مع أن لكل صراع مصادره وأسبابه ودورة حياته الخاصة به، فإن هناك منظومة أو نسقاً للصراعات القائمة في كل منطقة في العالم. وأحياناً، تمتد هذه المنظومة لتتفاعل مع صراعات في مناطق أخرى. وتستند منظومة الصراعات في منطقة ما إلى عدة عوامل، فتزداد التأثيرات المتبادلة ببعضها بعضاً عندما تكون هناك قوة إقليمية مشاركة أو لها تأثير قوي في أكثر من صراع. وتزداد التأثيرات المتبادلة أيضاً عندما تكون أطراف الصراع "فاعلين من غير الدول"، فمثل هذا النوع من أطراف الصراع عادةً ما يرتبط بدولة أو أكثر توفر له الدعم المالي والسلاح والتدريب. كما تزداد التأثيرات المتبادلة وفقاً لطبيعة القضايا محل الصراع، وهل تقتصر أهميتها على الأطراف المباشرة للصراع، أم تمتد إلى دائرة أوسع من الدول والشعوب؟
العامل الإيراني:
تتوافر كل هذه العوامل في حالة الحرب الدائرة بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية وعلى رأسها حركة حماس في قطاع غزة. فإذا بدأنا بالعامل الأول والخاص بوجود دولة لها تأثير في أكثر من صراع إقليمي وتقوم بتوظيف وضعها للربط بين هذه الصراعات، فإن ذلك ينطبق على إيران، التي تمتلك نفوذاً في أكثر من بؤرة صراع في المنطقة العربية، وقامت باستخدام هذا النفوذ للتأثير في القتال في حرب غزة، وذلك من خلال تحريك جبهات أخرى ضد إسرائيل.
وظهر ذلك في جنوب لبنان، عندما قام حزب الله بعمليات عسكرية ضد الجبهة الشمالية لإسرائيل، تضمنت استخدام المدفعية والصواريخ والطائرات المُسيَّرة، وأجبرت تلك العمليات إسرائيل على إخلاء مستوطناتها حوالي 5 كيلومترات من الحدود اللبنانية. ومن سوريا، انطلقت صواريخ اتجاه أهداف إسرائيلية في الجولان المُحتلة، واتهمت إسرائيل مجموعات الحرس الثوري الإيراني الموجودة في سوريا بتدبير هذه الأحداث، وقامت بضرب مطاري دمشق وحلب، وإخراجهما من الخدمة لعدة أيام.
كما أعلنت مليشيا الحوثيين، يوم 31 أكتوبر 2023، أنها أطلقت مجموعة كبيرة من الطائرات المُسيَّرة على عدة أهداف في إسرائيل، وهددت بمواصلة تنفيذ عملياتها العسكرية ضد إسرائيل بسبب التصعيد في غزة.
وأشعلت الحرب في غزة أيضاً، الهجمات ضد الولايات المتحدة، وهي الحليف الرئيسي لإسرائيل والتي وفرت لها مختلف صور الدعم السياسي والعسكري والمالي، واستخدمت حق النقض أكثر من مرة في مجلس الأمن الدولي لمنع صدور قرار بوقف إطلاق النار. فقامت المليشيات الموالية لإيران في العراق بتوجيه ضربات صاروخية تجاه قاعدة "عين الأسد" في محافظة الأنبار، وقاعدة "حرير" الجوية بإقليم كردستان. وهو ما حدث في سوريا أيضاً ضد قاعدة التنف بالقرب من المثلث الحدودي. وحسب بيان وزارة الدفاع الأمريكية، فإنه خلال الفترة من 17 إلى 26 أكتوبر الماضي، تعرضت القواعد الأمريكية لـ16 هجوماً، 12 منها في العراق، و4 في سوريا. وفي اليوم التالي لصدور هذا البيان، أغارت الطائرات الأمريكية على منشأتين عسكريتين في شرق سوريا يستخدمهما الحرس الثوري الإيراني وجماعات موالية له.
والعامل المشترك الذي يجمع بين الصراعات السابقة، هو إيران التي تستطيع التأثير في الأطراف الموالية لها. وكما يظهر حتى الآن، فإن طهران لا ترغب في تحويل الأمر إلى معركة مفتوحة مع تل أبيب، أو أن تتداعى الأحداث بالشكل الذي يدفعها إلى التدخل مباشرة. والأرجح، أن الحسابات الإيرانية تصب في أن مثل هذه المعركة ليست في مصلحتها، وأن الرسائل التي تبعثها من خلال الأطراف الموالية لها هي للضغط على إسرائيل للإسراع لوقف إطلاق النار. وهو ما تجلى أيضاً في الاتصالين الهاتفيين اللذين أجراهما وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبداللهيان، مع كل من نظيره المصري، سامح شكري، في 23 أكتوبر الماضي، ونظيره السعودي، الأمير فيصل بن فرحان، في 29 أكتوبر الماضي، واللذين دارا حول ضرورة عدم التصعيد، ووقف العدوان الإسرائيلي على غزة. ويؤكد ذلك أيضاً، عدم تعرض البحرية الإيرانية للناقلات المارة عبر مضيق هرمز والتي تنقل خُمس استهلاك العالم من النفط والغاز الطبيعي المُسال.
ويبدو أن واشنطن هي الأخرى لا ترغب في توسيع دائرة الحرب الحالية، والذي يمكن أن يورطها في تدخل عسكري مباشر، وهو ما تتحاشاه الاستراتيجية الأمريكية في ضوء خبراتها البائسة في أفغانستان والعراق. وهنا فإن إرسال الولايات المتحدة لحاملتي الطائرات "جيرالد آر فورد" و"أيزنهاور"، وإعلانها يوم 26 أكتوبر الماضي زيادة قواتها في قواعدها العسكرية بالمنطقة بـ900 جندي، ثم الإشارة يوم 31 أكتوبر الماضي إلى أنها سترسل 300 جندي إضافي؛ هو بهدف ردع إيران عن التدخل العسكري.
ويزيد من تأثير الحرب في قطاع غزة على الصراعات الأخرى في المنطقة، أن الطرف الفلسطيني المقاتل "فاعل من غير الدول"، وهو نمط من الفاعلين الذين تزداد أهميتهم في تحليل العلاقات الدولية سواءً من الفواعل التي تقوم بأدوار سياسية وإغاثية مثل الصليب والهلال الأحمر ومنظمة العفو الدولية، أم تلك العنيفة المسلحة على غرار القاعدة وداعش والتنظيمات المماثلة لهما.
وبالنسبة للفاعلين العنيفين، فإننا إزاء فاعل يمتلك قدرات عسكرية وقد يسيطر على أجزاء من أرض دولة ما، ولكنه ليس دولة ولا يمتلك جيشاً نظامياً، وتكون له مصادر دعمه المالي والعسكري من مصادر خارجية وداخلية. ويتنوع الفاعلون العنيفون من غير الدول في المنطقة العربية في فلسطين وسوريا والعراق واليمن وليبيا والسودان والصومال، وتنشأ علاقات تعاون بينهم، وقد ينتقل بعض المقاتلين من تنظيم لآخر ومن بلد لآخر، بحكم تقارب ظروفهم وأهدافهم.
تأثيرات ممتدة:
جاء تأثير الحرب في غزة على الصراعات الأخرى في المنطقة؛ بسبب أهمية القضية الفلسطينية في العقل والوجدان العربي. فهي حسب التعبير الأثير "القضية المركزية" للعرب، أو على حسب تعبير الرئيس المصري، عبدالفتاح السيسي، "قضية القضايا"، وهي قضية عاشت أحداثها وتطوراتها أجيال متتالية من العرب.
وبسبب الطبيعة الخاصة للقضية الفلسطينية، فإن لها أبعاداً تتجاوز الشعب الفلسطيني. فهناك البعد العربي الذي يربط بين الشعوب التي تجمعها اللغة والتراث والتاريخ، والبعد الإسلامي الذي يشمل نطاقاً أوسع يضم إيران وتركيا وباكستان وإندونيسيا، وبعد حقوقي قانوني دولي يتعلق بتطبيق القرارات الصادرة عن الأمم المتحدة والتي أكدت أن إسرائيل تمثل قوة احتلال في الأراضي الفلسطينية، وأن الحل يكمن في إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية على الأراضي المحتلة في عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
هناك إذن ترابطات وتأثيرات متبادلة بين الصراعات في المنطقة العربية والشرق الأوسط، بل يمكن القول إن حرب غزة الراهنة قد أثرت أو تم استخدامها وربطها بصراعات أخرى في العالم. وبالتالي لم تقتصر تأثيرات حرب غزة في الصراعات بالمنطقة العربية، وإنما امتدت إلى ما وراء ذلك بكثير. فأشارت تقارير إسرائيلية وغربية إلى استخدام مقاتلي حركة حماس لأسلحة من كوريا الشمالية، وأنها وصلت إلى أيديهم من خلال إيران، وتم الإعلان عن ذلك في وقت بدأت فيه طائرات من كوريا الجنوبية واليابان والولايات المتحدة، يوم 22 أكتوبر الماضي، بمناورات شاركت فيها قاذفة قنابل نووية أمريكية.
وقام الرئيس الأمريكي، جو بايدن، بالربط بين حرب غزة والصراع في أوكرانيا، واعتبر أن الاثنين يمثلان تهديداً للأمن القومي الأمريكي، وأن انتصار إسرائيل وأوكرانيا هو لصالح ازدهار الإنسانية وتقدمها، وشمل الطلب الذي تقدم به إلى الكونغرس توفير معونات إضافية إلى كل من إسرائيل وأوكرانيا. وثمة تأثير مخالف، وهو تحول اهتمام وسائل الإعلام والرأي العام الدولي من أوكرانيا إلى حرب غزة، والتي أصبح لها الصدارة في نشرات الأخبار والمواقع الإخبارية وأدوات التواصل الاجتماعي، وتوارت إلى حد كبير أخبار الحرب الدائرة في أوكرانيا.
وفي المقابل، كانت روسيا ضمن قائمة الدول التي تبنت مشروع القرار العربي المُقدم إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، والذي وافقت عليه 120 دولة يوم 27 أكتوبر الماضي، ثم دعت وفداً من حماس وإيران إلى موسكو لإجراء مباحثات، الأمر الذي دعا إسرائيل إلى تقديم احتجاج إلى السفير الروسي في تل أبيب. وفي خطاب للرئيس فلاديمير بوتين يوم 30 أكتوبر الماضي، اتهم النخب الحاكمة في الولايات المتحدة بأنها مصدر الاضطراب الذي يعيشه العالم، وأنها تقف وراء "الفوضى القاتلة" التي تجتاح منطقة الشرق الأوسط.
الخلاصة، إن صراعات المنطقة العربية والشرق الأوسط متداخلة ومتقاطعة ويؤثر أي تحول نوعي في أحدها على بقية الصراعات الأخرى، بل وقد يكون التأثير كما رأينا في أزمات وصراعات تبعد عن المنطقة آلاف الأميال.