كنت دائماً من أشد المؤيدين للسلام العربي الإسرائيلي مع اقتناعي بأن العقلاء في الجانبين يفضلون السلام على المواجهة. ولكن بعد مرور أكثر من سبعين عاماً على النكبة، والتهجير القسري الضخم للفلسطينيين ومعاناة هذا الشعب المكافح، والجهود العديدة غير الناجحة لحل الصراع العربي الإسرائيلي بشكل شامل، لا بد للمرء أن يتساءل: لماذا لدينا هذا الكم الكبير من المحاولات الفاشلة؟ ومن المسؤول عن هذه الإخفاقات؟ حتى إنني في الآونة الأخيرة، بتُّ أتساءل عما إذا كان السلام في الشرق الأوسط ممكناً بالفعل؟
نجاح جزئي وفشل الهدف النهائي:
هل الاختلافات بين الجانبين لم تكن قابلة للتسوية؟ الرد السريع على هذا السؤال هو أن العرب والإسرائيليين كانت لديهم توجهات وأهداف متباينة في تبنيهم للنهج التدريجي الذي ينظم تفاعلاتهم وعلاقاتهم.
هذا النهج التدريجي تبنته مصر والأردن لاستعادة أراضيهما المحتلة، وحاولت كلتا الدولتين خلق ثقة متبادلة بين الإسرائيليين والفلسطينيين لاتخاذ قرارات صعبة مرتبطة بحل القضية الفلسطينية. ومن جانبها، اتبعت منظمة التحرير الفلسطينية هذا النهج التدريجي أيضاً حين وافقت على تنفيذ اتفاقية أوسلو على مدار خمس سنوات، تاركةً القضايا الأكثر حساسية للتفاوض عليها في نهاية تلك الفترة. وكان الهدف من وراء اتباع هذا النهج هو الأمل في أن الثقة المتولدة بين الجانبين من شأنها تسهيل حل هذه القضايا الحساسة بالنهاية. وقد اتبعت إسرائيل هي الأخرى ذات النهج التدريجي، ولكن لتوظيفه كأداة لتقليل التهديدات الأمنية المحتملة، وتعزيز نفوذها في التفاوض، خاصةً من خلال تجزئة الخلافات الكبرى، إلى جانب تأجيل المناورات السياسية الداخلية الصعبة.
لقد حققت هذه الأطراف نجاحات جزئية، أهمها استعادة أراضيها، ولكنها فشلت في تحقيق أهدافها النهائية، سواء أكان الهدف النهائي هو الوقف الكامل للاحتلال، أم إحلال الأمن الدائم. وقد عانت المفاوضات المطولة والتوسع في تنفيذ الاتفاقات بين الجانبين من تغيرات المشهد السياسي المستمرة. وعادة ما كان الجانب الإسرائيلي، وغيره، يُحمّل عبء فشل هذه المحاولات للدوائر الفلسطينية بسبب الاختلافات الواقعة في صفوفها. ومؤخراً، تزعم إسرائيل بأن أحداث السابع من أكتوبر، جعلت احتمالات التوصل إلى حل الدولتين غير مقبولة بالنسبة للأغلبية الساحقة من شعبها. ولا شك في أن هذه الأحداث كانت بمثابة صدمة للإسرائيليين ليس فقط بالنسبة لجسامة الحدث بل أيضاً لافتقار حكومتهم إلى الاستعداد وتأخر الرد على هجوم حماس. في الواقع يمكننا القول إن أحداث السابع من أكتوبر؛ كانت نتيجة مباشرة لجهود السلام الفاشلة والصراع المستمر.
تباين التوجه الفلسطيني والإسرائيلي:
من المثير للاهتمام أنه على الرغم من المعاناة الإنسانية طويلة الأمد التي قاساها الجانب الفلسطيني في ظل الاحتلال الإسرائيلي، فإن الغالبية العظمى من الممثلين السياسيين لهذا الجانب كانت دائماً تتحرك على مر السنين وبصورة مستمرة من أجل التوصل إلى حل وسط، فبعد رفض الفلسطينيين في البداية لقرار الأمم المتحدة رقم 181 الذي دعا إلى خطة تقسيم تتألف من دولة عربية وأخرى يهودية، إلا أنهم الآن يوافقون على أقل من 22% من تلك الأراضي لإقامة وطن لهم. واليوم أعلن بعض قادة حماس عن استعدادهم للتفاوض على حل الدولتين، في أثناء المفاوضات الخاصة بإطلاق سراح الرهائن ووقف إطلاق النار، وبالتالي فهذا يُعد اعترافاً ضمنياً منهم بإسرائيل.
إن هذا التحول الكبير نحو موقف وسطي ازداد تدريجياً، على الرغم من استمرار الأزمة الإنسانية بالأراضي الفلسطينية؛ ويُعد دليلاً ملموساً على أن الخلافات الفلسطينية لم تكن أبداً وحتى يومنا هذا، هي السبب الحقيقي للصراع الدموي المستمر في قطاع غزة والضفة الغربية.
أما على الناحية الأخرى، فإن أغلبية الممثلين السياسيين الإسرائيليين بعيدون كل البعد عن التسوية مع الفلسطينيين. فعلى مدى الخمسين عاماً الماضية، تحول السياسيون الإسرائيليون من اليسار إلى الوسط، ثم إلى اليمين، وأخيراً وصولاً إلى أقصى اليمين المتطرف.
عند إنشاء دولة إسرائيل عام 1948، كان يقود الحركة الصهيونية سياسيون ذوو ميول يسارية، مثل: ديفيد بن غوريون، وموشيه شاريت، وليفي أشكول، وغولدا مائير، وإسحق رابين، من حزب ماباي الاشتراكي المهيمن. وفي عام 1968، اندمج حزب ماباي في حزب العمل. وفي أعقاب هذا الاندماج، تحولت القيادة الإسرائيلية إلى سياسيين ذوي ميول يمينية مثل: مناحيم بيغن، وإسحق شامير، وبنيامين نتنياهو، من حزب الليكود، باستثناء بعض الفترات القصيرة والمتقطعة التي كان يتولى فيها قادة حزب العمل، مثل: شمعون بيريز، وإسحق رابين، وإيهود باراك، رئاسة الوزراء.
ومع بداية هذا القرن، استمرت رئاسة الوزراء في أيدي اليمينيين من السياسيين الإسرائيليين. وشغل هذا المنصب أرييل شارون من الليكود، وإيهود أولمرت من كديما، ونفتالي بينيت من يمينا، وحالياً بنيامين نتنياهو. ونتنياهو هو رئيس الوزراء الإسرائيلي الأطول خدمة، وهو حالياً في ائتلاف مع سياسيين يمينيين متطرفين، بما في ذلك بتسلئيل سموتريتش، وزير المالية، وإيتمار بن غفير، وزير الأمن القومي.
ويُعد هذا التحول السياسي المستمر نحو اليمين مؤشراً واضحاً ومثيراً للقلق على أن إسرائيل تفضل السير نحو شبه الأصولية والاستثناءات اليهودية بدلاً من المضي في طريق التكامل والتعاون. كما أن هذا التحول السياسي أدى إلى عرقلة إمكانية التوصل إلى سلام عربي إسرائيلي شامل، وخاصة مع الفلسطينيين.
تحولات يمينية غير مبررة:
عادة ما تتجه التحولات السياسية نحو اليمين كردات فعل على المخاوف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الحادة التي تنشأ بين أفراد الشعوب. ففي أوروبا، على سبيل المثال، تحولت العديد من الدوائر الانتخابية ذات الميول الوسطية واليسارية نحو اليمين بسبب القلق المتزايد بشأن ارتفاع أعداد اللاجئين، وتغير الهوية الجمعية في أوروبا، وتفاقم القضايا الاقتصادية. ويلاحظ هذا بشكل خاص في بلدان مثل: إيطاليا والسويد، ومؤخراً البرتغال.
ولكن الناظر للأوضاع في إسرائيل سيجد أنها وعلى مدار القرن الحالي لم تتعرض لأي تهديدات وجودية خطرة أو أزمات اقتصادية حادة. بل على العكس، فإن إسرائيل، ومنذ إبرام معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية في السبعينيات من القرن الماضي لم تواجه أية صراعات كبيرة تذكر، سوى بعض الصراعات التي واجهتها بشكل متقطع مع أطراف غير حكومية عبر حدودها مع غزة ولبنان. وكذلك على الصعيد الاقتصادي، فقد شهدت إسرائيل معدلات نمو كبيرة بلغت 8.6%، 6.5%، 3.1%، و3% على التوالي بين الأعوام 2021 و2024؛ مما وضعها بين الدول المتقدمة، في مكان قريب جداً من قمة الهرم، إلى جانب أيرلندا. واستناداً إلى معايير إجمالي الناتج المحلي، فهي تحتل المرتبة 28 بين الاقتصادات الكبرى.
لذا فإن التحولات السياسية نحو اليمين التي تشهدها إسرائيل هي تحولات غير مبررة. ويتجلى التحول نحو اليمين في السياسة الإسرائيلية في التكوين الحالي للكنيست. فعلى سبيل المثال، لا يوجد اليوم أعضاء من حزب ميرتس اليساري، وهو الحزب الذي كان ممثلاً بـ 12 عضواً في أواخر التسعينيات؛ مما يمثل انخفاضاً كبيراً عما كانت عليه الأمور في السابق. أضف إلى ذلك أن عضوية حزب العمل قد تضاءلت هي الأخرى بشكل كبير. وهذا يعني أن الفاعلين ذوي الميول اليسارية وشبه المؤيدين للسلام في إسرائيل، سواء داخل المؤسسات السياسية أم المجتمع المدني، هم في الأساس غير فعّالين عندما يتعلق الأمر بتحديد مستقبل إسرائيل السياسي.
فرص ومبادرات ضائعة:
إن أعضاء الكنيست اليوم يروجون علناً لمواقف تتعارض مع الحل السلمي للصراع. فهم يؤكدون أن الضفة الغربية هي "أرض إسرائيل"، ويدعون إلى ضم مرتفعات الجولان السورية، ويدعمون سياسة الاستيطان التوسعية العدوانية بشكل متزايد. وقد قاموا في الآونة الأخيرة بالدعوة إلى إعادة احتلال غزة مع معارضتهم الشعبية التامة لحل الدولتين. بل إن بعض المسؤولين قد دعموا بجرأة التهجير القسري للفلسطينيين من غزة والضفة الغربية.
والحقيقة هي أن إسرائيل، على مدى أكثر من نصف قرن، كانت تقوم باستمرار بإحباط معظم الجهود والمبادرات الرامية إلى حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. ففي البداية، قامت إسرائيل بإنكار وجود دولة فلسطينية من الأساس، ووصفتها بأنها مجرد أوهام. ثم لاحقاً، اعتمدت إسرائيل بشكل كبير على المخاوف الأمنية لتبرير موقفها. وفي الآونة الأخيرة، تتشبث إسرائيل بأيديولوجيات متشددة؛ مما يعرقل التقدم والتوصل إلى حل للأزمة الحالية.
كان من أبرز الفرص التي أضاعتها إسرائيل اتفاقية كامب ديفيد الإطارية الموقعة في السبعينيات، والتي تزامنت مع معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية. ومن الفرص المبددة الأخرى التي أضاعتها كذلك: مؤتمر مدريد للسلام الذي عقد بالشرق الأوسط في التسعينيات، واتفاقية أوسلو، وقمة بيروت العربية عام 2002، واتفاقيات أنابوليس عام 2008.
ومن المفارقات أنه بعد توصل إسرائيل إلى اتفاقيات مع مصر والأردن، والتوقيع على اتفاقية أوسلو، والتي كانت ستنهي القضية الأساسية، قامت إسرائيل بالانحراف أكثر نحو اليمين. وكان الدافع وراء هذا التحول هو اعتقاد إسرائيل بأن حق تقرير المصير الفلسطيني لا يتوافق مع استمرار سيطرتها على الضفة الغربية.
معضلة الهوية وتحدي السلام:
تواجه إسرائيل اليوم العديد من التحديات على جبهتين أساسيتين ومتداخلتين من أجل تحديد هويتها. الجبهة الأولى، هي جبهة محلية وجودية، تتعلق بما إذا كان ينبغي للدولة اليهودية أن تكون دولة شبه علمانية وليبرالية، أو دولة دينية أصولية، فكلاهما متجذر في اليهودية. أما الجبهة الثانية، الأقل بروزاً وإن كانت لا تقل أهمية بطبيعتها عن الأولى فهي خاصة بعلاقة إسرائيل بالمنطقة حولها، وتتعلق بما إذا كانت إسرائيل تريد حقاً أن تكون جزءاً من الشرق الأوسط، ومدى استعدادها لتبني حلول ومسارات متوافقة مع الشعوب الأخرى في المنطقة حولها.
نحن الآن في الشرق الأوسط نقف عند مفترق طرق. ويتعين على الأطراف الإقليمية جميعها أن تتخذ قرارات حكيمة وشجاعة لمواصلة طريق التسوية والتعايش المليء بالتحديات، بدلاً من الاستسلام لمسار الرضا عن النفس، والذي سيؤدي إلى كوارث لا مفر منها ودوامات من العنف المستمر. وفي حالة اختيار طريق الشجاعة والحكمة، فإنهما لن تكونا كافيتين للأسف. فالمنطقة لن تستطيع التغلب على العقبات القائمة منذ فترات طويلة أو الإبحار في الأخاديد العميقة التي تتطلب حلولاً متعددة الأبعاد. ولذلك فمن أجل منح السلام فرصة حقيقية، يتعين على المجتمع الدولي والأطراف الإقليمية أن يجتمعوا مرة واحدة حاسمة ونهائية لتقديم حلول جوهرية شاملة ذات نتائج محددة تنهي الصراع بالكلية بين العرب وإسرائيل على حد سواء.