ثمة مقولة شائعة في عالم المال والأعمال مفادها أنه "إذا لم يتوافر المال فلا داعي للكلام" (No money..No talk). وتكاد نفس المقولة تنطبق على عالم المناخ وما يرتبط به من مفردات ومصطلحات لا يكف "سيبويه البيئة" عن نحتها من عصب اللغة الخضراء؛ كالاقتصاد الأخضر، والحياد الكربوني، والتحول الأخضر، وغيرها. فلا مشروع يُنفذ من دون تمويل. ومن هنا، كان التمويل الأخضر أحد أهم القضايا المطروحة في قمة "كوب28" بدولة الإمارات.
أهمية التمويل:
يحتاج نشر تطبيقات الطاقة المتجددة إلى تمويل يتناسب وحجم المشروعات، صغيرها وكبيرها، فضلاً عن حاجة الدول النامية محدودة الموارد إلى تمويل مُيسر، إن لم يكن هناك منح تُمكنها من استخدام مصادر طاقة حديثة تسهم في رفع مستوى المعيشة.
كما تحتاج خطط تحسين كفاءة استخدام الطاقة في قطاعات الاستهلاك المختلفة إلى تمويل يراعي مستوى الدخل ومتطلبات مجتمع تتنوع فئاته. أضف إلى ذلك، مصادر تمويل ميسورة الكُلفة للحفاظ على الحياة النباتية والحيوانية، ومكافحة التصحر، وسُبل وقف تدهور الإنتاج الزراعي، وتقلص حصة الفرد من الغذاء.
ولا تقتصر الآثار السلبية لمحدودية مصادر التمويل على اختلال التوازن البيئي عبر ارتفاع نسب ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي فحسب، بل تمتد إلى خلخلة الاستقرار السياسي والاجتماعي في الدول الهشة اقتصادياً. فارتفاع كُلفة فاتورة الغذاء والطاقة، مثلاً، يقلص فرص العمل، ويرفع معدلات البطالة، ويُحمّل موازنة الدولة أعباءً إضافية، فضلاً عن مواجهة موجات تذمر واضطرابات داخلية.
وتشير توقعات الوكالة الدولية للطاقة المتجددة (IRENA)، إلى أن تحقيق تحول الطاقة حتى عام 2050، عبر إنشاء مشروعات الطاقة المتجددة، يتطلب تدبير استثمارات سنوية تناهز 5 تريليونات دولار أمريكي، وكهربة قطاعات الاستخدام النهائي، ونشر تطبيقات كفاءة الطاقة، للوصول لهدف 1.5 درجة مئوية، كما ورد في اتفاقية باريس لعام 2015.
ويأتي هذا في الوقت الذي تنعقد فيه آمال عريضة على دور القطاع الخاص في تغطية الفجوة الناجمة عن محدودية الموارد المالية الحكومية، وإن ألقى ذلك بظلال شك على إمكانية تحقيق أهداف التنمية المستدامة (SDGs)، في حال تراجع الدور التنظيمي للدولة أو هشاشة الهيكل الاقتصادي.
تحديات التحول:
شهد العالم خلال السنوات القليلة الماضية أحداثاً جسيمة ألقت بظلالها على قطاعات التنمية الاقتصادية كافة. فبعد سنوات من التباطؤ الاقتصادي، وتدني معدل النمو العالمي، وما أن بدأت الأسواق تستعيد شيئاً من عافيتها مع حلول عام 2018، حتى باغتها فيروس كورونا المُستجد "كوفيد19" نهاية عام 2019، ليصيب الاقتصاد العالمي في مقتل لنحو عامين متتاليين، دارت فيهما رحى معامل الأبحاث قدر استطاعتها، وكثفت جهودها بحثاً عن لقاح أو مصل يوقف نزيف الأرواح، ويسمح للاقتصاد بجرعات أكسجين تُعينه على الصمود.
وما إن عادت الحياة تدريجياً لوتيرتها وبدأ الاقتصاد العالمي في التعافي، اندلعت الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير 2022، لتضع التضخم حجراً أمام إطارات الاقتصاد الـمُنهكة، ورافعة كُلفة الاقتراض، مما أخرج العديد من مشروعات التنمية من حيز الجدوى الاقتصادية. وصولاً حالياً إلى الأحداث في منطقة الشرق الأوسط مع استمرار الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة، والمخاوف من تداعياتها المُمتدة على مختلف المستويات والمجالات.
ويشبه عالم تجارة الأعمال "ماراثون حواجز دائري"، فما أن تجتاز تحدياً أو حاجزاً، حتى تجد آخر بعد مسافة تطول أو تقصر. أما سبب وصفه بأنه "دائري" وليس "طولي"، فمرجعه أنه لا نهاية لتحديات الاستثمار؛ تُنهي شوطاً لتبدأ آخر، وهكذا.
بالقياس، تشمل تحديات التغير المناخي عدة مخاطر تتعلق بالاستثمار، مثل المخاطر المادية الناجمة عن الكوارث الطبيعية جراء تغير المناخ، كالأعاصير والفيضانات، أو مخاطر ناتجة عن وضع إجراءات التحول الأخضر قيد التنفيذ سواءً استهدفت خفض البصمة الكربونية أم "صفر كربون"، وكذلك مخاطر المسؤولية أو ما بات يُعرف بـ"تعويض الضرر"، والذي كان أحد محاور النقاشات خلال مؤتمر "كوب28"، والذي أُعلن في يومه الأول عن تفعيل صندوق "الخسائر والأضرار" المناخية لتعويض الدول الأكثر تضرراً من تغير المناخ، وفي يومه الأخير تم الإعلان عن "اتفاق الإمارات" التاريخي بشأن التوجه نحو التخلي تدريجياً عن الوقود الأحفوري.
ويظل التحدي متمثلاً في القدرة على صياغة سياسات وإجراءات تسهم في الإسراع نحو التحول الأخضر، تراعي المستويات المجتمعية المختلفة داخل الدول، وتحقق المساواة بين المستخدمين، وألا تنعكس سلباً على ربحية الشركات وتدفقاتها المالية مستقبلياً.
ويحذر "معهد المناطق الحضرية" (Urban Land Institute)، في واشنطن، من أن عدم القدرة على تحديد كُلفة الحياد الكربوني في قطاع العقارات، والذي يسهم بنحو 38% من انبعاثات الكربون، سوف ينعكس مباشرة في المبالغة في القيمة التقديرية لتلك الأصول، مما يؤدي إلى ظهور "فقاعة الكربون". بمعنى وجود آلية لتقييم الشركات اعتماداً على ما تستهلكه من وقود أحفوري، إذ تمنح الشركات ذات البصمة الكربونية الأقل سمات تفضيلية عن نظيرتها الأكثر اعتماداً على الوقود الأحفوري.
وما يسري على قطاع العقارات، يسري أيضاً على قطاعات استهلاك الطاقة الأخرى، ومن ثم فإنه حال شروع القطاع الحكومي في تنفيذ إجراءات مُلزمة للتحول الأخضر، يمكن أن تنفجر الفقاعة، وتتهاوى الأسواق، مما يحول دون تدبير الاستثمارات اللازمة.
ويشير إصدار إبريل 2023 من تقرير "مؤشر التمويل الأخضر العالمي"، الصادر برعاية مؤسسة "سوق أبوظبي العالمي"، إلى أهمية الاهتمام المتزايد بتسعير وتجارة الكربون باعتباره آلية فعالة لمعالجة قضايا انبعاثات غازات الدفيئة.
نظرة مستقبلية:
مع ارتفاع تقديرات كُلفة مكافحة تغير المناخ إلى نحو 150 تريليون دولار حتى عام 2050، تبنت العديد من مؤسسات التنمية تخصيص ميزانيات للتمويل الأخضر، منها البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة (UNDP)، وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP)، والبنك الدولي، ومؤسسات التنمية المالية مثل الوكالة اليابانية للتعاون الدولي (JICA)، والوكالة الدنماركية للتعاون الدولي (DANIDA)، وغيرها بهدف تحقيق أهداف التنمية المستدامة.
ومع هذا، يطل تحديان رئيسيان؛ الأول توفير أوعية تمويل متنوعة من حيث قطاعات الاستهلاك، وحجم المشروعات، مع إيلاء الدول الهشة اقتصادياً وتلك الناشئة أولوية الحصول على قروض منخفضة الكُلفة. وهو توقع محل شك مع ارتفاع معدلات التضخم خلال العامين الماضيين، ووصولها إلى نسب قياسية في أوروبا والولايات المتحدة، إذ بلغت في نهاية العام الماضي 6,4% و8,0%، على الترتيب؛ الأمر الذي يصعب معه تدبير تمويلات خضراء مُيسرة. وعليه، سوف تجد الدول نفسها أمام تكاليف عالية تجبرها على الاكتفاء بتنفيذ المشروعات ذات الضرورة القصوى، وإرجاء ما عدا ذلك، بمعنى وجود "سوق انتقائية" تتحكم فيها محفظة التمويل.
أما التحدي الثاني، فيكمن في تأهيل الكوادر البشرية في الدول النامية والناشئة، لإدارة القروض واقتناص الفرص الاستثمارية، خاصةً مع أسواق تتسم بالديناميكية والسيولة، ومن ثم، تأهيلهم لخفض مخاطر الاستثمار.
ختاماً، لعل ما أُعلن عنه في ختام مؤتمر "كوب28"، وخاصةً ما يتعلق بتفعيل الصندوق العالمي المختص بمعالجة تداعيات تغير المناخ، وحشد تعهدات تمويلية جديدة تفوق 85 مليار دولار، وإطلاق صندوق "ألتيرّا" للاستثمار المناخي وهو أكبر صندوق عالمي خاص لتحفيز استثمارات العمل المناخي يركز بنسبة 100% على حلول تغير المناخ؛ وغيره من الإنجازات، يمثل خطوات مهمة قد تُحول الآمال المعقودة قبل هذا المؤتمر إلى واقع منظور ومختلف، وأن يصبح هدف اتفاقية باريس 2015، لوقف ارتفاع درجات الحرارة وألا تتجاوز حاجز 1,5 درجة مئوية، أكثر واقعية.