أخبار المركز
  • د. أحمد أمل يكتب: (تهدئة مؤقتة أم ممتدة؟ فرص وتحديات نجاح اتفاق إنهاء الخلاف الصومالي الإثيوبي برعاية تركيا)
  • سعيد عكاشة يكتب: (كوابح التصعيد: هل يصمد اتفاق وقف النار بين إسرائيل ولبنان بعد رحيل الأسد؟)
  • نشوى عبد النبي تكتب: (السفن التجارية "النووية": الجهود الصينية والكورية الجنوبية لتطوير سفن حاويات صديقة للبيئة)
  • د. أيمن سمير يكتب: (بين التوحد والتفكك: المسارات المُحتملة للانتقال السوري في مرحلة ما بعد الأسد)
  • د. رشا مصطفى عوض تكتب: (صعود قياسي: التأثيرات الاقتصادية لأجندة ترامب للعملات المشفرة في آسيا)

حسابات جيو اقتصادية:

لماذا تراجعت واشنطن عن دعم "إيست ميد" في شرق المتوسط؟

07 فبراير، 2022


تلقى مشروع خط أنابيب الغاز "إيست ميد" Eastmed ضربة قوية عبر سحب إدارة الرئيس الأمريكي، جو بايدن، دعمها له في يناير 2022. ويعتبر هذا المشروع، والذي تم توقيع اتفاق تعاون بين قبرص واليونان وإسرائيل في يناير 2020 لتنفيذه، أحد الحلول المقترحة لتصدير الغاز المُكتشف في حوض شرق المتوسط. ولكن هذا التعاون لم يرتق حتى الآن إلى مرحلة التنفيذ؛ لأن تركيا التي تعتبر أنه جرى استثناؤها من هذا التعاون تعرقل خطوات التنفيذ. ويجري كل هذا على مرأى من الاتحاد الأوروبي الذي يحاول الاستفادة من اكتشافات غاز شرق المتوسط، لتنويع مصادره، بانتظار اكتمال تحقيق انتقاله الطاقوي المبني على خيارات صديقة للبيئة.

التغير الأمريكي:

للوقوف على أسباب الموقف المُستجد لإدارة الرئيس بايدن حيال خط أنابيب الغاز "إيست ميد"، والذي جاء مغايراً لموقف الإدارة الأمريكية السابقة برئاسة دونالد ترامب، يمكن الإشارة إلى النقاط التالية:


1- شكوك حول الجدوى الاقتصادية للمشروع: حسب وسائل الإعلام اليونانية، فإنه تمت الإشارة في ورقة غير رسمية أُرسلت إلى وزارة الخارجية اليونانية في منتصف شهر يناير 2022، إلى أن سحب الدعم الأمريكي لمشروع "إيست ميد" مقترن بعدم قابليته للحياة من الناحية الاقتصادية. كذلك ظهرت للعلن بعض التصريحات القديمة لمساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الطاقة الحالي، آموس هوكستين، وذلك قبل أن يشغل منصبه، معتبراً فيها أن هذا المشروع غير ممكن مالياً لأنه سيُكلف أكثر مما هو متوقع، وأن الجانب السياسي للمشروع يطغى على جانبه المالي. 

وتلتقي العديد من الآراء حول فكرة تخطي كُلفة إنشاء المشروع المبلغ المُخصص له في الدراسات والمُقدر بـ 7 مليارات دولار، بالإضافة إلى مبلغ سنوي للصيانة مُقدر بنحو 90 مليون دولار. كما يعتبر البعض أن الولايات المتحدة تريد استغلال انخفاض كمية الغاز الروسي الذي يصل إلى أوروبا، لزيادة حجم صادراتها من الغاز المُسال، وبالتالي فهي لا تريد تسهيل بناء أي مشروع قد ينافس تطلعاتها. فيما يعتبر آخرون أن قابلية الحياة من الناحية الاقتصادية ترتبط بكمية الغاز التي سيضخها هذا المشروع المزمع بناؤه، وهنا تتضارب الأرقام؛ حيث تُقدر بعض الدراسات أنه لن يؤدي إلى سد حاجة الاتحاد الأوروبي إلا بنسبة 1.5%، فيما ترى دراسات أخرى أنه يستطيع توفير 10% من احتياجاته. وبالتالي فإن عدم وضوح الأرقام يجعل من الصعب الجزم بالجدوى الاقتصادية للمشروع.

2- تخفيف الأضرار البيئية: تتحجج دوائر القرار الأمريكية بأن المؤسسات المالية الدولية قد أحجمت عن دعم مشاريع استخراج الوقود الأحفوري مادياً، خاصة أن الاتحاد الأوروبي ينشط في سياسة حماية البيئة والتخفيف من التلوث والتوجه نحو خيارات طاقوية أقل فرزاً للكربون. وقد أظهرت دراسة أعدتها إحدى المنظمات غير الحكومية تُدعى "غلوبال ويتنس" global witness، أن استمرار عمل "إيست ميد" حتى عام 2050 سيؤدي إلى حدوث انبعاثات كربونية تساوي الانبعاثات التي تخرج سنوياً عن فرنسا وإسبانيا وإيطاليا. وكثيراً ما يتم التطرق إلى كمية التدمير البيئي التي سيخلفها بناء خط أنابيب الغاز الذي يعتبر الأطول في البحر، وبعمق قد يصل إلى 3 آلاف متر.

3- خفض حدة التوتر في شرق المتوسط: يُرجح أن تغيير الموقف الأمريكي إزاء مشروع "إيست ميد"، ناتج في جزء منه عن رغبة واشنطن في خفض التوترات بمنطقة شرق المتوسط والناتجة عن الخلافات حول بناء هذا الخط، خصوصاً أن هذه التوترات تحدث بين دولتين عضوتين في حلف شمال الأطلسي "الناتو"؛ وهما تركيا واليونان. إذ تعتبر تركيا أنه لا يمكن تجاوزها في أي مشروع لنقل الغاز في شرق المتوسط، وهي الدولة التي تمتلك أكبر امتداد بحري فيه، خصوصاً أنه، حسب وجهة نظرها، فإن "إيست ميد" يخترق جرفها القاري. وبالتالي فإن سحب الدعم الامريكي للمشروع، سيدفع الأطراف كافة في شرق المتوسط إلى التفكير في حلول بديلة لتصدير الغاز تكون أكثر حفاظاً على الاستقرار في هذه المنطقة.

4- تقديم إغراءات لتركيا على خلفية أزمة روسيا وأوكرانيا: تضع بعض التحليلات عملية التراجع الأمريكي عن دعم "إيست ميد"، في خانة استرضاء تركيا، استباقاً لأي مواجهة عسكرية قادمة قد تحدث إذا قامت روسيا بغزو أوكرانيا. والمُلفت هنا أن هذه الخطوة تزامنت مع تصريح للرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، يعتبر فيها أن أي عمل عسكري قد تقوم به روسيا في أوكرانيا هو عمل غير واقعي. كما تعتبر الولايات المتحدة أن تركيا لها حساباتها التي قد تمنعها من الدخول في إدانة أو الوقوف في وجه أي عمل عسكري روسي في أوكرانيا بشكل علني، خشية تحريك موسكو جبهة إدلب في سوريا وما يخلفه ذلك من تدفق موجات كبيرة من اللاجئين نحو تركيا قد تؤدي إلى التأثير على وضع أردوغان الداخلي، خصوصاً في ظل الأزمة الاقتصادية التي تعانيها البلاد. ولكن من الممكن أن تندفع تركيا لتقديم الدعم لأوكرانيا بشكل خفي، مقابل إعطاء واشنطن لأردوغان ورقة تظهر قدرته على إيقاف مخططات نقل الطاقة التي تستهدف تركيا وتقودها اليونان، مما يقوي من وضع أردوغان داخلياً.

5- إيجاد بدائل سريعة لتعويض إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا: تعمل الولايات المتحدة الأمريكية على إيجاد بدائل عن إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا، تحسباً واستباقاً لأي عمل عسكري قد تقوم به موسكو ضد أوكرانيا. وكانت الولايات المتحدة قد هددت بشكل واضح بأنها ستمنع تشغيل خط الغاز الروسي "نورد ستريم 2" بين روسيا وألمانيا، في حال حدوث تصعيد عسكري في أوكرانيا. وبالتالي فإن واشنطن تعمل بشكل حثيث لإيجاد بدائل عن الغاز الروسي، حتى لا تتراجع بعض الدول الأوروبية عن دعم خيار المواجهة الغربية مع موسكو، وفي هذا الصدد حاولت الولايات المتحدة إقناع قطر بتزويد أوروبا بالغاز المُسال، وكانت هذه المسألة أحد أبرز بنود جدول أعمال اللقاء الذي جمع الرئيس بايدن وأمير قطر تميم بن حمد آل ثاني خلال زيارة الأخير لواشنطن في الأيام الماضية. بيد أن المساعدة القطرية في حالة حدوثها، لن تستطيع تأمين احتياجات أوروبا من الغاز؛ نظراً لارتباط الدوحة بعقود طويلة الأمد مع السوق الآسيوي. وبالتالي فإن البحث الأمريكي عن خيارات أخرى مساندة يتم من خلال العمل على وصل غاز شرق المتوسط عبر المنشآت التركية، وصرف النظر عن الحلول التي قد تستغرق فترات زمنية طويلة الأمد مثل مشروع "إيست ميد".

تأثيرات متنوعة:

تتنوع التداعيات المُحتملة لتراجع الولايات المتحدة عن دعمها لمشروع "إيست ميد"، خاصة أن هذه الخطوة ستؤثر على مصالح العديد من اللاعبين الإقليميين والدوليين، وهو ما يمكن توضيحه في الآتي:


1- تغير خريطة التحالفات الإقليمية: إن سحب الدعم الامريكي لخط أنابيب "إيست ميد" ترافق زمنياً مع إعلان الرئيس أردوغان عن استعداد تركيا لاستقبال الرئيس الإسرائيلي، إسحاق هرتسوغ، في منتصف فبراير 2022، معلناً أنه من ضمن الموضوعات المطروحة للتباحث في اللقاء كيفية التعاون في الغاز الطبيعي. وكانت العلاقات التركية - الإسرائيلية قد شهدت فترة من الجمود، وقد يكون التطور الأخير في مشروع "إيست ميد" أحد أسباب تحسنها نسبياً. ويحاول أردوغان إقناع إسرائيل بتغيير خطة توجيه غازها التي تود تصديره إلى أوروبا، لكي يمر عبر الأراضي التركية. ولم يظهر أي رد رسمي إسرائيلي حتى الآن بشأن هذا الخيار، خاصة أن تل أبيب تندرج في تحالف قديم مع قبرص واليونان، تم ترسيخه مع توحد وجهات النظر حول كيفية تصدير الغاز إلى أوروبا، وربما يتأثر هذا التحالف في حال تخلي إسرائيل عن دعم خط "إيست ميد". وتجدر الإشارة إلى أن اسرائيل تحاول الاستفادة من التقارب مع اليونان لتوقيع عقود لمساعدة الأخيرة عسكرياً، حيث تعتزم اليونان شراء منظومة "القبة الحديدية" من إسرائيل، وكان التباحث حول كل هذه المستجدات أحد أهم أهداف زيارة وزير الدفاع اليوناني، نيكولاوس بانابوجيوتوبولوس، إلى تل أبيب في 20 يناير 2022، ولقائه وزير الدفاع الإسرائيلي، بيني غانتس. 

كما أن قبرص تشعر بنوع من التخلي عنها، خاصة مع مرور ما يزيد على 10 سنوات على اكتشافات الغاز ضمن مياهها، ومع ذلك لم تتمكن حتى الآن من استثمار هذا، والبدء في عمليات التصدير. كذلك ثمة مخاوف من أن تتوسع محاولة استرضاء تركيا من جانب الولايات المتحدة إلى حد إعادة النظر في ترسيم الحدود البحرية في تلك المنطقة وتبني وجهة النظر التركية.

2- ظهور خيارات جديدة لنقل الغاز: تروج تركيا لخيارات أخرى لبناء أنابيب الغاز في شرق المتوسط، معتبرة أن كُلفة البناء ستخفض من 7 مليارات دولار إلى حوالي 2.5 مليار دولار في حال تم بناء الأنابيب من إسرائيل إلى تركيا، وقد تنخفض قيمة البناء أكثر إذا تم البناء من قبرص التركية إلى البر التركي؛ حيث يتم ربطه بالأنابيب المتوجهة إلى أوروبا في تركيا. ويبدو واضحاً أن هدف أنقرة من هذا الترويج هو تحويل تركيا إلى محور للطاقة Energy Hub للتحكم في معظم إمدادات الغاز الطبيعي التي تمر من شرق المتوسط وروسيا ومنطقة القوقاز إلى أوروبا. وهذا الخيار يقلق الجانب الأوروبي، خصوصاً مع محاولاته الحثيثة للتخلص من تبعيته الطاقوية لروسيا عبر تنويع مصادره ولكن من دون الوقوع مجدداً في المعضلة نفسها؛ أي مرور معظم أنابيب الغاز في دولة وحيدة هي تركيا، مما يهدد أمن الطاقة الأوروبي في حال حدوث خلاف مع أنقرة.

ومن جهة أخرى، يبدو الاعتماد على المرور عبر مصر خياراً أكثر واقعية وأقل تعقيداً؛ نظراً لأن مصر هي الدولة الوحيدة التي تمتلك محطات لتسييل الغاز في شرق المتوسط (لديها محطتان)، كما أنه يمكن زيادة قدرة استيعاب هاتين المحطتين، فضلاً عن أنه يمكن تحويل غاز شرق المتوسط إلى مصر عبر أنابيب صغيرة نسبياً ثم يتم بيعه كغاز مُسال إلى أوروبا عبر السفن، بالإضافة إلى أن أكبر الحقول المكتشفة في شرق المتوسط موجودة في مصر وهو حقل "ظهر".

3- تعزيز الربط الكهربائي بين شرق المتوسط وأوروبا: في مسعى من واشنطن لطمأنة حلفائها، خاصة أن المراحل الأولية لإطلاق خط "إيست ميد" حظيت بتأييد الإدارة الأمريكية السابقة بقيادة ترامب، لذا أعلنت إدارة بايدن أن سحب دعمها لهذا المشروع لا يعني أبداً التخلي عن صيغة (3+1) التعاونية بين الولايات المتحدة وكل من قبرص واليونان وإسرائيل، وأن الأولوية لديها هو ترسيخ مشاريع الربط الكهربائي بين شرق المتوسط وأوروبا سواء عبر الوجهة الأورو أفريقية أو الأورو آسيوية، والتي تقضي بأن تنتج دول شرق المتوسط الكهرباء ويتم بيع الفائض منها إلى أوروبا عبر شبكات نقل عملاقة.

4- تداخل حسابات الاتحاد الأوروبي: على الرغم من تصنيف الاتحاد الأوروبي للطاقة المولدة من الغاز الطبيعي ضمن قائمة المصادر الخضراء في يناير 2022، واعتبار الغاز الطبيعي وسيلة لتسهيل الانتقال الطاقوي؛ فإن هذا لا يعني أن الاتحاد الأوروبي قد حسم أمره في دعم وتنفيذ وتمويل مشروع "إيست ميد"، حيث إن المفوضية الأوروبية بصدد إجراء دراسة شاملة حول الجدوى الاقتصادية والتجارية لهذا المشروع. وهنا يبدو أن الحسابات الجيواستراتيجية ستتداخل مع الحسابات المالية، خاصة أن مسألة تنويع مصادر الغاز والتخفيف من التبعية للغاز الروسي (والتي أظهرت دراسة إحصائية أجرتها "يوروستات" eurostat أنه يشكل 46% من الغاز المستورد إلى الاتحاد الأوروبي)؛ تشكل أولوية بالنسبة لبروكسيل، لاسيما مع ارتفاع سعر الميغاواط/ ساعة بنسبة 250% مؤخراً في بعض الدول الأوروبية، نتيجة ازدياد الطلب على الغاز في شرق آسيا، واتهام روسيا بتخفيف الكمية المُصدرة إلى أوروبا لتأمين احتياجات الصين.

وبالتالي لا يمكن لأي قرار يتخذه الاتحاد الأوروبي حول مشروع "إيست ميد" أن لا يأخذ في الحسبان التهديدات التي عرفها أمن الطاقة الأوروبي في الفترة الماضية؛ ومنها تأثيرات الأزمة الأوكرانية، والتهديد الأمريكي باستهداف تشغيل خط "نورد ستريم 2" بالعقوبات، وتهديد الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو في نوفمبر 2021 بقطع خط أنابيب "يامال" yamal الذي يمر عبر بيلاروسيا إلى أوروبا، فضلاً عن إغلاق الجزائر لخط أنابيب (المغرب - أوروبا) GME على وقع الأزمة الدبلوماسية بين الجزائر والمغرب في نوفمبر الماضي، وعدم قدرة خط الأنابيب الثاني الممتد من الجزائر إلى أوروبا وهو "ميدغاز" medgaz على استيعاب حمولة خط الأنابيب الذي يمر عبر المغرب.

ختاماً، يبقى التساؤل؛ هل سيؤدي سحب الإدارة الأمريكية الحالية دعمها لخط أنابيب الغاز "إيست ميد" إلى إلغاء المشروع؟ أم أن مستقبله مرتبط بوجهة الصراع في الأزمة الأوكرانية؟ علماً أن موقف الاتحاد الأوروبي هنا هو محدد أساسي في مستقبل هذا المشروع. كما تبقى عملية الاستفادة من تصدير غاز شرق المتوسط معقدة، في ظل تداخل مصالح مجموعة كبيرة من اللاعبين الإقليمين والدوليين، والتي ستتعقد أكثر في حال تزايدت اكتشافات الغاز في هذه المنطقة.