أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

معادلة الخبرة والخيال:

كيف يمكن استشراف المستقبل لدعم سياسات الدول؟

18 ديسمبر، 2018


عرض: رغدة البهي، مدرس العلوم السياسية، بجامعة القاهرة

مع تزايد التحديات والظواهر الأمنية والاجتماعية والسياسية التي تهدد ليس الدول وحدها، ولكن النظام الدولي ذاته، من تغير المناخ، والهجرة البشرية، والمساواة بين الجنسين، والتكنولوجيا الرقمية، وغيرها؛ ينصرف الباحثون والكتاب إلى التفكير في كيفية مواجهتها في المستقبل، لتقديم الحلول والبدائل لصناع القرار، أو إخبارهم بالظواهر المستقبلية التي سيتوجب عليهم مواجهتها. وكثير من قيادات بعض الدول المتقدمة تتبنى الأفكار المستقبلية التي يطرحها المفكرون والأكاديميون وتترجمها إلى سياساتٍ فعلية وفعالة على أرض الواقع. 

وفي هذا الإطار، تبرز أهمية الكتاب المعنون "أي مستقبل؟"، والذي يتألف من مجموعةٍ متباينة من المقالات التي تقدم جملةً من التصورات والتحليلات المستقبلية، سواء السياسية، أو التكنولوجية، أو البيئية، والتي سبق نشر كل منها في عددٍ من المجلات والدوريات الدولية. وعليه، يضم الكتاب 21 مقالًا، لكوكبةٍ من المؤلفين والباحثين. ويدور الكتاب في جوهره حول أبرز القضايا المستقبلية المهمة التي ستواجهها الدول خلال السنوات القادمة.

رؤيتان متضاربتان:

تنهض التنبؤات المستقبلية على رؤيتين متضاربتين؛ أولاهما متشائمة، وثانيهما متفائلة. ووفقًا للأولى، يتوقع انتشار الأمراض والأوبئة، وارتفاع منسوب البحار، وغرق المحاصيل، وتزايد معدلات الهجرة البشرية، وإغلاق الحدود القومية بين الدول، وتهديد التنوع البيولوجي. وفي إطار الثانية، يسود التفاؤل، ويتوقع تزايد الابتكارات التكنولوجية والاكتشافات العلمية، على نحوٍ يحقق التقدم والرفاهية للإنسانية.

وبصرف النظر عن الرؤيتين السابقتين، يعد المستقبل صناعة بشرية، سواء كان للأفضل أو الأسوا. ولا شك في التصادم المرتقب بينه وكافة القضايا الأخلاقية، والسياسية، والثقافية. وهو ما يدعو للتساؤل عن أخلاقية دراسات الجينوم البشري، وطبيعة المدن التي يجب إنشاؤها مستقبلًا في ظل تدهور السواحل وتآكل الشواطئ، وكيفية استخدام المواد الطبيعية المتاحة، وآليات إدارة أسواق التعدين الفضائي والاستفادة منها، وغيرها. وتتطلب كافة تلك التساؤلات اتخاذ خطواتٍ نحو مستقبل يعود بالنفع على البشرية جمعاء، وهو ما يتطلب بدوره تخيل واستكشاف احتمالات المستقبل بأكبر قدرٍ ممكن من الدقة.

ويرتبط ذلك بما يُسمى "المعارك التخيلية"، وإعمال الخيال العلمي لرسم الخرائط المستقبلية، تمهيدًا لترجمتها إلى سياساتٍ فعلية على أرض الواقع. كما أن استكشاف مختلف الرؤى المستقبلية من شأنه أن يُلقي الضوء على الاهتمامات والآمال المشتركة.

التغيرات البيئية:

تنهض أطروحة "روس أندرسون" في مقاله المعنون "مرحبًا بكم في حديقة العصر الحديث" على إمكانية التنبؤ بالمستقبل من خلال إحياء الماضي. وبتسليط الضوء على التغيرات المناخية، جادل بأن مواجهة تلك التغيرات تتطلب الوقوف على سمات وخصائص العصر الجليدي الأخير.

وبدلًا من التركيز على النظام البيئي بأكمله، جادلت "سارة لاسكو" بأن النظر للمستقبل يتطلب إعادة النظر في طبيعة الأشياء. ولذا، يتحتم التساؤل عن مصادرها، ومصيرها، وصيرورتها، مستدلةً على ذلك بكيفية صناعة الكراسي من الأشجار الصغيرة. ووفقًا لها، يعني إعادة تشكيل العالم الإيمان بخططٍ مستقبلية طويلة الأمد، تؤثر بدورها في الخطط الراهنة. فمثلًا، تؤثر المجتمعات الحديثة والمزارع المستحدثة على المستقبل بطرقٍ لا يمكن لأحدٍ التنبؤ بها.

ويستكشف مقال "روس إكسو آدمز" كيف تسيطر البيئة المحيطة على أجسادنا، على نحوٍ يقيد الاحتمالات السياسية، ويبرز طبيعة المباني والمدن بطرقٍ مبتكرة. وهو ما يسلط الضوء على أحد المفاهيم الجديدة التي برزت بين المعماريين ومخططي المدن، ألا وهو "هندسة المرونة". ويسلط ذلك المفهوم الضوء على كيفية إيجاد طرق حديثة لحماية السواحل المعرضة للخطر، من خلال الحواجز والموانع الصناعية. وهو ما يعني أن الكيفية التي تتم بها مواجهة التغيرات المناخية، تشكل بدورها المستقبل بطرقٍ غير متوقعة.

وفي السياق ذاته، تسلط "أوليفيا روزاني"، في مقالها المعنون "كسر الأمواج"، الضوء على تداعيات التفكير المستقبلي على زعزعة استقرار الحاضر، وخلق إحساسٍ زائفٍ بالأمن والسيطرة. ذلك أن الدراسات المتعمقة للأمواج ومنسوب البحار والتغيرات المناخية على سبيل المثال، قد تُعزز الاعتقاد الزائف بالإلمام بالمعرفة والسيطرة على الطبيعة، مما يؤثر بدوره في الكيفية التي تواجه بها تلك التغيرات.

التطورات التكنولوجية:

يجادل "إد فيين" في المقال المعنون "كيف تغير التنبؤات المستقبل؟" بأن التكنولوجيا التي نتفاعل معها كل يوم تغيّر الطريقة التي نتعامل بها مع المستقبل. ويُدلل على ذلك بمحرك البحث "جوجل". وتدلل حالة أستونيا على التقدم التكنولوجي الهائل ممثلًا في الحكومة الافتراضية، والتصويت الإلكتروني، والأمن الجماعي، والمواطنة بلا حدود، والسجلات الصحية الرقمية. ففي مقاله "أستونيا.. الجمهورية الرقمية"، دفع "ناثان هيلر" بأن حكومة أستونيا اعتمدت نظامًا يوفر الأموال والوقت من ناحية، ويطبق استراتيجية جيوسياسية متقدمة من ناحيةٍ أخرى. فإذا اندلعت الحرب بين روسيا وأستونيا على سبيل المثال، وفي ظل ذلك التقدم التكنولوجي الهائل، استطاعت الأخيرة "إدارة الدولة عن بعد".

وعلى بعد 2500 ميل في الصين، تم توظيف التكنولوجيا في اتجاهٍ معاكس لحالة أستونيا. فقد طبقت الصين نظامًا صارمًا لمراقبة كافة تحركات المواطنين. وهو ما خلُصت إليه "ميجا راجاجوبالان" في دراستها المعنونة "هذا هو ما تبدو عليه الدولة البوليسية في القرن الحادي والعشرين حقًّا". وتكشف فيها عن طرق الاحتجاز التي تستخدمها التكنولوجيات الجديدة في مراقبة وحماية الأقلية الأويغورية يوميًّا، مما يضخم من سيطرة الدولة على إحدى الأقليات المضطهدة بالفعل. ويجد هذا النظام أواصره في الولايات المتحدة التي تراقب بالفعل البطاقات الائتمانية، والمشتريات الخاصة، والاحتياجات الطبية لمختلف المواطنين في ظل نظامٍ محكمٍ من الرقابة الإلكترونية.

وتتساءل "لورين سمايلي" في مقالها المعنون "شخص ما يراقبني: ماذا يحدث عندما نسمح بالرعاية التقنية لآبائنا المسنين"، عن موقع كبار السن من التكنولوجيا، وهل تستخدم لمراقبتهم أم لتحسين حياتهم المعيشية؟. ومن الأمثلة البارزة على استخدام التكنولوجيا لتحسين حياة كبار السن تقنيات التحكم في الذاكرة. ففي "مستقبل التذكر"، تتساءل "راشيل ريديرر" عن مستقبل تلك التقنيات والمتحكمين بها.

مستقبل النيوليبرالية:

في المقال المعنون "ما الذي سيقتل النيوليبرالية: حلقة نقاشية حول مصيرها؟"، حاول عدة مؤلفين الإجابة على ذلك التساؤل؛ فافترض "برايس كوفر" انهيار النيوليبرالية تحت وطأة أزمة الرعاية الصحية، ويقصد بها عدم قدرة المواطنين على تلبية احتياجاتهم الصحية المتزايدة، أو رعاية أبنائهم المرضى أو كبار السن، بفعل الظروف الاقتصادية السائدة. بينما رأى "بول ماسون" أن النيوليبرالية ستنتهي بنهاية العولمة ونهوض القومية الاقتصادية. وفي الوقت ذاته، جادل "بيتر بارنز" بأن الدخل الأساسي العالمي من شأنه أن يقود إلى نموذجٍ اقتصاديٍ واجتماعيٍ جديد. 

وتشير "جويل جامبل" إلى الاستجابات الشعبوية للنيوليبرالية؛ فمع صعود اليمين، تنذر الشعبوية بدولٍ متمردة. ومع صعود اليسار، يمكن للنزعة الشعبوية إعادة توزيع الثروة والسلطة بشكلٍ شامل، ذلك أن صعود النيوليبرالية يشبه إلى حدِّ كبيرٍ القوانين الطبيعية. فوفقًا للتجارب التاريخية، تنتهي المجتمعات التي ينتفي بها التوزيع العادل للثروة في نهاية المطاف إلى الانهيار الاقتصادي والاجتماعي على اختلاف أشكاله. وهو ما يبشر إجمالًا بمستقبلٍ هشٍّ، لا تصمد معه الهياكل الاقتصادية والسياسية الراهنة. ومن ثم، تتوقف مسألة الإصلاح الشامل على متى؟ وكيف؟ وليس لماذا؟.

ومن بين تلك الإصلاحات، يركز "بريشن روجرز" في مقاله المعنون "الدخل الأساسي في مجتمعٍ عادل" على الإصلاح الطبقي، استجابةً للفقر المتزايد، والميكنة المتزايدة للصناعة في جميع أنحاء العالم. ففي ذلك السياق، تتزايد الحاجة إلى العمل المنتج الذي يُعزز الهياكل الرأسمالية للعمال والرؤساء من خلال الميكنة، وهو ما يتطلب سياساتٍ جادة لمواجهته، وجعل المستقبل أفضل.

الطريق للمستقبل:

أوضح "باتريك بلانشفيلد" أن النظر إلى الماضي هو الطريق الوحيد لرؤية المستقبل. وجادل بأن معالجة العنف المسلح في الولايات المتحدة على سبيل المثال يتطلب البحث طويلًا وبقوة في العلاقات المتداخلة بين الرأسمالية والنزعة العسكرية الأمريكية. ووفقًا له، لا يكمن جوهر القضية في تخيلاتنا المستقبلية، ولكن كيف تسفر تلك التخيلات عن تجاهل تراث ماضينا وواقع حاضرنا.

ويؤكد "سام نايت" في مقاله المعنون "انهيار جسر لندن: الخطة السرية للأيام التي تلي وفاة الملكة" على ضرورة ترك الهياكل القديمة، وإتاحة المجال لظهور أشكالٍ جديدة من السياسات المعاصرة. مشيرًا إلى أن الهياكل القديمة للبيروقراطية التاريخية والاستعمار تتقدم إلى المستقبل بخطى ثابتة.

وتتطلع "ليديا يوكنافيتش" في مقالها المعنون "الذاكرة المدنية: المستقبل النسوي" إلى الأمام، في محاولة لإلقاء الضوء على مستقبل النسوية. فتساءلت عن مستقبل المرأة في الولايات المتحدة، وهو ما يتطلب بدوره النظر في تاريخها، وأوضاعها المعاصرة. وفي السياق ذاته، تؤكد "وليدة إيماريشا" على أهمية تدوين الماضي والمستقبل، فالتفكير في الماضي ضرورة لرؤية المستقبل. فالتاريخ ليس خطيًّا، بل هو دائري وكروي. كما أنه يتواجد في عدة أماكن في وقتٍ واحد.

وختامًا، يكمن سر جاذبية المستقبل في الغموض وعدم اليقين الذي يكتنفه. هذا الغموض يمكن الحد منه وتقويضه من خلال التجارب الحياتية، والخبرات التاريخية والمعاصرة من جانب، والخيال الاجتماعي، والهياكل السياسية القائمة من جانبٍ آخر. ودون تحديد حقائق اليوم، ودون الاعتراف بالمشاكل القائمة أو الإمكانات المتاحة، لن يكون المستقبل عادلًا أو إنسانيًّا، ولن تسهل السيطرة عليه، أو الخروج من دوائر المجهول إلى المعلوم.

المصدر:

Meehan Crist & Rose Eveleth (eds.), What Future: The Year's Best Writing on What's Next for People, Technology & the Planet, (United States: Unnamed Press, First edition, 2018).