أخبار المركز
  • أ. د. حمدي عبدالرحمن يكتب: (عام على حرب السودان.. ترابط المسارين الإنساني والسياسي)
  • د. أحمد أمل يكتب: (إرث فاغنر: هل قاد "التضليل المعلوماتي" النيجر للقطيعة مع واشنطن؟)
  • عادل علي يكتب: (موازنة الصين: دوافع تزايد الانتشار الخارجي للقوة البحرية الهندية)
  • إبراهيم فوزي يكتب: (معاقبة أردوغان: لماذا خسر حزب العدالة والتنمية الانتخابات البلدية التركية 2024؟)
  • شريف هريدي يكتب: (مخاطر الانفلات: خيارات إيران للرد على استهداف قنصليتها في دمشق)

اللا مساواة الصحية:

تأثير الهجرة والانتقال عبر الحدود في الأمن الصحي العالمي

21 أبريل، 2020


عرض: سارة عبدالعزيز - باحثة في العلوم السياسية

يشهد العالم اليوم صحوة طبية فجرها الانتشار السريع لفيروس كورونا المستجد الذي أصاب ما يزيد على من ٢.٣ ملايين شخص حول العالم، بينما حصد أرواح ما يزيد على ١٦٠ ألفًا آخرين وذلك حتى ٢٠ أبريل الجاري، أي بعد ما يقرب من أربعة أشهر من بداية انتشاره. وفي حين تسعى الدول إلى محاولة احتواء الفيروس داخل أراضيها، ومعالجة مواطنيها، فإن الأمر يصبح أكثر قسوة وصعوبة لمن هم خارج المنظومات الصحية في غير دولهم، وكذلك للمهاجرين واللاجئين. 

وفي ظل تلك الأجواء، يناقش كتاب "التنقل عبر الحدود والصحة العالمية: اجتياز الحدود" لـ"بيتر كوهن" (أستاذ العلوم السياسية، ومدير برنامج الصحة العامة العالمي)، الصادر في 2019، عدة قضايا تتعلق بتأثيرات الهجرة والانتقال عبر الحدود على الصحة العالمية. حيث يسلط الضوء على التقاطعات القوية والديناميكية بين ثلاثة عناصر أساسية، هي: الانتقال البشري كضرورة وسمة لعصرنا الحالي، وعدم المساواة، والصحة. 

وانطلاقا من أن الأمن الصحي أصبح يشكل متغيرًا أساسيًا في جدول أعمال السياسة الدولية، فقد اهتم الكتاب بمحاولة استكشاف المحددات الأساسية للتفاعل بين الصحة العالمية والهجرة. كما يتطرق إلى مجموعة من الموضوعات ذات الأهمية في العلاقة بين الصحة والهجرة، مثل: السياحة الصحية، وتحركات الفئات الضعيفة صحيًا نتيجة للنزاعات، والأزمات الإنسانية، وحقوق الإنسان، والربط بين التنمية الصحية والهجرة، والرعاية الصحية للمهاجرين، والتعليم والتدريب الصحي. 

ويلقي الكتاب أيضًا الضوء على نقاط الضعف في المنظومة الصحية العالمية في أعقاب تغير المناخ، والتحديات الطبية والأخلاقية وتلك المتعلقة بالحوكمة في مواجهة انتشار الأمراض المعدية، سواء تلك الموجودة بالفعل أو الناشئة. وأخيرًا، يقترح الكتاب الذي يأتي في ثمانية فصول مجموعة من الآليات التي يمكن من خلالها تقييم النتائج الصحية عن حركة التنقل والهجرة، وتلك المتأثرة بالمساواة في تقديم الرعاية الصحية من عدمها. وكذلك تحليل كيف يمكن للدوران العالمي للخبرة الصحية أن يساعد في تعويض النقص في مقدمي الرعاية الصحية وإثراء الخبرات المشتركة. 

السفر بحثًا عن الرعاية الصحية

يحاول الكتاب التأكيد على الروابط المباشرة وغير المباشرة بين الهجرة والصحة العالمية، حيث يرى أنهما يرتبطان ببعضهما بطرق متعددة ومتنوعة. فبطريقة غير مباشرة، قد يترتب على انتقال بعض الأشخاص عبر الحدود الوطنية إلى دولهم حصولهم على بعض العلاجات المكملة. كما أنه قد يتسبب -في الوقت ذاته- في انتقال بعض مسببات الأمراض إليهم. أما على الجانب الآخر، فإن هناك بعض الأشخاص الذين ينتقلون عن عمد ويستثمرون في الخارج بحثًا عن العلاجات المطلوبة أو الرعاية الصحية، وهو ما يمكن تسميته "الرعاية الصحية العابرة للحدود الوطنية" (Transnational Care).

ويستعرض الكتاب مفهوم السفر الطبي عبر الحدود (Transnational Medical Travel) باعتباره أحد أشكال التأمين الصحي الذي يعكس مظهرًا متزايدًا من التنقل غير المتكافئ بين الأشخاص، حيث إن البعض يمتلك تلك الإمكانية غير المتوفرة لغيره من المواطنين، أي إنها ترتبط في الغالب بمرضى ذوي مستوى من النفوذ المادي والسلطة، حيث توجد خيارات النظام الصحي والتأمين الصحي للمهاجرين عبر الحدود في الاتحاد الأوروبي. كما أبرمت جنوب إفريقيا اتفاقيات ثنائية مع 18 دولة، بما في ذلك موزمبيق وبوتسوانا وليسوتو وزيمبابوي، والتي تمكن مواطنيها من الحصول على علاجات طبية متخصصة في جنوب إفريقيا بأسعار مدعومة. ومن ثم، تتعدد أشكال الحصول على الخدمة الصحية عبر الانتقال للخارج، باعتباره فرصة سواء كانت عبر أحد أشكال التأمين الصحي للعلاج في الخارج أو السياحة العلاجية (أصبحت صناعة ضخمة تتسع لأكثر من مليار سائح سنويًّا) أو الخدمات الصحية التي تقدمها الشركات عبر الوطنية أو الصحة الإلكترونية (E-health). وفي كل تلك الأشكال تلعب الشبكات دورًا حاسمًا، حيث يتحمل المستهلك الفردي الجزء الأكبر من عبء الحصول على الخدمات الطبية المعولمة، إلا أن العنصر الأساسي للحصول على تلك الخدمات يرتبط في الأغلب برأس المال الاجتماعي عبر الوطني، وهو مورد يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالامتيازات التي يتمتع بها الأشخاص والطبقة الاجتماعية. 

كما يؤكد "ستيفن ماو" و"جان ميويس"، أن الأفراد الذين حصلوا على مستوى مرتفع من التعليم وتمكنوا من الحصول على مناصب مهنية رفيعة، يكونون أكثر قدرة على التنقل، مما يزيد من فرص إجراء المزيد من العلاقات مع عدد متزايد من الأشخاص الآخرين خارج دولهم، الأمر الذي يسهل لهم إمكانية الحصول على الرعاية الصحية في خارج دولهم، أو اتخاذ قرارات اختيار من يمنحونه تلك الفرصة عن غيرهم.

التحديات الصحية للاجئين والمهاجرين 

أصبحت النزاعات المسلحة قضية صحية عامة بالأساس، وهو الأمر الذي بدا واضحًا في تقرير الاتجاهات العالمية الصادر عن المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين لعام 2016، حيث تبين أن عدد الأشخاص الفارين من النزاعات المسلحة أصبح أكثر من أي وقت مضى على مدار التاريخ، وأن الغالبية العظمى من ضحايا النزاعات المسلحة المعاصرة هم من المدنيين. علاوة على ذلك، فإن معظم المهاجرين النازحين بسبب النزاعات هم من دول الجنوب. وقد تناول الكتاب الآثار الصحية لهؤلاء المهاجرين نتيجة للصراعات، التي تشمل التأثيرات على الصحة البدنية والعقلية نتيجة للنزوح الداخلي غير الطوعي أو الهجرة، بالإضافة إلى الظروف الصحية في المخيمات والمستوطنات التي قد لا توفر بيئة آمنة لهم. ويعرض الكتاب لقضية شديدة الخطورة، وهي زيادة وتيرة استهداف وتدمير المنشآت الصحية أو الأطقم الطبية في مناطق الصراعات كإحدى استراتيجيات "الحرب الشاملة".

ويطرح الكتاب مقاربة جديدة للصحة باعتبارها جسرًا للسلام بدلًا من كونها نتيجة سلبية للصراع، وهو الاتجاه الذي يتبناه النظام الأساسي لمنظمة الصحة العالمية، والذي ينص على أن "صحة جميع الشعوب أمر أساسي لتحقيق السلام والأمن". ويرى الكاتب أن تحقيق هذا التحدي يبدأ من خلال القيام بجهود منسقة في المراحل الأولى لمعالجة العوامل الهيكلية عبر الوطنية التي تقوض الصحة العالمية، وهو ما يعني اتباع الإجراءات الوقائية التي تعالج المحددات السياسية والاجتماعية المتعددة التي تؤدي إلى "اندلاع العنف".

تحديات أمام المهاجرين 

يشكل المهاجرون الضعفاء الذين يفرون من أوضاع اقتصادية وبيئية واجتماعية صعبة في دول الجنوب، حوالي خُمس الهجرة الدولية. وتشمل تلك القائمة المهاجرين غير الشرعيين، حيث إن أعدادهم في تزايد مستمر، إلا أنها لا تشمل اللاجئين أو المهجرين نتيجة للنزاعات. وهنا يرى الكاتب أن هؤلاء المهاجرين قد يكونون أكثر تعرضًا لحالات الطوارئ الصحية ومعدلات الوفيات المرتفعة مقارنة بالمهاجرين نتيجة النزاعات، نظرًا لعدم وجود صكوك ملزمة قانونًا أو تدابير حماية سياسية تغطي نزوحهم وتنقلهم. فعلى سبيل المثال، وجدت مؤسسة "هيومن رايتس ووتش" أن العمال المهاجرين الذين يعملون على متن سفن الصيد التايلندية لا يمكنهم المغادرة غالبًا لأن أصحاب القوارب والوسطاء يحتجزونهم في العمل الجبري. أيضًا، تتزايد حالات الوفاة بين المهاجرين غير الشرعيين نتيجة لعدم توافر الظروف الصحية المناسبة أو الخدمات الصحية. وينطبق الأمر كذلك على الظروف الصحية للمهاجرين في مراكز الاحتجاز حيث يتعرضون لظروف معيشية غير لائقة، الأمر الذي يفرض أعباء والتزامات إضافية على السياسات الصحية للهجرة في دول الشمال، وأدوار الحكومات المضيفة، والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، والمنظمة الدولية للهجرة، والصليب الأحمر، ومنظمة أطباء بلا حدود، ومنظمات غير حكومية أخرى.

دور دول الشمال

تشمل الآثار غير المتكافئة للتنقل على الصحة العامة مجموعة من القضايا، مثل: الفحوصات الصحية قبل الهجرة، والصحة في مكان العمل، والتحديات والتوقعات المتعلقة بالرعاية الصحية البدنية والعقلية في الدول المستضيفة. وبشكل عام، يمكن القول إن سياسة توفير الرعاية الصحية الفعالة للمهاجرين وإتاحتها، تعد مهمة للمجتمع ككل، حيث إن جميع أفراد المجتمع يتأثرون بالحالة الصحية السيئة لأعضائه الأقل صحة. وبناءً عليه، يحتاج واضعو السياسات إلى الاهتمام بدعوة منظمة الصحة العالمية لإجراء مناقشة صريحة بين القطاعات حول التكاليف المجتمعية الأوسع لصحة المهاجرين الفقراء، حيث إنه من الضروري توسيع نطاق الاستفادة من المعرفة الطبية والنفسية والمعارف ذات الصلة لجميع الشعوب لتحقيق أهداف الصحة العالمية على أكمل وجه. ويتطلب الحد من التأثير السلبي لعملية الهجرة على الصحة الفردية والمجتمعية الانتباه إلى المخاطر والضغوط التي تواجه المهاجرين المستضعفين والسكان المضيفين كجزء من عملية التكيف مع البيئة الجديدة. 

وقد نوه الكاتب إلى أنه من ضمن التوجهات الإيجابية في ذلك السياق حركة المستشفيات الصديقة للمهاجرين في أوروبا، والانتقال إلى النظم الصحية الشاملة للمهاجرين، حيث يستفيد الوافدون والمضيفون من التشخيص والعلاج المبكر والفعال دون وصم الأمراض المعدية وغير المعدية بالمهاجرين.

علاوة على ذلك، حان الوقت لإعادة توجيه إجراءات جديدة واستباقية، وهي تلك ذات الصلة بالتوسع في نقل التربية الطبية والتعليم الصحي من الشمال إلى الجنوب. وتقدم عمليات تعليم وتدريب الكفاءات عبر الوطنية TC (Transnational Competence) منهجًا قائمًا على الكفاءة وشاملًا في النطاق، وقابلًا للتكيف مع مجموعة واسعة من مستخدمي الخدمة ومواقع الممارسة حول العالم، وهو ما يُعزز من عوائد وجودة الرعاية الصحية للمهاجرين وغيرهم. 

وفي حين أن ذلك المنهج قد يقدم استجابة مناسبة للرعاية الصحية للمهاجرين في ظل ظروف معينة، إلا أنه لا يعالج الأسباب الأساسية لعدم المساواة الصحية، بل إنه يشكل وسيلة للتحايل على نقص الحماية الاجتماعية عبر الوطنية. إلا أن هناك حاجة إلى تفعيل نهج الحوكمة العالمية في العلاقة بين سياسات الصحة والهجرة. 

روابط الهجرة والصحة والتنمية المستدامة 

أما عن الروابط التبادلية بين الصحة والهجرة من منظور تحديات التنمية المستدامة في الدول الفقيرة، فقد أوضح الكاتب أن تشوهات الرعاية الصحية تُعزى إلى التدفق القاتل للخبرة من الجنوب إلى الشمال، وعدم عودة تلك الخبرات، والاستنزاف الداخلي لأخصائيي الرعاية الصحية، وتداخل المهام الطبية والإدارية، ووعود الهجرة الدائرية. ومن ثم، فإن تحسين مستويات الصحة العامة في سياق دول الجنوب يتطلب إجراءات متزامنة على جبهات متعددة وعبر قطاعات متعددة. حيث يلزم بذل جهود لمعالجة الأمراض المعدية وغير المعدية، والتغلب على الفقر من خلال تضافر جهود جميع الجهات، وتدخل المنظمات غير الحكومية، وتشكيل حلقة تغذية مرتدة إيجابية بين الحد من الفقر وتعزيز قدرات النظام الصحي. كما اقترحت لجنة لانسيت في عام 2013، أن الزيادات الكبيرة في التمويل الدولي والوطني للبحوث والتدخلات الصحية التي تهدف إلى الحد من الأمراض التي تؤثر بشكل غير متناسب على دول الجنوب ستنتج عنها "عوائد هائلة" من حيث تخفيض معدل الوفيات والتنمية الاقتصادية المستدامة. ويوفر الانتقال وسيلة واعدة للتقدم في مواجهة التحديات الصحية وتحقيق التنمية في الجنوب، وذلك عن طريق إشراك المغتربين في عمليات الرعاية الصحية، ونقل تلك الخبرات إلى دولهم. 

مسببات الأمراض عبر الحدود

يشير الكاتب إلى أن هناك مجموعة من العوامل التي تتضافر فيما بينها لتشكل نواة لاحتمالات انتشار الأوبئة العالمية، ومن بينها انتقال الأمراض الحيوانية إلى الإنسان، وعدم المساواة في الصحة العامة، وتحديات الأمن الصحي والبيولوجي، وديناميات التنقل عبر الحدود؛ حيث إن تلك العوامل -كل على حدة- تعد من موضوعات النقاش التي تثير مخاوف دول الشمال من احتمالات انتقال الأمراض المعدية الناشئة والمستجدة (ERIDs) من دول الجنوب، حيث تحاول الاستفادة من الدروس السابقة لأزمات انتشار كل من سارس وإيبولا. ويتم في ذلك الاستعانة بالتطبيقات المستقبلية للبحوث الطبية التي تقوم بها منظمة أطباء بلا حدود، وتحسين الحماية المقدمة للعاملين في مجال الرعاية الصحية، وكيفية تحقيق التعبئة السريعة للموظفين والموارد، للحد من انتشار العدوى من قبل المسافرين والمهاجرين.

ويناقش الكتاب ضمن ذلك الجزء أن عمليات التنقل عبر الحدود توفر سرعة في انتشار الأوبئة، الأمر الذي يصعب معه إيقاف أي وباء عن الانتشار، حيث استعرض الكتاب ضعف جدوى الحجر الصحي والعزلة والاستبعاد الاجتماعي في عالم يحركه التنقل. هذا إلى جانب التحديات التي تواجه عمليات إنتاج اللقاحات في مواجهة أي فيروس جديد، وتوزيعه، وتحديات توفير أجهزة التنفس ووحدات العناية المركزة والموارد النادرة الأخرى. 

وأشار الكتاب إلى الدور المتوقع لكل من العيادات المطورة، وعمليات مراقبة تطور الفيروسات، وتكنولوجيا المعلومات، والاستجابات المحلية في الكشف عن الفيروسات في المراحل الأولية؛ حيث استخدام تقنيات المراقبة الرقمية المتقدمة التي تعتمد بشكل كبير على مصادر المعلومات غير الحكومية للتنبؤ بالأمراض المعدية الناشئة والمستحدثة، مثل مجموعة عمل التنبؤ الفيروسي العالمي (GVF)، وخريطة الصحة العالمية (HealthMap) التي تحاول البقاء خطوة متقدمة على احتمالات تحور الفيروسات وتفشي مسببات الأمراض. وتقوم بعض المشروعات مثل (Bio.Diaspora)، وهو مشروع تابع لجامعة تورنتو، بالعمل على الدمج بين خريطة البيانات المتوفرة عن الأمراض المعدية مع بيانات عن أنماط السفر العالمية. وبشكل عام، تعتمد هذه المبادرات الواعدة في المقام الأول على البيانات الموثوقة التي تم جمعها في المواقع الصحية المجهزة والتي يتم توجيهها بسرعة من المناطق النائية والمعزولة من قبل العاملين الصحيين المدربين والمتمرسين. 

ومع ذلك، فإن الأمر لا يعني منع أي وباء عن الانتشار بسرعة، وهو ما قد تترتب عليه أعداد هائلة من الوفيات، وذلك قبل أن تتمكن المراكز الطبية والدوائية من إنتاج أي علاج طبي فعال حتى في ظل تواجد برامج المراقبة الحالية. 

ولعل ذلك الاستنتاج الأخير الذي أشار إليه الكتاب هو أفضل ما يمثل الواقع الحالي لانتشار فيروس كورونا (Covid-19)، حيث تسببت حركة التنقل عبر الحدود دون المعرفة بوجود الفيروس في انتشاره بسرعة كبيرة لدول العالم كافة، الأمر الذي خلف أعدادًا هائلة من الوفيات، فيما لا تزال مراكز الأبحاث وشركات الأدوية عاجزة عن تطوير لقاح يمكنه منع انتشار الفيروس أو الحد من آثاره.

وقد أشار الكتاب بشكل مفصل لكافة الإجراءات التي يتم اتباعها حاليًا من حيث تطبيق التدخلات المرتكزة على المجتمع من خلال التعرف المبكر على الحالات، وتتبع الاتصال السريع للحالات المخالطة، ورصد الأفراد المعرضين لخطورة الإصابة بالفيروس، وتطبيق إجراءات التباعد الاجتماعي والعزل عن طريق إغلاق المدارس وإلغاء التجمعات الجماهيرية، وممارسات إجراءات مكافحة العدوى الشخصية (مثل: غسل اليدين، وارتداء الأقنعة، ووضع بدائل لعمليات المصافحة بالأيدي).

وبدلًا من وصم المهاجرين، يجب أن يَحدث نوع من التعاون الفعال بين كافة المتخصصين في مجال الصحة العامة، على أن تشمل المشاريع الصحية التعاونية العمل المختبري، والتحقيق الوبائي، وعمليات التشخيص، وإعداد التقارير، وإدارة التعرض للأوبئة، ومعالجة العينات. ويعتبر المنع والمعالجة السريعة (ما قبل الهجرة) من مصدرها من بين الاستجابات العالمية الأكثر فاعلية لانتقال الأمراض المعدية الناشئة والمستجدة، وهو الأمر الذي لم يتم في حالة فيروس كورونا نتيجة إخفاء الصين المتعمد لانتشار الفيروس داخلها لفترة كبيرة. لهذا السبب، فإن تعزيز النظم الصحية في البلدان الفقيرة، ومنع التدهور البيئي، وتعزيز المشاركة المجتمعية في سياسات الرعاية الصحية؛ تشكل مكونات أساسية للمضي قدمًا لتحقيق النجاح، بما يعالج عدم المساواة المتأصل في الرعاية الصحية.

وتحظى العلاقة بين التغيرات المناخية والصحة باهتمام متزايد في الدوائر الدولية. ففي عام 2009، أصدرت لجنة الصحة العالمية في لانسيت بيانًا يؤطر خطر تغير المناخ على الحياة البشرية كمسألة صحية. ويرى الكتاب أنه في بعض الحالات تعد الهجرة البيئية هي الملاذ الأخير، حيث إن هناك ضرورة للتفكير في إعادة التوطين الجماعي للمهاجرين البيئيين في أماكن صحية بشكل أكبر، الأمر الذي من شأنه أن يخفف من العجز الصحي الناجم عن نقص التغذية أو نقص المياه العذبة، وتجنب الأخطار المادية للظواهر الجوية والبيئات المادية المتدهورة. كما أنه يعزز الوصول إلى المرافق الطبية، وذلك في ظل غياب استجابات قوية وفعالة من جانب الحكومات للتخفيف من انبعاثات الغازات الدفيئة. 

مناهج المعالجة 

انطلاقًا من أن الصحة العالمية تعاني اليوم من نقص كبير في الممارسين الصحيين، لا سيما في إفريقيا، هذا بالإضافة إلى الثغرات في الكفاءة الطبية، وهو ما يؤدي إلى تفاقم معدلات الهجرة عبر الوطنية؛ فإن تعليم المهاجرين من الكفاءات عبر الوطنية في الشمال والجنوب، وكذلك الممارسين الصحيين، بما في ذلك العاملون في مجال الصحة المجتمعية؛ يعد وسيلة جيدة للارتقاء بالمستوى الصحي. أيضًا، قد يتم عقد الشراكات عبر الوطنية المتناظرة بين النظم الصحية، وتحديد أوجه الثغرات في النظم الصحية لدول الجنوب، وتقديم تقنيات الصحة المبتكرة التي تعمل على تعزيز التعليم الطبي، ورفع قدرة منظومة الصحة العامة في الجنوب، واستكشاف الآفاق التي يمكن أن يلتزم بها المتطوعون والمتنقلون عبر الحدود الوطنية وتحفيز مكاسب الصحة المجتمعية في الجنوب. الأمر الذي يجعل من التعاون شعارًا أساسيًا لتعزيز الصحة العالمية بشكل عام، وهو ما يحتاج إلى تحليل المحددات الاجتماعية والقرارات السياسية، والآليات الدولية المفروضة، ودمج المبادرات الصحية الوطنية مع تلك العالمية، وإقامة الشراكات المتناظرة في مجال البحوث، والتعلم التبادلي، والدعوات العامة للحفاظ على صحة المهاجرين.

وختامًا، يقدم الكتاب إطلالة واسعة الإطار دقيقة التفاصيل للعلاقة التبادلية بين كل من حركة التنقل البشري ممثلة في الهجرة وغيرها والصحة العالمية؛ إلا أنه يصل -في النهاية- إلى أن تحقيق المساواة الصحية بين دول الشمال والجنوب هو الحل لمعالجة اختلالات كل من الصحة والهجرة، حيث إن الهجرة والتنقل البشري جعل من المخاطر الصحية أمرًا تشترك فيه الدول جميعها، فنحن جميعًا نسكن نفس قارب النجاة الصحي. 

وقد طرح الكاتب مدخلًا لمواجهة حالة عدم المساواة الصحية من خلال التعليم والتدريب الصحي، وتبادل الخبرات المشتركة، لتعزيز نطاق الوصول للمعرفة الصحية، الأمر الذي يضع الدول على قدم المساواة ويوفر الحماية الصحية للجميع. 

بيانات الكتاب: 

Peter H. Koehn, "Transnational Mobility and Global Health: Traversing Borders and Boundaries", (London and New York: Routledge Taylor & Francis Group, 2019).