أخبار المركز
  • د. إبراهيم فوزي يكتب: (المعضلة الروسية: المسارات المُحتملة لأزمات الانتخابات في جورجيا ورومانيا)
  • إسلام المنسي يكتب: (جدل الوساطة: هل تخلت سويسرا عن حيادها في قضايا الشرق الأوسط؟)
  • صدور العدد 38 من دورية "اتجاهات الأحداث"
  • د. إيهاب خليفة يكتب: (الروبوتات البشرية.. عندما تتجاوز الآلة حدود البرمجة)
  • د. فاطمة الزهراء عبدالفتاح تكتب: (اختراق الهزلية: كيف يحدّ المحتوى الإبداعي من "تعفن الدماغ" في "السوشيال ميديا"؟)

هسبريس:

كيف تتحكم "خوارزميات" وسائل التواصل الاجتماعي في عقول المستخدمين؟

08 يونيو، 2023


تصاعدت مخاطر وسائل التواصل الاجتماعي خلال العقد الأخير، إذ لم يعد الأمر قاصراً على مجرد سوء استخدام هذه المنصات في الترويج للتضليل المعلوماتي ونظريات المؤامرة، لكنه ارتبط بأحداث في أرض الواقع، مثل الاحتجاجات الشعبية، وأعمال الشغب، والجماعات المتطرفة، بل إن البعض ينسب انتصار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب عام 2016، جزئياً إلى وسائل التواصل الاجتماعي.

في هذا السياق، يقر ماكس فيشر، الصحفي في نيويورك تايمز الأمريكية، في كتابه “آلة الفوضى: القصة الداخلية لكيفية تجديد وسائل التواصل الاجتماعي لعقولنا وعالمنا”، بأنه على الرغم من الإحساس العام لدى مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي بالأضرار الناجمة عن هذه الوسائل. بيد أن حقيقة وامتداد تأثيرها أعمق بكثير من هذه الإدراكات السائدة، ويستند هذا الكتاب إلى مقابلات مع مئات الأشخاص الذين درسوا وسائل التواصل الاجتماعي أو تأثروا بها، وكذلك مع العمال والمديرين التنفيذيين في وادي السيليكون.

استراتيجية الفيسبوك

خلافاً للاعتقاد العام بأن وسائل التواصل الاجتماعي تعرض ما هو كائن بالفعل، أي إسهامات المستخدمين على هذه المنصات، إلا أنها فعلياً تعرض اختيارات أنظمة الذكاء الاصطناعي لكل منصة، اعتماداً على تمشيط كميات هائلة من المحتوى الموجود عبر الإنترنت، ومن ثم عرضها بطريقة فعَّالة وجاذبة بحيث تكون قادرة على إبقاء المستخدمين لأطول فترة ممكنة على المنصة.

هنا، يشير الكتاب إلى أن شون باركر، أول رئيس لشركة فيسبوك كان يعمل كـ “هاكر”، إذ شارك بتأسيس “Napster”، وهو برنامج لمشاركة الملفات وزع مستخدموه الكثير من الموسيقى المقرصنة إلى درجة أنه بحلول الوقت الذي أغلقته الدعاوى القضائية بعد عامين من إطلاقه، كان قد ألحق أضراراً هائلة بأعمال الموسيقى. على المنوال ذاته، لم تكن استراتيجية الفيسبوك مختلفة كثيراً عن “Napster” من وجهة نظر الكتاب، ولكن بدلاً من استغلال نقاط الضعف في صناعة الموسيقى، فإنها تفعل ذلك للعقل البشري.

تركز هذه الاستراتيجية بالأساس على استهلاك أكبر قدر ممكن من وقت المستخدمين واهتمامهم. وللقيام بذلك، تعمل منصة الفيسبوك على إعطائك القليل من الدوبامين مرة واحدة كل فترة، لأن شخصاً ما أعجب أو علق على صورة أو منشور أو أي شيء آخر، وهذا سيجعلك تسهم بمزيد من المحتوى، وبطبيعة الحال سيجلب لك المزيد من الإعجابات والتعليقات، وقد أطلق باركر على تلك العملية “حلقة التحقق الاجتماعي” “Social Validation Feedback Loop”، لأنها تستغل نقطة ضعف في علم النفس البشري.

بناءً عليه، تقوم منصات التواصل الاجتماعي بتصميم أفعالنا، وعادة ما تغير سلوكنا اليومي، تماماً كما أراد مصمموها. وتعد ميزة “Like” على الفيسبوك، والتي توجد بعض إصداراتها الآن على كل المنصات، بمثابة المحرك الذي يعطي لهذه المنصات قوة هائلة على سلوكنا. إذ لا يقتصر الأمر على “الإعجابات”، لكنه يرتبط بتوفير القيمة الاجتماعية التي يسعى الجميع لتحقيقها بشكل حثيث، حيث تأتي جاذبية هذا الزر الصغير والكثير من قوة وسائل التواصل الاجتماعي من استغلال شيء يسمى “مقياس الاجتماع”.

وقد نشأ هذا المفهوم من سؤال طرحه عالم النفس مارك ليري، حول الغرض من احترام الذات، وتستند نظريته، في هذا الإطار، على فكرة أن احترام الذات هي في الواقع مقياس نفسي للدرجة التي يدرك فيها الناس أنهم يحظون بالتقدير والقبول اجتماعياً من قبل الآخرين.

فالبشر هم من أكثر الحيوانات الاجتماعية تعقيداً على وجه الأرض، حيث تطوروا ليعيشوا في مجموعات أكبر بكثير من مجموعة المتابعين الذين يتم التفاعل معهم على وسائل التواصل الاجتماعي، ويسعى كل فرد للحصول على التقدير من قبل المجتمع المحيط به، وهذا ما أسماه عالم الأنثروبولوجيا براين هير “Brian Hare” “البقاء للأكثر حميمية” “survival of the friendliest”.

كانت النتيجة هي تطوير مقياس اجتماعي يعتمد على فكرة المراقبة اللاواعية لكيفية نظر الآخرين في مجتمعنا إلينا، حيث أشار هير إلى أننا نعمد إلى فعل المزيد من الممارسات التي تعظم من مكانتنا وتقدير مجتمعنا لنا، والأهم من ذلك، إظهار أن الدافع لهذه الممارسات هو داخلي بالأساس، فإذا أدركنا، على المستوى الواعي، أننا نستجيب للضغط الاجتماعي، فقد يبدو أداؤنا أقل إقناعاً.

الخوارزميات والغضب

إذا ما تم إعطاء كافة المنشورات على منصات التواصل الاجتماعي، كفيسبوك أو تويتر أو يوتيوب أو Reddit، وزناً متساوياً، فإن منشورات المتعصبين سيكون لها تأثير ضئيل، لذا تعمل هذه المنصات، سعياً وراء المكاسب المادية من الإعلانات، على الترويج للمواد التي تحصل على أكبر قدر من المشاركة، من خلال الخوارزميات التي تحدد ما نراه عندما نزور أحد هذه المواقع، حيث تم تصميم هذه الخوارزميات وفقاً لاهتماماتنا، ولتعرض لنا المزيد مما شاهدناه وأعجبنا.

كما تستخدم هذه الأنظمة الأساسية محركات التوصية التي تعرض لك محتوى آخر مرتبطاً باهتماماتك، وكذلك المحتوى الذي يحظى بقدر كبير من المشاركة، وغالباً ما يكون هذا مثيراً للشهوة ويولد الخوف أو الغضب، وهذا يمكن أن يقود الناس إلى مجموعات تشارك هذا الغضب، والانفصال عن المجتمع والعالم الحقيقي.

لذا، تشير التقديرات إلى تورط منصات وسائل التواصل الاجتماعي في موجات العنف والاضطرابات السياسية الأخيرة في أوروبا وآسيا وأمريكا اللاتينية والولايات المتحدة الأمريكية، حيث تعمد مواقع مثل: فيسبوك أو تويتر أو يوتيوب أو Reddit إلى استقطاب الخطاب السياسي والترويج لنظريات المؤامرة، ونشر المحتوى المتطرف، كما سمحت هذه المواقع لـ “المجانين” المنعزلين بالعثور على بعضهم بعضاً. وتكمن جذور المشكلة في العقلية الموجهة نحو الربح وغير الأخلاقية لقادة وادي السيليكون الذين يعملون تحت مظلة “الحرية الكاملة للتعبير”، والخوارزميات المصممة بالأساس لزيادة مشاركة المستخدم إلى أقصى حد.

في هذا السياق، أجرى بعض الباحثين تجربة على عينة من المشاركين على منصات التواصل الاجتماعي، حيث تم إخبار نصف الأشخاص بإرسال تغريدة تعبر عن غضبهم، وقد عمد الباحثون إلى إظهار وجود إعجابات ومشاركات كثيرة لهذه التغريدات، وسرعان ما بدأ المشاركون في نشر المزيد من التغريدات الأكثر غضباً، حتى من قبل أولئك الذين تم تحديدهم مسبقاً على أنهم يكرهون الغضب، ظناً منهم أنهم حصلوا على تعليقات إيجابية حقيقية من مجتمعهم.

كما أظهرت نتائج هذا البحث أن الأشخاص موضع البحث قد أصبحوا أكثر عرضة للغضب في حياتهم الطبيعية بعيداً عن وسائل التواصل الاجتماعي. وفي الواقع، تحدث هذه العملية التدريبية لنا جميعاً باستمرار، وهي أكثر من مجرد غضب يتم غرسه في داخلنا.

اضطرابات واسعة

مثلما أسهمت عمليات البث الإذاعي المليئة بالكراهية في إثارة الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994، أدت أيضاً منشورات فيسبوك، بناءً على التحيزات القائمة، إلى مذبحة مسلمي الروهينغا في ميانمار، كما أطلقت العنان للعنف ضد المسلمين في سريلانكا، وأعمال شغب مناهضة للاجئين في ألمانيا، فضلاً عن تأجيجها لمظاهرة شارلوتسفيل العنيفة لعام 2017 في الولايات المتحدة، وكذا هجوم 6 يناير 2021 على مبنى الكابيتول. ولا تبدو هذه الظواهر المتنوعة مجرد نتيجة للمعلومات الخاطئة والتصريحات التحريضية التي ينشرها المتعصبون على وسائل التواصل الاجتماعي، لكنها قد تعكس وجود خطة مقصودة تستهدف حشد الجمهور نحو أهداف محددة، وفقاً للكتاب.

وقد أشار بعض الموظفين داخل بعض شركات التكنولوجيا العملاقة، كجوجل وفيسبوك وتويتر، إلى أن الخوارزميات التي تم إنشاؤها لزيادة التفاعل كانت تؤدي أيضاً إلى تطرف الناس، حيث توصي بمقاطع الفيديو والمجموعات والمقالات الأخرى التي تتخذ نهجاً مستقطباً لأي موضوع بدأ الناس في إظهار الاهتمام به، بواسطة استخدام الذكاء الاصطناعي لهذه الخوارزميات، مما يزيد من انتشار المعلومات المضللة. ويؤدي ذلك بدوره في النهاية إلى بعض الإجراءات الراديكالية والعنيفة، وتجدر الإشارة إلى أن قوة وتأثير هذه الشركات تبدو أكثر انتشاراً وتأثيراً في دول العالم الثالث، في ظل ندرة توافر الأخبار.

في هذا الإطار، انتفضت سبع قرى في أجزاء مختلفة من إندونيسيا، لا علاقة لها ببعضها بعضاً، في وقت واحد ضد رجل بريء من خارج تلك القرى كان يسافر عبرها، واتضح لاحقاً أنها شائعة فيروسية واحدة ظهرت على فيسبوك، أتت في البداية من حساب صغير من دون جمهور حقيقي، لكن المنصة حددته – بنوع من الدقة التي لا يمكن أن تحددها سوى آلة مدربة على مليارات التفاعلات عبر الإنترنت – على أنها جذابة بشكل غريب، وهو ما أثار حالة من الذعر والغضب الجماعي.

مقاومة الإصلاحات

تستغل وسائل التواصل الاجتماعي، كفيسبوك أو تويتر أو يوتيوب، الضعف النفسي لإنشاء الخوارزميات التي تدفع المستخدمين العاديين إلى الآراء المتطرفة وقد أدت المبادئ التأسيسية للشركات، جنباً إلى جنب مع التركيز الضئيل على تعظيم المشاركة، إلى عالم غير مستقر للجميع. وعلى الرغم من التحذيرات المتكررة، بما في ذلك من موظفيها، قاومت منصات وسائل التواصل الاجتماعي الإصلاحات ولم تقم إلا بقدر محدود من الاعتدال، كما أدت عزلة المجتمعات أثناء وباء “كورونا” إلى تفاقم دور وسائل التواصل الاجتماعي باعتبارها آلة مُصممة لتشويه الواقع من خلال عدسة الصراع القبلي وجذب المستخدمين نحو التطرف.

وقد رفض عمالقة وسائل التواصل الاجتماعي التدخل بأي طريقة ذات مغزى، مدعين أنهم يدافعون عن حرية التعبير، في حين أن أكثر ما يقدرونه في الواقع هو تعظيم الأرباح، وهو ما تمخض عنه في النهاية تحول ثقافي نحو عالم يتم فيه استقطاب الناس ليس بسبب المعتقدات القائمة على الحقائق، ولكن بسبب المعلومات المضللة والغضب والخوف.

وقد بلغت درجة اللامبالاة لدى هذه المنصات أقصاها، فحتى عندما تلفت أبحاثهم الداخلية الانتباه إلى التأثير الضار للخوارزميات الخاصة بهم، لا يتم الالتفات كثيراً لهذه الأبحاث. وفي كثير من الأحيان، تجد الحكومات المختلفة، التي تسعى إلى وقف انتشار المعلومات المضللة، أنه من المستحيل حتى الحصول على رد من هذه المنصات، ما لم تقم بحظر وصول هذه المنصات إلى بلدانها.

الوعي هو الحل

أشارت بعض الدراسات إلى أن الحل لمواجهة التحديات الهائلة التي تشكلها منصات التواصل الاجتماعي ربما يتمثل في تشجيع الأفراد على عدم استخدام هذه المنصات والتخلي عنها، وفي هذا السياق تم إجراء دراسة ميدانية على مجموعة من المستخدمين لوسائل التواصل الاجتماعي، بهدف بحث تأثير التوقف عن استخدام هذه الوسائل على الأفراد، وقد أظهرت نتائج الدراسة أن قيام المبحوثين بوقف استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لمدة أسبوعين فقط ساعد في تحسين الرفاهية بشكل كبير لهؤلاء المبحوثين وأصبحوا أكثر سعادة وارتباطاً بمجتمعاتهم، كما أظهرت نتائج الدراسة أن هؤلاء الأشخاص أصبحوا أقل تأثراً بالاستقطابات الحزبية.

مع ذلك، لا يبدو أن هذه الخطوة تشكِّل الحل المثالي، رغم إيجابيتها، إذ لا يملك الكثير من المستخدمين رفاهية اتخاذ قرار بالتخلي عن هذه المنصات والتوقف عن استخدامها، وحتى ولو تمكن البعض من الانفصال تماماً عنها، سيبقى أيضاً متأثراً بارتداداتها على المجتمع المحيط معه.

وبناءً عليه، يبدو الوعي هو الآلية المثلى للتعامل مع وسائل التواصل الاجتماعي، فبخلاف أهمية العمل على تقليل وقت استخدامها، يجب الأخذ في الاعتبار أن هذه المنصات تخفي تأثيرها في المستخدمين، من خلال اعتمادها على تزويد وتدريب هؤلاء المستخدمين على اتباع تفضيلاتها الخاصة، وتوجيههم نحو السياسات والمشاعر العاطفية التي تبتغيها، لكن يتم بث هذه التأثيرات من خلال الأقران والمجتمع المحيط لضمان الفاعلية في تحقيق الهدف. كذا، يجب فهم كيفية عمل عقولنا، حيث تأتي قوة وسائل التواصل الاجتماعي من استمالة آلياتنا العقلية، وأصبحت هذه المنصات متطورة بشكل كبير في فهم العناصر الأساسية لطبيعتنا واستغلالها، لذا يجب على المستخدم فهم طبيعتها والعيوب التي تصاحبها لحمايته ضد التأثير التكنولوجي.

في الختام، تطرح روايات المنشقين عن وادي السيليكون الذين دقوا ناقوس الخطر وكشفوا ما كان يحدث خلف الأبواب المغلقة دعوة إلى ضرورة وقف الخراب الناجم عن الصعود النيزكي والإرث المضطرب لعمالقة التكنولوجيا، الذي أصاب أذهاننا وعالمنا قبل فوات الأوان، خاصة مع ترجيح تفاقم الفوضى خلال السنوات المقبلة، ما لم يدرك مستخدمو هذه المنصات كيفية توظيفها من دون السماح لها في الاستمرار باستغلالنا وتوجيهنا.

*لينك المقال في هسبريس*