في ظل الكثير من التغيرات التي يشهدها النظام العالمي، سواء ما يتعلق بانتهاء عصر القطبية الأحادية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية والتحول إلى عالم متعدد الأقطاب، أم ما يرتبط حديثاً باعتبار عام 2023 من أكثر الأعوام دموية في تاريخ الصراع وفق الأمم المتحدة، بمعدل 183 صراعاً مسلحاً إقليمياً في العالم، وهو الرقم الأعلى منذ 30 عاماً، تأتي قمة المستقبل 2024، التي ستعقدها الجمعية العامة للأمم المتحدة في 22 و23 سبتمبر المقبل، وسط تطلعات بأن تسفر هذه القمة عن صياغة ميثاق جديد قادر على التعامل بشكل أفضل مع تحديات الحكم العالمي، ولاسيما أن الأمم المتحدة وصفت هذا الحدث بأنه فرصة لا تتكرر إلا مرة واحدة في الجيل لتنشيط العمل العالمي، ومواصلة تطوير أطر التعددية لتكون مناسبة للمستقبل.
ومع التحديات التي تواجه القارة الإفريقية، ترتفع التوقعات من هذه القمة، سواء في العمل على تحقيق العدالة المناخية وتحمل الدول الكبرى مسؤوليتها تجاه دول القارة الأكثر تضرراً، أم السعي لإعادة هيكلة المؤسسات المالية العالمية، أو استمرار دعوات المطالبة بالتعويضات والعدالة التاريخية تجاه ما أحدثه الاستعمار من تدمير وتأخر التطور الاقتصادي والسياسي على مستوى هيكل الدولة الإفريقية.
إلا أنه في ظل هذه الطموحات يظل المطلب والسؤال الأكثر إلحاحاً هو هل يمكن أن تحصل إفريقيا على عضوية دائمة في مجلس الأمن مع التمتع بحق النقض من خلال هذه القمة؟
التطلعات الإفريقية لمقعد دائم:
على مدى عقود سعت إفريقيا للحصول على مقعد دائم في مجلس الأمن، وقد بادرت الدول الإفريقية إلى اتخاذ العديد من القرارات منذ إعلان سرت عام 1999 لإصلاح الأمم المتحدة، وما تبعه من إجماع إيزولويني في عام 2005، والذي اعتمده الاتحاد الإفريقي، ومثل آنذاك الموقف الإفريقي المشترك بشأن إصلاح مجلس الأمن والمطالبة بمنح إفريقيا مقعدين دائمين يتمتعان بجميع حقوق وامتيازات العضوية الدائمة، بما في ذلك حق النقض، فضلاً عن خمسة مقاعد غير دائمة. وبالرغم من أن إفريقيا لديها ثلاثة أعضاء منتخبين من إجمالي 10 مقاعد غير دائمة، فإنها لا تملك مقعداً دائماً في مجلس الأمن. ولعل المحاولات الإفريقية لاستحقاق الحصول على هذا المقعد نابعة من عدة أسباب:
1- امتلاك إفريقيا 28% من عضوية الأمم المتحدة: يبلغ عدد الدول الإفريقية 54 دولة من إجمالي 193 دولة عضو في الأمم المتحدة، وهي ثاني أكبر قارة من حيث عدد السكان، ولا تتمتع بمقاعد دائمة في مجلس الأمن، في حين أن قارة أوروبا، التي لا تُمثل سوى 10% من سكان العالم، لديها نصف عدد المقاعد الدائمة، وذلك على الرغم من الأهمية الجيوستراتيجية التي تتمتع بها القارة الإفريقية وما تزخر به من مقدرات.
2- هيمنة القضايا الإفريقية على مجلس الأمن: تهيمن القضايا الأمنية والصراعات في القارة على أجندة مجلس الأمن؛ مما يثير أزمة الشرعية والمصداقية عندما تُتخذ القرارات بشأن هذه الصراعات دون تمثيل كافٍ للمتضررين، فضلاً عن ظهور أزمات جديدة تواجه القارة مثل: التغير المناخي والإرهاب واللاجئين وانعدام الأمن الغذائي؛ علاوة على التحولات المستمرة في النظام الاقتصادي والسياسي واتساع وتيرة التحديات التي تشكل تهديداً للأمن الدولي، فلم تعد الحرب هي التهديد الوحيد الذي يواجه القارة؛ بالشكل الذي يفرض أن تكون إفريقيا مُمثلة في الهيئة التي تناقش حلولاً لهذه القضايا والتحديات التي تعاني منها إفريقيا أكثر من أية قارة أخرى.
3- إخفاق مجلس الأمن في حل الصراعات الإفريقية: شهدت إفريقيا الكثير من الصراعات، ورغم ذلك فلم ينجح مجلس الأمن في حل أو إنهاء هذه الصراعات، بالشكل الذي يمكن معه القول، إنه مع التطور السريع الذي يشهده العالم، أثبتت الهياكل التي تم تطويرها لمعالجة صراعات حقبة الحرب العالمية الثانية أنها غير قادرة على حل الكثير من النزاعات التي تواجه العالم اليوم؛ وهو ما يؤكد الحاجة إلى مجلس أمن ممثل للجميع وسريع الاستجابة وقادر على التصدي للتحديات العالمية المعاصرة. وعندما تأسست الأمم المتحدة في عام 1945، كانت معظم الدول الإفريقية لا تزال تحت الحكم الاستعماري، لذلك واجهت الدول الإفريقية بعد استقلالها حقيقة مفادها أن ميثاق الأمم المتحدة قد أنشأ تسلسلات هرمية مؤسسية تحابي القوى العظمى من خلال العضوية الدائمة في مجلس الأمن، ولا تراعي ضرورة وجود ممثل عن إفريقيا أكثر دراية بالعوامل الثقافية واللغوية والدينية والجذور العرقية التي تُعد من الأسباب الرئيسية في الصراعات الإفريقية.
4- ازدواجية معايير الدول الـخمس دائمة العضوية: تميل الدول الخمس دائمة العضوية إلى وضع مصالحها الخاصة فوق هدف السلام الدولي، فضلاً عن الانتهاكات المتزايدة للمبادئ الأساسية للقانون الدولي وتجاهل القانون الإنساني الدولي في مناطق الصراع المختلفة في إفريقيا وفق مصالح الأعضاء، والتطبيق الانتقائي للمعايير؛ وهو ما أدى إلى تآكل مصداقية النظام المتعدد الأطراف. وقد برز ذلك بشكل واضح في أمرين، أولهما: التناقض في مستوى الاهتمام بالصراعات الإفريقية مقارنة بالأزمات الأخرى، مثل: الغزو الروسي لأوكرانيا والحرب في غزة، في الوقت الذي تعاني منه السودان من حرب أهلية شديدة لم تلق نفس اهتمام مجلس الأمن، وثانيهما: استخدام حق النقض لتعزيز المصلحة الذاتية سواء فيما يتعلق بالنقض الفعلي للقرار؛ أم التهديد باستخدام حق النقض؛ ومن ثم ثني مؤيدي القرار عن طرحه للتصويت من الأساس.
سيناريو غير وارد:
على الرغم من انتقاد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، غياب مقعد دائم للقارة الإفريقية في مجلس الأمن، وتأكيده أن قمة المستقبل ستكون فرصة للمساعدة على إعادة بناء الثقة، وجعل المؤسسات والأطر المتعددة الأطراف التي عفا عليها الزمن متوافقة مع عالم اليوم، على أساس المساواة والتضامن، فإن حصول إفريقيا على مقعد دائم في مجلس الأمن يواجه عدداً من التحديات، يمكن إجمالها في تحديات نابعة من دول القارة الإفريقية نفسها، وتحديات نابعة من الدول الخمس دائمة العضوية، وتحديات نابعة من النظام العالمي بوجه عام.
1- أزمة الاختيار: يمثل الافتقار إلى عملية اختيار الدولة التي ستمثل إفريقيا في مجلس الأمن، وعدم توحدها خلف موقف مشترك جديد، وصعوبة تقديم اقتراحات عملية للقمة بشأن الكيفية التي سوف تختار بها الدول الإفريقية الدول التي ستمثلها كأعضاء دائمين في مجلس الأمن، أحد التحديات الرئيسية لعرقلة حصول إفريقيا على مقعد دائم، فبالرغم من توافق إيزولويني، فإن المجموعة الإفريقية لم تتمكن حتى الآن من تحديد معايير اختيار المرشحين الأفارقة. وذلك في الوقت التي تتطلع فيه الكثير من الدول الإفريقية للحصول على هذه العضوية ومنها: نيجيريا ومصر وجنوب إفريقيا والمغرب والجزائر... إذ ترى كل دولة أحقيتها بالحصول على هذا المقعد والتمتع بما يفرضه من صلاحيات على المستوى الدولي.
2- عرقلة الانضمام من الدول الـخمس دائمة العضوية: بالرغم من أن جميع الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن أعلنوا تأييدهم لزيادة التمثيل في المجلس، بما في ذلك العضوية الدائمة، -فعلى سبيل المثال، أدلى رئيس الولايات المتحدة الأمريكية جو بايدن ببيان في القمة السنوية للجمعية العامة للأمم المتحدة لعام 2022 يدعم فيه زيادة عدد الممثلين الدائمين وغير الدائمين في المجلس إلى جانب المقاعد الدائمة للدول الإفريقية- فإنه عملياً ستعرقل هذه الدول إعطاء أية دولة أخرى عضوية دائمة في مجلس الأمن مع التمتع بحق النقض، وذلك لعدة أسباب أولها: حصول دولة إفريقية على حق النقض قد يعرقل الكثير من القرارات التي تتخذها الدول الـ5 لصالحها، وصالح حلفائها بغض النظر عن مدى إضرارها بالقارة الإفريقية أو توافقها مع السلم العالمي، ثانيها: زيادة مطالبات الدول من القارات الأخرى التي ترى أحقيتها في الحصول على العضوية الدائمة مثل: اليابان وألمانيا والهند والبرازيل... والتي تسعى للحصول على عضوية دائمة، ولاسيما في ظل وجود قارات مثل أمريكا الجنوبية غير ممثلة في العضوية الدائمة، ثالثها: إصلاح نظام مجلس الأمن سيفتح الباب لإصلاح حقيقي للمؤسسات المالية العالمية التي تكرس هيمنة هذه الدول واستمرار تقدمها على حساب الدول النامية، ومنها إفريقيا.
3- معارضة حق النقض: شهدت السنوات الماضية معارضة من قبل بعض الدول والمنظمات غير الحكومية الدولية لحق النقض؛ باعتباره يتناقض مع المساواة في السيادة بين الدول، وهو أحد المبادئ التوجيهية للأمم المتحدة كما هو منصوص عليه في المادة 2 (1) من ميثاق الأمم المتحدة. بالشكل الذي يعني أن إضافة التمثيل الإفريقي الدائم في المجلس قد تلقى هجوماً من المطالبين بإلغاء حق النقض بشكل عام وعدم تمتع دولة به على حساب أخرى.
4- عدم تضمين إصلاح مجلس الأمن في المسودة الأولية: أصدر الأمين العام للأمم المتحدة سلسلة من أحد عشر ملخصاً للسياسات لعام 2024، وطرحها للنقاش وذلك لتكون أساساً للميثاق النهائي الذي سيصدر عن القمة، إلا أن القسم الخاص بتحول الحكم تجاهل معالجة إصلاح مجلس الأمن وضرورة توسيع العضوية الدائمة، بالشكل الذي ينذر أن هذا الموضوع لن يكون مطروحاً بشكل رئيسي للنقاش في القمة، وأنه حتى إذا تمت إضافة أعضاء دائمين في مجلس الأمن فستكون عضويتهم من دون حق النقض.
5- صعوبة تعديل ميثاق الأمم المتحدة: تنص المادة 108 من ميثاق الأمم المتحدة على أن تعديل ميثاق الأمم المتحدة، يتطلب دعم جميع الأعضاء الخمسة الدائمين، وهذا يعني أنه لكي تحصل إفريقيا على مقعد دائم مع حق النقض، فإن ذلك سيتطلب دعم جميع الأعضاء الدائمين الحاليين وأغلبية ثلثي الدول الأعضاء في الأمم المتحدة في الجمعية العامة، وهذا ما يؤكد أنه لن يتم تعديل الميثاق وإعطاء عضوية دائمة لإفريقيا، إلا بعد بناء تحالف داخل الجمعية العامة لتفعيل هذه المادة ووضع مؤتمر مراجعة الميثاق على جدول أعمال قمة المستقبل، إلا أن هذا لم يحدث خلال الشهور الماضية؛ مما يصعب عملية تعديل ميثاق الأمم المتحدة في الفترة الراهنة.
آفاق مستقبلية:
اكتسبت القارة الإفريقية اهتماماً متزايداً من جانب القوى الدولية عقب الحرب الروسية الأوكرانية، بالشكل الذي سعت فيه بعض هذه القوى إلى نقل جزء من صراعها للسيطرة على النظام الدولي إلى القارة الإفريقية؛ ورغم ذلك من غير المنتظر أن يكون هناك قدر كبير من الاستجابة في قمة المستقبل القادمة للتحديات التي تواجه إفريقيا؛ بل من المتوقع أن يتم إبعاد الأولويات الإفريقية عن النسخة النهائية من الميثاق، وذلك رغم أن ناميبيا أحد المسيرين للقمة مع ألمانيا؛ ويرجع ذلك إلى الانقسامات العالمية غير المسبوقة التي تضعف خروج إجماع دولي، وميثاق يشتمل على مواد تسهم في حل الكثير من الأزمات العالمية، التي تعاني منها إفريقيا أكثر من غيرها من جهة، والاهتمام المحدود من قبل الاتحاد الإفريقي بالقمة، وتركيزه على مجموعة العشرين منذ انضمامه لها في عام 2023، والذي طغى على الاستعدادات لقمة المستقبل، فضلاً عن رؤيته بأن هذه القمة لن تختلف كثيراً عن سابقيها من الخروج بنتائج لا يتم تطبيقها على أرض الواقع من جهة ثانية، وإصرار الدول الكبرى على إضعاف إفريقيا واستمرار انقسام دولها، للسيطرة على مواردها الطبيعية والاستفادة من موقعها الاستراتيجي من جهة ثالثة.
إلا أنه مع ذلك، فإن تضمن المسودة الأولية للميثاق قسماً يتناول إصلاح المؤسسات المالية الدولية يمكن اعتباره خطوة ذات دلالة قد تفيد في صياغة نظام اقتصادي عالمي يخدم احتياجات التنمية في إفريقيا على نحو أفضل، على اعتبار أن النظام المالي الحالي أنشأه المنتصرون في الحرب العالمية الثانية مع التركيز بشكل أساسي على خدمة وإعادة بناء أوروبا بدلاً من تلبية احتياجات إفريقيا، التي تمتلك موارد وفيرة خاصة بها. كما أن مصادفة هذا العام أيضاً للذكرى السنوية الثمانين لمؤتمر بريتون وودز، وهي اللحظة التي اجتمعت فيها الدول وسط الأزمة العالمية لإحداث تغييرات في النظام المتعدد الأطراف، تمثل فرصة للتطلعات بزيادة تمثيل إفريقيا في المؤسسات المالية الدولية وإعادة تخصيص حقوق السحب الخاصة لزيادة حصة القارة، والسعي لإنشاء نظام بيئي مالي يدعم التنمية المستدامة والعمل المناخي.
كما قد يوفر عقد قمة المستقبل هذا العام فرصة لوضع استراتيجيات للعودة إلى المسار الصحيح لتحقيق أهداف التنمية المستدامة وغيرها من الأهداف المناخية في وقت كافٍ قبل الموعد النهائي في عام 2030.
ختاماً، رغم تضاؤل فرص حصول إفريقيا على التمثيل الدائم في مجلس الأمن؛ فإن قمة المستقبل قد تمثل فرصة مهمة لإعادة النظر في سياسات العمل الإفريقي المشترك؛ بحيث تكون هذه القمة بداية جادة لموقف إفريقي موحد يمكن استخدامه مستقبلاً لتعزيز مشاركة إفريقيا بشكل حقيقي في الحكم العالمي.