عبَّر تجدد دعوات بغداد للدول التي يحمل جنسياتها المحتجزين في مخيم الهول بضرورة استعادة مواطنيها، عن وجود عدة دوافع، وربما مستجدات، ضاغطة على الحكومة العراقية شكلت أسباباً لإعادة فتح ملف مخيم الهول، وتفعيل مسار إنهاء وجوده مجدداً؛ خاصة وأنها نجحت في استعادة عدد من الأسر العراقية التي وجدت في المخيم، ووضعتهم في مُخيم الجدعة بمدينة الموصل بمحافظة نينوى حتى تتم إعادة تأهيلهم وفقاً لبرامج تأهيل محددة بمساعدة وكالات دولية، وذلك قبل عودتهم لمناطقهم الأصلية.
وفي نوفمبر 2023، تمت استعادة حوالي 192 عائلة من المخيم (776 فرداً). وفي مارس 2024، أعلن قاسم الأعرجي مستشار الأمن القومي العراقي عن عودة حوالي 1924 عائلة (7556 فرداً) منهم 1230 عائلة عادت إلى مناطقها الأصلية طوعاً، وذلك بعد التدقيق الأمني للتأكد من كون العائدين من مرتكبي جرائم الحرب أو ممن غُرر بهم، وبعد تلقيهم عدة برامج للتأهيل النفسي. ووفقاً للأعرجي توجد بالمخيم حوالي 7 آلاف عائلة عراقية.
مُعطيات الموقف العراقي:
يمكن استبيان بعض معطيات الموقف العراقي في هذا الشأن من خلال ما يلي:
1- تزايد التحدي الأمني: إذ يوجد بالمخيم حوالي 20 ألف طفل عراقي تحت سن 18 عاماً؛ ما يجعل من المخيم بؤرة لإعادة إنتاج وتأهيل جيل كامل من الإرهابيين الجدد مستقبلاً، نتيجة وجودهم في بيئة مُتطرفة خطرة. ومن ثم رأت الحكومة العراقية في عملية "تسريع" إعادة دمج عائلات هؤلاء الأطفال مع المجتمع -عبر إعادة تأهيلهم تمهيداً لعودتهم لمناطقهم الأصلية طوعاً- إحدى الوسائل التي بإمكانها منع استعادة تنظيم الدولة قدرته على إعادة إنتاج (تفريخ) عناصر جديدة بعد هزيمته أمنياً ومجتمعياً. ويلاحظ هنا، أن مسار دمج هذه الفئات، لا يزال مساراً معقداً ومتعدد المراحل؛ إذ يتوقف على الآتي:
• حالة الشد والجذب بشأن فكرة القبول بعودة المنتمين لداعش من نساء وأطفال؛ إذ واجهت تلك الفكرة عدة صعوبات؛ نتيجة لرفض بعض مواطني المناطق التي ينتمون إليها تلك العودة.
• مخاوف هذه العوائل نفسها من العودة إلى مناطقها الأصلية خشية انتقام قوات الحشد الشعبي، ولاسيما العائدين لمناطق الأنبار والموصل.
• مدى توافر الجهات المؤهلة لهذه العوائل فكرياً ونفسياً، والتي ترتبط معظمها بدور الدعم الدولي المقدم للحكومة العراقية في هذا الشأن، وتحديداً الذي تقدمه الأمم المتحدة.
• قيام قوات سوريا الديمقراطية "قسد" التي تسيطر على مخيم "الهول" -نتيجة تأخر الدول في سحب مواطنيها من المخيم- بإجراء محاكمات تمهيداً لإدخال من يثبت تورطه من مقيمي المخيم في جرائم إلى السجون؛ وهو ما يؤدي إلى رفع معدلات الخطر في المخيم ويهدد بمزيد من التمرد فيه بما يؤثر في حالة أمن الحدود العراقية السورية.
وتجدر الإشارة إلى التمرد في سجن غويران بالحسكة مطلع 2022؛ إذ تمكن العديد من "الدواعش" من الفرار، ومحاولة الهروب خارج المخيم من قبل المقيمين فيه عبر شبكة أنفاق تم حفرها من داخل المخيم لخارجه، واكتشفت من قبل "قسد" في عام 2022، وهي حوادث تمثل مؤشراً خطراً على حالة استعادة تنظيم داعش نشاطه. هذا كله بخلاف تزايد معدلات الجريمة والقتل والاغتيالات، فضلاً عن الجرائم النوعية التي تقوم بها عناصر داعش النسائية من النساء ذوات الفكر شديد التطرف.
2- الحد من مصادر التهديدات المسلحة عبر الحدود مع سوريا: في هذا الصدد، أشارت تقارير إعلامية أمريكية عن قيام "قسد" خلال فبراير 2024، بعملية أمنية داخل المخيم كشفت عن وجود مجموعة كبيرة من الأسلحة، وعشرات المقاتلين من داعش؛ ما يعنى أن منطقة الحدود العراقية السورية في الشمال الشرقي معرضة لأن تكون مصدراً للتهديدات الأمنية مجدداً، وهنا تتخوف الحكومة العراقية تحديداً من تراجع الرعاية الأمريكية لـ "قسد" على وقع التطورات التي تشهدها المنطقة جراء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة منذ أكتوبر 2023، وانشغال الولايات المتحدة بها.
ومكمن الخطورة هنا أن الولايات المتحدة هي الراعي الرئيسي لقوات "قسد"، التي توفر لها العتاد والسلاح والتدريب، وتراجع الاهتمام الأمريكي بهذه الالتزامات سيؤثر بالضرورة في مستوى التحكم الأمني من قبل "قسد" في مخيمات "الدواعش"؛ بما قد يؤدي إلى ازدياد معدلات انهيار الأمن في المخيم من ناحية، وداخل مرافق الاحتجاز والسجون في شمال شرق سوريا من ناحية أخرى؛ وهو ما ينعكس في حالات الهروب التي تقوم بها عناصر داعش من وقت لآخر.
3- العمليات العسكرية التركية شمال سوريا والعراق: نظرة تركيا لـ "قسد" باعتبارها تنظيماً إرهابياً؛ نتيجة لمساعدتها حزب العمال الكردستاني التركي المعارض، ودعم عناصره المقاتلة الموجودة في منطقة جبال سنجار (نقطة الحدود الثلاثية بين العراق وسوريا وتركيا)، وهي النظرة التي تضع "قسد" ضمن دائرة استهدافات تركيا من آن لآخر؛ بما يقوض دورها في مواجهة تنظيم داعش وحماية مخيمات النازحين فيه واللاجئين إليه من عوائل هذا التنظيم، ويزيد من احتمالات إعادة إحيائه مرة أخرى.
وتزايدت حظوظ هذا الاحتمال مع العمليات العسكرية الشاملة التي قامت بها تركيا في شمال سوريا منذ عام 2016 وحتى عمليات عام 2023 الأخيرة ضد "قسد"، فضلاً عن العملية العسكرية التي تقوم بها في شمال العراق ضد معاقل حزب العمال في جبال قنديل -بموافقة الحكومة العراقية- منذ مارس 2024، واستهدفت بها إنشاء منطقة آمنة داخل شمال العراق بمسافة تتراوح بين 30 إلى 40 كيلومتراً؛ لأن منذ هذه العملية اضطرت "قسد" إلى تخفيض عدد قواتها في منطقة الهول وفي المخيم، وذلك تحسباً لأي تحرك محتمل جديد تقوم به تركيا بالتزامن مع عملياتها المستمرة في شمال العراق. والعمليات التركية بهذا المنطق ستكون سبباً في إضعاف "قسد"؛ وبالتالي تراجع دورها الأمني في السيطرة على المخيمات الموجودة في مناطق الحدود العراقية السورية وأبرزها مخيم الهول.
برامج التهيئة:
1- خطة ثلاثية: وضع العراق على مدار العامين الماضيين خطة "طموحة" لإعادة تأهيل العراقيين الموجودين داخل مخيم الهول السوري، ودعم قدرتهم على الاندماج المجتمعي مرة أخرى، واستطاع إعادة دمج حوالي 1230 عائلة في مناطقها الأصلية مرة أخرى بعد خضوعها لبرامج تهيئة؛ بهدف وقف تحول هذه العناصر إلى إرهابيين جدد، وتحديداً بمنع داعش من تهريب العديد من النساء والفتيان من مخيم الهول للعمل مع التنظيم في العمليات الإرهابية. وقامت هذه الخطة -وفقاً لمصادر- على عدة محاور كالتالي:
• الأول: إجراء حوار وطني في المحافظة أو المناطق التي خرجت منها عائلات "الدواعش"؛ بهدف ضمان قبول إعادة دمجهم في مناطقهم من قبل السكان. وتشرف على ذلك لجان تم تشكيلها في هذه المحافظات والمناطق مهمتها دعم السلم الأهلي وتعزيز قدرة العراقيين العائدين من المخيم على سرعة الاندماج المجتمعي.
• الثاني: تشكيل فريق متخصص للتعامل الفكري والنفسي مع العنصر النسائي الداعشي شديد الخطورة؛ إذ قام العنصر النسائي في مخيم الهول على مدار العامين الماضيين بالعديد من الجرائم، ولاسيما القتل واغتيال نظرائه من النساء اللائي يبدين رغبة في ترك الفكر الداعشي المتطرف، أو اللائي يبدين رغبة في الخروج من المخيم عبر برامج التأهيل.
• الثالث: وضع الأطر القانونية اللازمة لعودة عوائل "الدواعش" لمناطقهم الأصلية (محاكمة الرجال ممن يثبت انتماؤهم وتورطهم في التنظيم، وإتاحة العودة الطوعية أمام النساء والأطفال بعد الخضوع لبرامج الدمج المجتمعي وبرامج التأهيل النفسي).
2- جهد عراقي دولي مُشترك: بدءاً من أغسطس 2022، تم تدشين خطة عمل عراقية دولية مشتركة تستهدف إغلاق مخيم الهول مرحلياً. وذلك عبر تشكيل 4 مجموعات عمل عراقية أممية تشمل المجالات التالية: الأمن والمساءلة للبالغين، الحماية القانونية للأطفال، إعادة التأهيل، إعادة الاندماج والخدمات الانتقالية.
3- مشروع المصالحة المجتمعية: وهو مشروع لإعادة الدمج تابع لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي في العراق، وتم إطلاقه عام 2020؛ ويهدف إلى ضمان عودة آمنة للنازحين إلى مناطقهم وإعادة إدماجهم في المجتمع. والمشروع تم بالشراكة مع وزارة الهجرة ومستشارية الأمن الوطني، ويضم في عضويته قيادات مجتمعية، وشيوخ العشائر في محافظات الأنبار ونينوى وصلاح الدين وديالى (المحافظات التي خرجت منها عائلات الدواعش أثناء حرب التحالف الدولي على تنظيم داعش في العراق).
استجابة الدول:
بالرغم من المطالب الأممية المتكررة للدول التي لديها مواطنين ضمن العوائل الموجودة في مخيمات شمال شرق سوريا ومنها مخيم الهول تحديداً، فإن الاستجابة حتى عام 2020 كانت ضئيلة وبطيئة، ولاسيما الدول الأوروبية تحديداً، لتخوفها من تأثيرات عودة تلك العوائل في حالة السلم المجتمعي بها، لكن ومنذ عام 2023، تسارعت إلى حد ما جهود الدول في استعادة عوائلها ومن بينها (على سبيل المثال لا الحصر):
1- الدول الأوروبية: ظلت حدود إعادة "عوائل داعش" المنتمين للدول الأوروبية قاصرة على عدد محدود من النساء والأطفال اليتامى دون إعادة فعلية للبالغين؛ إذ تواجه أوروبا ضغوطاً من الأمم المتحدة لإعادة البالغين وتقديمهم للمحاكمة، لكن معظم الدول رفضت عودتهم، بل وطالبت بأن تتم محاكمتهم في العراق وسوريا؛ باعتبارها غير ملزمة قانوناً بمحاكمة أفراد قرروا انتهاج التطرف والإرهاب منهجاً لهم بصورة طوعية.
ويلاحظ هنا أن معظم تلك الدول تبني مواقفها من قضية استعادة "عوائل داعش" المنتمين لها وفقاً لمواقف سياسية داخلية تتعلق بكل حكومة على حدة. وقد أعادت كل من ألمانيا وهولندا والدانمارك وكوسوفو وبلجيكا وفنلندا والنمسا وإيطاليا وإسبانيا وبريطانيا عدداً من الأفراد من مخيم الهول ومخيم روج كلهم من النساء والأطفال، وتم إخضاع النساء فقط للمحاكمة. أما فرنسا فقد قررت إعادة الأطفال فقط دون أسرهم.
ووفقاً لتقديرات المركز الأوروبي لمحاربة الإرهاب؛ فإنه تمت استعادة ما بين 20 إلى 30% من "عوائل داعش" في النمسا وبلجيكا وفنلندا وفرنسا وإيطاليا، و18% في إسبانيا وهولندا، و33% إلى 45% للعائدين من النساء والأطفال في ألمانيا وبريطانيا.
واعتمدت تلك الدول على مبادرة الأمين العام للأمم المتحدة؛ بضرورة إيجاد معالجة لوضع أسر التنظيم الباقية في مخيمات شمال شرق سوريا، وعلى منهجية التحالف الدولي لمحاربة داعش في هذا الشأن وهي: مشاركة أفضل الممارسات في جمع الأدلة، ومحاسبة الأطراف المسؤولة، وتكييف تقييمات المخاطر مع احتياجات كل فرد ودولة، وابتكار نهج رعاية يراعي الصدمات التي سيتعرض لها الذين يعاد دمجهم مجتمعياً.
2- بعض دول وسط آسيا: أعادت كل من أوزبكستان وكازاخستان وقرغيزستان عوائلها من منتسبي داعش من مخيم الهول. والأخيرة استعادت منتسبيها بصورة كاملة خلال فبراير 2023، وعددهم 18 امرأة و41 طفلاً.
3- الولايات المتحدة وكندا: منذ عام 2016، أعادت الولايات المتحدة 51 مواطناً، بينهم 30 طفلاً و21 بالغاً، منهم 11 تمت إعادتهم مطلع مايو 2024 الجاري، من الذين أقاموا في مخيمي الهول وروج في شمال شرق سوريا. كما سهلت عمليات إعادة عدد من الأطفال (حوالي 8 أطفال) إلى كندا وهولندا وفنلندا.
4- روسيا: بحلول مايو 2024، أعادت روسيا، وفقاً لمستشارية الأمن القومي العراقي، 32 طفلاً ينتمون لـ"عائلات داعش"، 12 فتاة و20 فتى تتراوح أعمارهم من 5 إلى 17 سنة.
تحديات مستدامة:
بالرغم من تسارع خطوات الحكومة العراقية تجاه استعادة مواطنيها من "عوائل داعش" من مخيم الهول خلال العامين الماضيين، فإن هناك بعض الإشكاليات التي ما زالت تواجه هذا المسعى منها:
1- اعتراضات سياسية: ثمة تباين في مواقف القوى السياسية من موقف الحكومة العراقية بشأن إعادة "عوائل داعش" العراقيين؛ فالعشائر السنية التي تنتمي إليها معظم تلك العوائل في الأنبار ونينوى وديالى وصلاح الدين أبدت استحساناً كبيراً لتلك الخطوة، وتشارك مع حكومة محمد شياع السوداني، في محاولات التأهيل وإعادة دمج من لم يثبت تورطه الجنائي في عمليات إرهابية. لكن القوى الشيعية من قوى الإطار ترفض إلى حد كبير إعادة تلك العوائل، وتضغط على الحكومة الحالية لوقف هذا المسار. فبعض القوى داخل الإطار ترى أن تفكيك "المخيم الأسود" في إشارة إلى مخيم الهول من شأنه التأثير السلبي في الاستقرار في العراق، وتهديد أمنه القومي وسلمه المجتمعي، باعتباره سيخلق خلايا نائمة مرتبطة بالمخيم عبر الحدود السورية العراقية.
2- رفض مجتمعي: الخطة الحكومية لاستكمال مسار استعادة العوائل العراقية من مخيم الهول لم تُواجه برفض سياسي فقط من قبل القوى الشيعية، وإنما تُواجه أيضاً رفضاً مصحوباً بهواجس وتخوفات لدى شرائح عريضة من المجتمع العراقي السني والشيعي على حد سواء. ومن هنا جاء دور العشائر في محاولة تهيئة المجتمعات داخل المحافظات لتقبل مثل هذا الطرح. ويُعد هذا الرفض المجتمعي من أكثر العوائق أهمية أمام الحكومة العراقية؛ لأنه ببساطة سيولد لدى العائدين إحساساً جديداً بالمظلومية المجتمعية من رفض الآخرين لهم؛ مما قد يعيد إنتاج أفراد يشعرون بالحقد والضغينة تجاه غيرهم من أفراد المجتمع؛ الأمر الذي قد يزيد من معدلات الجريمة والعنف داخل المحافظات.
3- استيعاب محدود: يحتاج تأهيل العوائل الداعشية العائدة إلى مؤسسات نوعية قادرة على توفير إمكانات العمل ببرنامج الأمم المتحدة لدمج هذه العوائل في المجتمع، بالتعاون مع المؤسسات الحكومية والمدنية في العراق. وبالرغم من مسار الحكومة المستمر خلال العامين الماضيين في استعادة العوائل، فإن قدرة المؤسسات المتخصصة في شأن استيعاب العائدين تصبح محدودة التأثير في ظل هذا الاستمرار، خاصة وأن نصف المقيمين في مخيم الهول تقريباً من العراقيين؛ نساءً وأطفالاً وبالغين.
بناءً على ما سبق؛ من المُتصور أنه لا يزال من المبكر التوصل إلى إنهاء مشكلة مخيم الهول، في ظل العدد الهائل من "العوائل الداعشية"، وعلى الرغم من المساعي العراقية، فإنه من المؤكد أن حل المشكلة لا يتوقف على الجانب العراقي، ومن جانب آخر، فإن هناك تفاوتاً في مدى إعادة إدماج العائدين في الحياة الطبيعية في بلدانهم، كما يتوقف الأمر على طبيعة الإجراءات من حيث القوانين والبرامج الخاصة بالتأهيل، وهي أيضاً تختلف من بلد لآخر.