أخبار المركز
  • بهاء محمود يكتب: (ضغوط ترامب: كيف يُعمق عدم استقرار حكومتي ألمانيا وفرنسا المأزق الأوروبي؟)
  • د. أحمد أمل يكتب: (تهدئة مؤقتة أم ممتدة؟ فرص وتحديات نجاح اتفاق إنهاء الخلاف الصومالي الإثيوبي برعاية تركيا)
  • سعيد عكاشة يكتب: (كوابح التصعيد: هل يصمد اتفاق وقف النار بين إسرائيل ولبنان بعد رحيل الأسد؟)
  • نشوى عبد النبي تكتب: (السفن التجارية "النووية": الجهود الصينية والكورية الجنوبية لتطوير سفن حاويات صديقة للبيئة)
  • د. أيمن سمير يكتب: (بين التوحد والتفكك: المسارات المُحتملة للانتقال السوري في مرحلة ما بعد الأسد)

صحيفة الحياة:

المدن الذكيّة تشهد تحوّلات تخرجها من أزمات الحياة الحضرية

16 أكتوبر، 2018


من يتابع شبكات التواصل الاجتماعي، يستطيع أن يلاحظ بسهولة مدى انبهار الجمهور العربي بالمُدُن الذكيّة التي يديرها الذكاء الاصطناعي، خصوصاً تجاربها في دول الخليج العربي، ولعل دبي مثل بارز عليها. وقبل فترة وجيزة، تداول جمهور الـ «سوشال ميديا» العربي أشرطة فيديو عن تجربة دبي كمدينة ذكيّة، منها شريط يُظهِر مركز شرطة ذكي يُدار بالشاشات الذكيّة والحواسيب ويكاد يكون خالياً من البشر. وأظهر شريط آخر مفهوم السفر الذكي، بمعنى السفر من دون جواز سفر ولا بطاقة طائرة، بل تجري تلك الأمور بواسطة بصمتي العين واليد.

وفي سياق اهتمام عربي بتلك الظاهرة، صدر ضمن «سلسلة دراسات المستقبل» عن «مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدّمة»، ورقة بحثيّة مهمّة عن «التحوّل نحو المُدُن الذكيّة في العالم: الدوافع التنمويّة والتهديدات الأمنيّة». ووضع الورقة الباحث إيهاب خليفة الذي يرى أن المُدُن الذكيّة تساهم في التغلب على مشكلات تقليديّة تواجهها المُدُن الكبرى عادةً. وتشمل مشكلات التلوّث البيئي، والاختناق المروري، والفساد الإداري، إضافة إلى تحسين جودة الخدمات، وحُسنْ إدارة الموارد، وخفض تكاليف التشغيل، وتقليص الهدر في الطاقة، وتحقيق أعلى درجات الأمان، وخلق مناخ حافز للابتكار، وغيرها من الأمور التي تساهم في تحقيق التنمية.

وأوردت الورقة أن تقريراً صدر عن «بنك أوف أميركا» في عام 2017 أشار إلى أنّ مُدُناً كسنغافورة ولندن ونيويورك وباريس وطوكيو يمكنها أن تخفض معدلات الجرائم واستهلاك الطاقة أيضاً بنسبة 30 في المئة عبر زيادة الاستثمار في تقنيّات المُدُن الذكيّة، كما يمكنها أيضاً خفض الهدر في الطاقة والازدحام المروري بنسبة 20 في المئة. ووفقاً للورقة البحثيّة، هناك فرص مهمّة يتيحها تأسيس مُدُن ذكيّة يساندها الذكاء الاصطناعي، تشمل ما يلي:

1- مواجهة التلوّث البيئي

يمكن للمُدُن الذكيّة أن تساعد في خفض الانبعاثات الكربونيّة والحد من التلوّث، عبر تبني صناعات نظيفة ومبانٍ صديقة للبيئة داخل المدينة الذكيّة، مع الاعتماد على طاقة نظيفة في الكهرباء وطاقات الشمس والرياح والمياه. ويشمل ذلك تبني نمط مواصلات ذكيّة للسيارات العاديّة والذاتيّة القيادة، بل خصوصاً مع استخدام المركبات للكهرباء وطاقة الشمس بديلاً من الوقود الأحفوري المُلَوِّث.

وتمتلك المدينة الذكيّة نُظُماً لإدارة المُخلّفات واستخراج الطاقة منها، بل إعادة تصنيعها، إضافة إلى التعامل الرشيد مع مياه الصرف والأمطار والزراعة. وكذلك تعمل النُظُم الذكيّة على الحفاظ على الموارد، وتقليص الهدر في الطاقة، على غرار نُظُم الإنارة الذكيّة التي تعمل وقت الحاجة حصرياً.

وفي المُدُن الذكيّة تعمل أجهزة استشعار على رصد درجات التلوّث في الهواء والماء في شكل فوري، وتقيس الحرارة والضغط الجوي والانبعاثات الكيماويّة والكربونيّة وأماكن تدفّقها بما يساهم في التغلّب على مشكلتي التلوّث والمُخلّفات.

2- التخلّص من الازدحام المروري

يقدم نموذج المدينة الذكيّة إطاراً عاماً للتغلّب على الازدحام المروري، بالاستفادة من التقنيّات التي توفّر معلومات دقيقة وفوريّة عن الازدحام المروري ونقاطه وأسبابه ومصادره. وتستند إلى «البيانات الضخمة» Big Data التي يجمعها الذكاء الاصطناعي بواسطة نُظُم استشعار في الطرقات، وكاميرات المراقبة، وإشارات المرور المؤتمتة التي تتفاعل مع تقلّبات حركة المرور. وإذا ازداد عدد السيارات في شارع ما، فإنها تعطي فرصة أكبر من الوقت للشارع المزدحم بصورة تلقائيّة.

ولا يحتاج تبني نُظُم المرور الذكيّة إلى ضخ استثمارات عملاقة أو إعادة هيكلة البنية التحتيّة للمدينة. إذ لا يتطلّب سوى نشر كاميرات وأجهزة استشعار في الشوارع والطرقات، وإنشاء غُرَف تحكّم وإدارة مركزية. وكذلك تساعد التقنيّات الذكيّة في تسهيل عمل السيّارات الذاتيّة القيادة بما توفره لها من معلومات دقيقة وفوريّة عن حال الطرقات والمركبات.

3- محاربة الفساد الإداري

تعتمد المدينة الذكيّة على عمل نُظُم إلكترونيّة تُساند الذكاء الاصطناعي. ويحصل الأفراد على الخدمات الحكوميّة والخاصة عبر تطبيقات ذكيّة لا يتدخل فيها العنصر البشري كثيراً، ما يقلّل إمكان الفساد. وحتى عند محاولة التلاعب بالنظام الإلكتروني لإجراء أعمال غير قانونيّة، يؤول الأمر إلى خلل يمكن اكتشافه وتحديد المسؤول عنه.

وإذا دعت الحاجة إلى تدخّل العنصر البشري، يمكن تحديد مستويات كل موظف وصلاحياته. وعند حدوث تخطٍّ للتعليمات، يتوقف النظام عن العمل، أو تظهر لدى المسؤولين إشارة تدلّ على وجود عمليات غير مكتملة أجراها ذلك الموظف، ما يساعد في تحديد الموظّفين الفاسدين.

وتخفض النُظُم الذكيّة الوقت والجهد المهدورين في فترات انتظار الانتهاء من المعاملات. إذ يستطيع الزبون تقديم طلبه عبر الإنترنت أو الهاتف الذكي، إضافة إلى تحميل المستندات المطلوبة، ودفع مصاريف الخدمة، ومعرفة مصير المعاملة، والمكتب الذي وصلته، والخطوات المتبقيّة لإنجازها. وفي حال حدوث تأخير ما، يظهر ذلك له، فلا تتوقف معاملته في أحد المكاتب البيروقراطية من دون سبب واضح، وتالياً لا يقتضي الأمر حضوره إلى المؤسّسات الرسميّة إلا في حال الضرورة.

4- حفظ الأمن داخل المدينة

في المدينة الذكيّة، تنتشر نُظُم وكاميرات المراقبة في الأماكن المختلفة كالشوارع والمحلات التجارية، والمؤسّسات الحكوميّة والخاصة، ومداخل المباني السكنيّة ومصاعدها. وتوجد الكاميرات في الأمكنة كلها عدا الشخصيّة منها، بل ربما وضع الأفراد أنفسهم كاميرات شخصيّة داخلها. ويعني ذلك أن محاولة تهديد أمن المدينة يقع تحت المراقبة، وفي حال حدوث جريمة يمكن التوصّل إلى الفاعل في غالبية الحالات. كذلك ربما يكون ممكناً التنبؤ بإمكان حدوث جريمة، بفضل نُظُم الذكاء الاصطناعي، ما يعطي فرصة لمنعها. ويعزّز ذلك دور «الاستخبارات العلنية» Open Source Intelligence التي تعرف اختصاراً بـ «أوزينِت» OSINT. ويقصد بذلك إمكان الحصول على معلومات استخباراتيّة بواسطة مصادر علنيّة وبطرق شرعية وقانونية، بالاعتماد على نُظُم إلكترونيّة وبرامج كومبيوتر يحركها الذكاء الاصطناعي.

وتستند «الاستخبارات العلنيّة» على فكرة رئيسيّة مفادها أن في عصر «البيانات الضخمة» يمكن الحصول على فيض من المعلومات عبر الأقمار الاصطناعيّة، وكاميرات المراقبة وشبكات التواصل الاجتماعي ومواقع الإنترنت، وتطبيقات جمع المعلومات الشخصيّة والحسابات المصرفيّة، وأجهزة الاستشعار المختصّة بجمع المعلومات في الشوارع والسيارات الذكيّة، إضافة إلى المعلومات المتوافرة في الصحف والدوريّات والقنوات التلفزيونيّة ومحطات الراديو، والكتب والدوريّات وغيرها. وتعمل برامج الذكاء الاصطناعي على تحليل تلك الكميّات الضخمة من البيانات وربطها بقواعد البيانات الحكوميّة ونُظُم الأمن في شكل متزامن وفوريّ، ما يساعد في الحصول على مؤشرات وتحليلات تساهم في الكشف المبكر عن الأزمات ووضع سيناريوات مستقبليّة للتعامل معها. وكذلك تساهم «الاستخبارات العلنيّة» في كشف الجرائم المختلفة ومعرفة مستويات الرضا العام عند الجمهور في وقتها الحقيقي داخل المدينة الذكيّة، ما يساهم في تحسين عملية اتخاذ القرار السياسي والأمني، وحفظ الاستقرار الداخلي أيضاً.

5- جذب الاستثمارات وتحفيز الابتكار

تتميز المُدُن الذكيّة بعناصر عدّة تجعلها جاذبة للاستثمارات الأجنبية مثل التنظيم الحضري المتميز والبنية التحتيّة المستندة إلى الذكاء الاصطناعي، والعنصر البشري المتعلّم، ومصادر الطاقة النظيفة. ويساند ذلك ثقافة كوزموبوليتيّة منفتحة على العالم، ما يجعلها محط أنظار الاستثمارات الأجنبيّة. وينجذب إليها السيّاح أيضاً بسبب رغبة الأفراد في رؤية التقنيّات الحديثة المتوافرة في المدينة وتجربتها.

وفي المُدن الذكيّة، يؤدي انتشار المعامل المفتوحة وحاضنات الأفكار، وفرص للاستفادة من أحدث التقنيّات في مجال النقل والاتّصالات والإدارة والمعيشة، إلى خلق مناخ حافز للابتكار يعطي الفرصة للمبتكرين ورواد الأعمال في الإبداع على مستويات تكنولوجيّة وعلميّة وفنيّة وغيرها، ما يدعم تحقيق مفهوم التنمية الشاملة.

6-تعزيز كفاءة إدارة الموارد:

تهتم المُدُن الذكيّة بحسن إدارة الموارد خصوصاً النادرة منها، التي تشمل الأراضي ومصادر الطاقة والمياه والموارد الطبيعيّة. إذ تحاول تلك المُدُن تقديم حلول أفضل في استغلال المساحات عبر التقدّم في تصميم المباني ومواقف السيارات لتستوعب أكبر قدر ممكن من الأفراد، إضافة إلى مراعاة توافر مساحات خضراء وبينيّة تحافظ على المدينة من التلوّث والازدحام.

وكذلك تساهم التقنيّات الذكيّة في الإدارة الشاملة للموارد المائيّة، بالتحكّم في درجة الفاقد والتلوّث وجودة المياه، فضلاً عن الوقاية من الفيضانات والكوارث الأخرى ذات الصلة بالمياه، بما في ذلك القدرة على التعامل مع تلك الكوارث بأقصى سرعة.

ما الذي يهدّد عمران المستقبل؟

وفقاً لورقة الباحث إيهاب خليفة «التحوّل نحو المُدُن الذكيّة...»، هناك تهديدات متنوّعة في المُدُن الذكيّة، بعضها تقليدي والآخر يتصل باعتماد تلك المُدُن على الذكاء الاصطناعي.

وتتمثل التهديدات التقليديّة في استهداف البنية التحتيّة للذكاء الاصطناعي فيها. ويشمل ذلك ضرب خدماتها الحكوميّة والخاصة، والتجسّس على الهيئات والمؤسّسات والأفراد، وشن حروب إلكترونيّة، والصراع للاستحواذ على الفضاء الإلكتروني وبسط السيطرة عليه لأغراض المراقبة والتجسّس وتهديد التجارة الإلكترونيّة والقطاعات الاقتصاديّة الحيوية في المدينة.

وتتسم البنية التحتيّة للمدينة الذكيّة باستنادها على تقنيّات ذكيّة تتطلب الاتّصال بخدمات الإنترنت في شكل مستمر، كمحطات الطاقة ومصافي البترول والمفاعلات النوويّة ومصانع الكيمياويات وأنظمة المستشفيات والخدمات الماليّة والمصرفية ونُظُم الاتّصالات والمواصلات والمرور، والبث التلفزيوني والإذاعي والملاحة الجوية والبحرية والأقمار الاصطناعيّة وغيرها. وفي حال استهداف تلك النُظُم المتقدّمة، يؤول الأمر إلى وقوع آلاف الضحايا في دقائق، إضافة إلى التسبّب بخسائر ضخمة.

ضربات مؤلمة

إذا استهداف «نظام التموضع العالمي» (يعرف باسمه المختصر «جي بي أس» GPS) الذي تعتمد عليه المواصلات البريّة والبحريّة والجويّة في المُدُن الذكيّة، أو جرى اختراق نُظُم إدارة المرور والتحكّم بالإشارات المروريّة، يترتب على ذلك وقوع الكثير من القتلى والوفيّات، بل توقّف الحركة كلياً داخل المُدُن، إضافة إلى خسائر اقتصاديّة مرتفعة. وتكون الخسائر أكبر عند اختراق نُظُم إدارة محطات الطاقة والوقود، نظراً لاعتماد مظاهر الحياة كلّها في المُدُن الذكيّة على الطاقة المُدارة بنُظُم إلكترونيّة.

وفي ذلك السياق، بثت وزارة الأمن الداخلي الأميركي أخيراً شريط فيديو لأحد الاختبارات التي أجرتها ونجح فيها قراصنة الكومبيوتر في استهداف مولد كهرباء عبر فيروس رقمي. وتبيّن أن باستطاعة ذلك الفيروس إرباك الموجات الكهربائيّة التي يعمل عليها المولّد، ما تسبّب في النهاية في انفجاره، كما أن معظم قطاعات الطاقة الحرجة كالكهرباء والبترول والسدود ومحطات الطاقة النوويّة يعمل بـ «نظام التحكّم الإشرافي وتحصيل البيانات»، وهي نُظُم كومبيوتر عملاقة تستخدم في إدارة المحطات الكبرى والسيطرة عليها، فإذا جرى اختراقها تكون العواقب كارثيّة.

ومن جانب آخر، تكون الخدمات الحكوميّة والخاصة في المدينة الذكيّة معرضة للتهديد. إذ يجري الحصول على الخدمات وإنهاء المعاملات عبر الهواتف والإنترنت، ما يعني أن تعرض تلك الخدمات لهجمة إلكترونيّة ناجحة يمكن أن يتسبّب في شلّل المعاملات الحكوميّة والخاصة، وتوقّف العمل في المؤسّسات كلها، مع تضرر ملايين المواطنين.

في السياق ذاته، يمثّل الاعتماد على التقنيّات الذكيّة في النُظُم الماليّة والمصرفية سلاحاً ذا حدّين. إذ تساهم في سرعة إنهاء المعاملات الماليّة وإجراء التحويلات النقديّة، ما يساهم في تنشيط الاستثمارات ودفع عجلة التنمية. ولكن يترتب على اختراق تلك النُظُم تهديدات لاستقرار المعاملات الماليّة وانتقاص من قدرة المدينة على المساهمة في تحسين الوضع الاقتصادي للدولة ودفع عجلة التنمية فيها.

ولما كانت المدينة الذكيّة مركزاً مالياً واقتصادياً في الأساس، فإن نجاح القراصنة في اختراق تلك النُظُم، سينتج منه تحويل بلايين الدولارات من مختلف حسابات الزبائن في ثوانٍ معدودة. وإضافة إلى الخسائر الماليّة التي تترتب على ذلك، هناك تهديدات أمنية أيضاً تتمثل في احتمال استخدام تلك الأموال في تمويل نشاطات غير شرعية أو حركات إرهابيّة.

وعلى رغم اتخاذ البنوك والمؤسّسات الماليّة إجراءات أمنيّة لحفظ حسابات زبائنها من محاولات الاختراق، فإن العنصر الأضعف في عملية التأمين هو الزبون ذاته. إذ يمكن أن يقع أفراد كثيرون ضحايا احتيال إلكتروني بواسطة رسائل مزورة تطلب منهم تحديث بياناتهم المصرفيّة لكن هدفها هو الاستيلاء عليها!

*نقلا عن صحيفة الحياة