وتوقُع الفيضانات، ومراقبة البنية التحتية من شأنه أن يسمح لماليزيا بتوقع وتخفيف مخاطر المناخ بشكل أفضل. ويمكن لتقنيات مثل نماذج التنبؤ بالفيضانات التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي أن توفر تنبيهات في الوقت المناسب؛ مما يتيح استجابات مجتمعية سريعة وتعديلات للبنية التحتية.
2 - التعاون الدولي المُعزَّز: يمكن لماليزيا تعزيز الوصول إلى التمويل وتطوير السياسات من خلال الشراكة مع الهيئات الإقليمية والمؤسسات العالمية، ويمكن للتعاون مع الدول التي تواجه تحديات مماثلة أن يُسرِّع تبادُل أفضل الممارسات في المرونة والتكيف مع المناخ.
3- التخطيط الحضري المرن: تبدو أهمية مراعاة الصمود المناخي كأولوية حتمية في سياق التنمية الحضرية المستقبلية، بما في ذلك تحفيز البناء في المناطق المرتفعة عن سطح البحر، وتعزيز البنية التحتية الخضراء، مع فرض قواعد بناء صارمة في المناطق المعرضة للفيضانات.
4 - الإدارة الساحلية المستدامة: ينبغي أن تسهم استراتيجيات إدارة المناطق الساحلية المتكاملة في المواءمة بين الأنشطة الاقتصادية والحفاظ على البيئة، لحماية الدفاعات الساحلية الطبيعية؛ الأمر الذي يسهم في خفض تكاليف التكيف على المدى الطويل والحفاظ على التنوع البيولوجي.
ختاماً، يُظهِر التحليل السابق أهمية رَسْم مسار مستقبلي مستدام ونهج شامل يقوده المجتمع الماليزي بكل فئاته، في مواجهة الخطر المتصاعد لارتفاع مستوى سطح البحر؛ لتأمين الحياة في الوقت الراهن وبناء مستقبل مستدام للأجيال القادمة؛ فهذا هو التحدي الذي لا تستطيع ماليزيا تجاهله؛ لأنه يُهدِّد سكانها وساحلها واقتصادها ونهج حياتها.